ماذا يعني الإسلام من زاوية نظر التحليل النفسي؟ أليس في المسألة مغامرة خطيرة لاعتبار بسيط وهو أن تأويل النص الديني يشكل خطرا؟ أليس مساوقا للدين منذ بدايته؟ هنا يكون الخطر مخاطرة يركبها الباحث فتحي بن سلامة ليس فقط في وضع النص الديني داخل مختبر التحليل النفسي فحسب، بل في مسألة العلامات الدينية التي تظهر بقوة في الفضاءات العمومية، الحجاب، طالبان، الإرهاب... وما تروّجه القنوات الإعلامية من تنميط جاهز للإسلام. هل هي عودة الدين إلى المجال العمومي؟ أم هل الدين شكّل في الراهن العالمي موضوعا للبحث الفلسفي والعلمي معا؟ وإن كانت مترجمة الكتاب، رجاء بن سلامة، ترى عكس ذلك في مقدمتها للكتاب برأيها الدال على عودة الدين متساءلة: هل كان مختفيا ليعود من جديد؟ معترضة على هذا التصور المروج إعلاميا وثقافيا في أوربا والعالم العربي. معتبرة أن الدين كان حاضرا في الماضي والحاضر، في الأرشيف والذاكرة بتعبير جاك دريدا. لكن ما الذي نستطيع الخروج به من قراءتنا لهذا الكتاب؟ أليس البحث في سوسيولوجيا الدين أو في أنثروبولوجيته أقرب من تأطير الديني في الراهن العربي والعالمي؟ بمعنى ماذا تضيف المقاربة التحليل نفسية للمقاربات الأخرى؟ يبدو أن هذه الأسئلة مبنية على تصور مسبق وحاضر. والمتمثل في تغييب البحث السيكولوجي في الجامعة المغربية والعربية كذلك، أي أننا لم نخلق تقليدا جامعيا في هذا المجال، بينما نجد تراكما ولو ضئيلا في الأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا والفلسفة، ونجد ضعفا في مجال التحليل ? النفسي. قد نقول إن العرب- وإلى حد قريب- يخافون من التحليل النفسي. كما لو كان فزاعة تطرد المهتمين والجمهور معا. أليس في الأمر نوعا من كشف الحجاب، وخرق الأنا وتعرية الأب. أليس هذا الخوف هو خوف ثقافي، ولأنه كذلك تم تغييبه . حتى في دراسات أباء التحليل النفسي ومن ضمنهم فرويد، لم يهتموا بالدين الإسلامي، ربما لأنه غير موضوع في اهتمامهم العلمي، أو ربما أن الدين الإسلامي كان موضوعا للاستشراق أكثر من كونه موضوعا علميا في مجال التحليل النفسي مثلا. هل الباحث من هذه الناحية، يريد أن يتمم ما تركه أباء التحليل النفسي؟ أم أن المسألة أكبر من ذلك وهي في نظرنا تروم إلى الترويج الإعلامي لصورة الإسلام، وهي الصورة التي أخذت في الراهن العالمي دلالات متعددة، تحملها علامات واضحة كالحجاب، والمرأة، والإرهاب... إلخ. إنها الصورة التي استقطبت مجموعة من الباحثين والمفكرين والفلاسفة للنظر فيها. ولعل موضة «الإسلام السياسي» والمضاعفات التي تركها على مستوى الخطاب والتنظير، والكتب التي تم نشرها في العقدين الأخيرين من القرن الماضي لدليل على وجهة نظرنا. بمعنى أن مهمة الباحثين المنتمين إلى الدين الإسلامي، مطلوبون للدفاع عن الإسلام عبر مقاومة التأويلات النهائية. أو ما تسمى بالتأويلات الظلامية للنص الديني. لا يشكل هذا الكتاب في عنوانه الأصلي دفاعا عن الإسلام، وإن كانت هذه الآلية النفسية هي المحفز لصاحبه، إن لم نقل هي الآلية اللاشعورية التي تؤطر النص وتغيبه. لقد قلنا سابقا إن الدخول إلى الإسلام من مقاربة تحليل- نفسية هي مخاطرة مرعبة، ليس في الموضوعات التي تطرقها فحسب بل فيما أسمته مترجمة الكتاب بالغريب. فالكتاب يتحدث عن غريبين: الغريب الأول المتمثل في هاجر جَدّة العرب، والغريب الثاني هو التحليل النفسي. هذان الغريبان هما اللذان دفعا رجاء بن سلامة لترجمة هذا الكتاب، حتى لا يكون الكتاب غريبا ثالثا في عالمنا العربي. يدعونا الكتاب إلى تسويره عبر ترسيم برنامج عمل الباحث رغم أن المشتغل بالتحليل النفسي زئبقي كما موضوع دراسته، هذا إذا افترضنا أن الثورة التي أحدثها مؤسّسو التحليل النفسي، تتمثل في مفهومين أساسيين: اللاشعور والجنس. مفهومان تم بمقتضاهما تغيير رؤية الإنسان للعالم. وإذا افترضنا ذلك، فكيف نستطيع لم الشتات الذي يدخلنا إليه الباحث بين الراهن