توجد مسألة المواطنة في مركز اهتمامات الشارع المغربي والنخبة المغربية على السواء. نجدها حاضرة في خطاب الدولة ومخطّطاتها التنموية، وفي خطابات الأحزاب وبرامجها، وعند النقابات والمنظمات والجمعيات المدنية... ومع ذلك، يمكن التأكيد على أن هذا المفهوم، بكل ما يحمله من دلالات اجتماعية وتاريخية، ظلّ مهمّشا عن دائرة البحث والتحليل. يكفي الرجوع إلى آلاف الصفحات التي سوّدها إرثنا التاريخي لنتأكد من أن الاهتمام بالتاريخ «السياسي» يفوق بكثير الاهتمام ب «التاريخ الاجتماعي»، و ليتّضح لنا أنّ مفهوم «المواطن» و«المواطنة» حديثا العهد في لغتنا السياسية. إذا كانت «المواطنة»، أولا و قبل كل شيء، تجربة تاريخية، وصيرورة اجتماعية عايشتها «أوربا» الحديثة بمدّها و جزرها، فإنّ علاقتها بتاريخنا الطافح بالاستبداد السياسي غير مؤكدة...هذه «الفكرة» رغم تقريريتها وبساطتها، يغفل عنها أو يتغافل عنها الكثير ممّن يقفز على وقائع التاريخ. وعلى هؤلاء الذين يتوهّمون في «تاريخنا» أشياء لا عهدة له بها، أن ينصتوا لهذه الوقائع، ويعودوا إلى كل الكتابات السياسية التي عرفها المغرب، فلن يجدوا شيئا اسمه «المواطنة»، و لن يعثروا على أدنى أثر لأي «مواطن» افتراضي أو حقيقي. إن هم عادوا إلى مدوّنات «الفقهاء» وسياساتهم الشرعية، وما أكثرها، فسيجدون المخاطَب هو «المسلم». والفرق بين «المسلم» و«المواطن»، فرق «نوعي». إذ المواطنة الحديثة هي انتماء للوطن وليس للدين، والوطن يتّسع لكل عباده المؤمنين وغير المؤمنين، دونما تكفير ديني أو إقصاء إثني...وإن هم عادوا إلى كتابات أدبائنا وإخباريينا فسيجدونهم يستعملون بلا كلل ولا ملل، كلمات «الرعية» و«العامة»، بل وأحيانا عبارات تحمل معها أكثر من دلالة، من قبيل «الرعاع» و «السواد» و«الجراد» و«السوقة»، وقس على ذلك. ومرّة أخرى، الفرق بين «الرعية» و«المواطنة»، هو الفرق بين الاستعباد و الحرية، بما أنّ «الإرعاء» يتأسّس على مبدأ «التملك» الذي يجمع الراعي بالرعية، في حين تفترض «المواطنة» استقلالية المجتمع المدني عن الدولة السياسية. الرعية جمْع و «قطيع» لا مفرد له، بينما «المواطن» هو تحديدا كائن «فرد» مستقل داخل مجتمع يحتكم لقوانين و مؤسسات...و حتى إن هم عادوا إلى كتابات «فلاسفتنا» الغرباء، عن أنفسهم وعنّا، فسيجدونهم يتحدثون عن «الإنسان» و كمال النوع الإنساني و الإنسان «العاقل»، ومرّة أخيرة ، هناك فرق بين «الإنسان» كما حلم به الفلاسفة، و «المواطن» كما صنعه التاريخ، كحدث اجتماعي و تاريخي... لا يتعلّق الأمر هنا فقط بتاريخنا «القديم»، بل يسري أيضا على تاريخنا القريب. فعبثا تبحث في ما يسمّيه البعض ب»المشاريع الدستورية» التي عرفها المغرب بداية القرن العشرين عن تعبير واضح لمفهوم «المواطنة». (لم يرد لفظ المواطن و المواطنة، و لو مرّة واحدة، في كلّ هذه المشاريع التي ليس لها من الدستور غير الاسم). وعبثا تبحث عن بلورة لمفهوم «المواطنة» في أدبيات الحركة الوطنية، هي التي انشغلت، و لذلك ما يبرّره، باستقلال البلاد وب»الأمّة المغربية» أكثر من انشغالها بمواطن لا يزال في حيّز الافتراض. واليوم، من نحن؟ «رعايا» أم «مواطنون» ؟ أيّ ضابط يحدّد العلاقة بين «الحاكم» و «المحكوم»؟ هل هو مبدأ «الإرعاء»، وما يتطلّبه من طاعة و انصياع أمام جبروت السلطة؟ أم تراه يكون مبدأ «المواطنة»، و ما يفرضه من حقوق وواجبات ترعاها ما يدعوه الجميع بدولة الحق و القانون؟ ليس الشأن الاجتماعي بالمعطى البسيط، ولا هو بالمعادلة الحسابية البسيطة، خاصّة في ظل مجتمع، مثل مجتمعنا، يعيش يوميا، طوعا أو قسرا، مخاضا انتقاليا عسيرا من الإرعاء إلى المواطنة، من الرعية إلى المجتمع المدني، من هيمنة الجماعة إلى استقلالية الفرد، من «الزاوية» إلى الحزب، من الأشخاص إلى المؤسسات، من مفهوم الحريم إلى المرأة المستقلة، من القبيلة إلى الطبقة الاجتماعية، من الجهاز المخزني إلى الإدارة العقلانية، من الدولة السلطانية إلى الدولة الحديثة، من الاستبداد إلى الديمقراطية... إنّ الصيغة المستعملة «من ... إلى ...» تعني أنّ الأمر يتعلق فعلا «بصيرورة» بكل المعنى التاريخي للكلمة، كما تفترض ضمنيا أنّ الدولة الحديثة، وما تستتبعه من «مواطنة» لم تتحقّق بالكامل، وأنّ الدولة السلطانية، وما تفرضه من «إرعاء» لم تنسحب تماما. فبقدر ما تثبت الأولى قدميها بقوة التاريخ، بقدر ما تندثر الثانية إلى زوال. ومن هنا صعوبة فك الخيوط الرقيقة لهذا الانتقال الذي لم يكتمل بعد، وضبط قطائعه البطيئة، ورصد التحولات غير المرئية أحيانا التي تعتمل داخله. و من هنا أيضا، صعوبة البحث (وبالأحرى إصدار حكم في موضوع) تتغير معطياته باستمرار: بنيات وعناصر قديمة تموت، وآليات جديدة تفرض نفسها، تارة يحالفها النجاح، وتارة يكون الفشل نصيبها...