رأى "دانتي"Dante في الجحيم قيصرا مسلّحا إلى جانب ملك الشعراء. أمّا نحن الذين نعيش في المغرب، فقد رأينا قياصرة آخرين يمشون بخطى دينية و يدّعون بعد أن تسلّحوا بالدين الإسلامي أنّهم مربّو المجتمع و المؤتمنون على ضميره، و أنّهم الفلاسفة الملوك الذين سيعلّمون الشّاعر و العالم و السينيمائي و الطبيب و المهندس و الموسيقار و الرياضي و العامل و الفلاح الحقيقة المشتركة لوجودهم. و بالفعل، لم يحدث أبدا، منذ أن وُجدت كلمة "تربية" أن رأينا مثل هذه الوفرة من المربين الذين سلّطهم سيد الكون على هذا البلد الأمين. يفترض هؤلاء القياصرة الجدد أنّ الإنسان الكامل و المزدهر في جميع المجالات لا يمكن أن يقيم إلاّ داخل حزبهم العليم و المعصوم الذي يحتكر حق تربية الشّعب. هكذا يكون الحزب تشخيصا لكمال النّوع الإنساني، و هو في واقع الأمر لا يعدو أن يكون تحقيقا لأعتى نماذج الرّقباء الذين طالما سخر منهم ماركس الشاب حينما كتب يقول: " أتطالبوننا بالتواضع و أنتم تحوّلون بكل وقاحة بعض خدام الدولة إلى جواسيس على القلوب، إلى رجال علم و فلاسفة و لاهوتيين و سياسيين. غاية الوقاحة هي أن تنسبوا كمال النوع لأفراد ناقصين وأن تعتقدوا أن مؤسسات دولتكم لها من القوة ما يكفي لتحويل بشر ضعيف و موظف بسيط إلى قديس يتوهم المستحيل أمامه ممكنا. تطلبون من محرّري الصحافة اليومية أن يكونوا أناسا لا عيب فيهم على الإطلاق، و تشترطون "العلم و الكفاءة" كضمانة أولى لهذه النزاهة، غير أنكم لا تبدون أدنى شك حول علم و كفاءة "الرقيب" الذي يصدر حكمه السديد على معارف و كفاءات شتى. إذا كان يوجد في دولتكم مثل هذه الكوكبة من العباقرة الشموليين الذين تعرفهم الحكومة، فلم لا ينتجون أدبا ؟ و بدل اللجوء إلى الرقابة لوضع حد لأخطاء الصحافة، لن يكون على هؤلاء الموظفين الأقوياء بعددهم و الأشد قوة بعلمهم و عبقريتهم إلا أن يثبوا وثبة واحدة حتى يسحقوا تحت ثقلهم هؤلاء الكتّاب البؤساء الذين لا يمارسون إلا نوعا أدبيا وحيدا، و دون أن يُعترف لهم رسميا بأي كفاءة. لماذا يلزم هؤلاء الدهاة الصمت، بينما يمكنهم على غرار "إوز" روما إنقاذ "الكابتول" بنقنقتهم ؟ إنّ احتشامهم مُبالغ فيه، فالجمهور الأدبي يجهلهم، لكنّ الحكومة تعرفهم. وإذا كان هؤلاء الناس من العبقرية بحيث يصعب على أي دولة أن تجد مثلهم ? ذلك أنه لم يحدث أبدا أن عرفت دولة ما طبقات بأسرها تتكون من عباقرة شموليين وموسوعيين? فما أدراك والحال هذه بعبقرية الناس الذين يختارونهم؟وما أدراك بعلمهم السحري الذي يسمح لهم بتسليم شهادة كفاءة شمولية لموظفين مجهولين في "جمهورية الآداب" ؟..." تلك فقرة معبّرة من مقالة مطولة نشرها "كارل ماركس" سنة 1843 في الصحافة "الرينانية " بعنوان "ملاحظات حول الرقابة البروسية"، يسخر فيها من الرقابة و يتهكّم على "الرقيب" الذي يحشر أنفه في كل علوم الدنيا و الآخرة وآدابهما ليقرّ ما يصلح للناس قراءته أو مشاهدته وما لا يصلح. تبدو كلّ نماذج الرقابة التي عرفها التاريخ البشري مقارنة مع ممارسات إسلاميينا و كأنّها قمّة الليبرالية. فبعدما تحوّلوا ببركة الله إلى "علماء"، خلق هؤلاء البشر الضعاف، وسندهم الثقافي الوحيد هو بطاقة الحزب ميكانزمات واسعة لإعادة التربية، ميكانزمات اجتاحت كلّ شيء، فأقحموا الدين الإسلامي في جميع الميادين بحماس لا يُضاهى خاصّة و أنّهم فقدوا ملكة تثمين القيمة الحقيقية لأيّ مفكّر أو باحث أو فنّان في مجاله الخاص. إنّ هؤلاء المربين الأميين، بعد أن سكروا بعبارات فقهية و"طلسمية" أصبحوا يطالبون الأدباء والفنانين و الفلاسفة...الخ بالامتثال لأحكام الدين وأوامر الأخلاق، أي أن ينكر هؤلاء المبدعون قناعاتهم الخاصة ليمجّدوا تصوّرات أسطورية يحتكر هؤلاء المربين الجُدد علمها و يحفظون بكلّ غيرة سرّها. و لكن، أشد ما أخاف منه ،هو أن يتوهم هؤلاء القياصرة الجدد أنهم يقدمون خدمة جليلة للمجتمع و الدولة بفرض ما يرونه صراطا مستقيما. و هم بذلك إنما يضرون المجتمع و الدولة من حيث لا يحتسبون. إنّ من يخدم المجتمع و الدولة، و لا ينتظر جزاء و لا شكورا، هم بالضّبط كلّ المبدعين الذين لا يحتكمون في عملهم لغير صوت ضميرهم و ما يمليه عليهم إبداعهم دونما خضوع لأي مساحيق أخلاقية لا يمكنها أن ينطلي نفاقها إلاّ على بلهاء مسطّحين .