والماضي بين الحضور والغياب، بين الأرشيف والذاكرة والحاضر، بين الأصل والنسخة Simulacre، وبين هذا وذاك نستطيع بقليل من المكر أن نتحدث عن مجالين أساسيين وهما: الدين الإسلامي والأب والمرأة، وتداعيات هذين المفهومين في الأرشيف وفي الذاكرة. ولقد قلنا سابقا إن الاهتمام العلمي بالدين هو نوع من المواجهة بين المثقفين العرب ذووا تكوين أكاديمي علمي مع تصورات نمطية وتنميطية للإسلام أي أولئك الذين يستثمرون الدين ضمن أجندة إيديولوجية ظلامية في أقصى بعدها. سواء المتمثل فيما ينعت بالإسلام السياسي وتداعياته في الفضاء العمومي بأشكاله وعلاماته المتعددة، أي في جعل الغير مناقضا « للذات» عبر تخصيب التوثر بينهما في سبيل التعصب والحقد والكراهية. والباحث يكشف منذ فصله الأول من الكتاب دعوة اهتمامه بالدين الإسلامي بعد أن تم تغييبه في المراحل السابقة أو بالشكل الذي يعبر عنه: كيف أصبح الإسلام يهتم بنا؟ كأن انتماءنا للدين الإسلامي في الراهن العالمي، هو الذي يفرض اهتمامنا به. يربط الباحث هذه الدعوى الذاتية من منطلق الخرق الديني الذي أحدثه الرئيس السابق بورقيبة في أحد أيام رمضان بشربه الماء أمام الجمهور عبر شاشة التلفزيون. هذا الخرق أحدث خلخلة ليس فقط عند التونسيين بل عند سائر المسلمين (العرب منهم على وجه خاص)، لا يهمنا من سرد هذه الحادثة والتأويل الذي أعطاه إياها صاحبها (بورقيبة) ولا ردود الفعل المضادة له، بل الذي يهمنا من هذا كله هو العراك الدائر والدائم منذ موت نبي الإسلام إلى اليوم حول ملكية الدين وامتلاكه كطريق للهيمنة السياسية في المجتمع والدولة. هذه العلاقة المتوثرة والمكبوثة في الثقافة العربية هي التي تهب فتح طرق متعددة لتعرية هذا التوثر واختراق مكبوتاته عبر ما تفيده العلائق الموجودة بين الذات والغير. أي في الكيفية التي كان فيها الحوار مع الغير من أجل التحرّر منه (المرحلة الاستعمارية ومرحلة بناء الدولة الوطنية) وبناء الذات على أسس حداثية وبين الذات المناقضة للغير. والحارسة لطهرانيتها من أي دنس خارجي. لا عجب إذن أن يكون مرد هذا الانحراف هو مزالق التحديث التي طرأت في العالم العربي بعد الاستقلال دون تمثل عميق لقيم الحداثة، ماذا يعني ذلك. يعني أن الباحث يريد القيام بتجربة هذا التوثر المكبوت في اللغة والخطاب معا. إذا افترضنا أن مفهوم اللاشعور كلغة، لها بنياتها الخاصة وبالتالي التعامل معها وفق ما يفيده الدليل وما يخفيه الدال وإذا افترضنا بلغة هايدجر أن اللغة مسكن الوجود فمعناه أن الحديث عن الدين هو حديث عن المقدس في الديانات التوحيدية، وإذا كان المقدس «حراما» فمعناه أن كلمة «ح.ر.م» تفيد دلالات متعددة تنتمي لنفس الجذر مثل (المحرم، الحرام ، الحريم، المحرم، المحترم). وقد نستفيد من معجم لسان العرب لابن منظور ما يفيد «ما حرم فلم يمس». ألا يعني هذا أن الدين لا يمس؟ وإذا كان الأمر كذلك فإن الباحث يبرر هذا التأويل الفيلولوجي إلى ثلاثة مستويات: « يوجد من ناحية أولى ما لا يمس من حيث إنه يعني البعد الحسي من الجسد الذي لا يمكن أن نتصل به وهذا هو التابو. وهناك من ناحية أخرى ما لا يمس من حيث إنه يعني السليم l?indemne وهو ما يتطابق مع أحد مدلولات الإسلام. وتعود هذه الكلمة فعلا إلى جذر (س.ل.م) الذي يعني النجاة من الخطر ويعني العافية. فكلمة «إسلام» تدل على العافية بعد اجتياز الخطر، وما لا يمس يعني تبعا لذلك ما يتمتع بهذه المناعة... أما المستوى الثالث... تعويض المحسوس بالمعقول» ص: 77 و 78، يفتح لنا هذا التأويل، التحليل النفسي لهذا الذي لا يمس وهذا الذي يحتفظ بالمناعة، وكأن المناعة هي نوع من المديونية التي تفترض من المؤمن تأديتها رغبة في السلامة ورغبة في تطهير الجسد من الدنس الذي يلاحقه. هكذا يكون الدَّيْن ظلا مصاحبا للدِّين في الديانات السماوية. إن الدِّين بهذا المعنى هو سحب شيء ما من الجسد. ألا يعني انسحاب الله في الديانة اليهودية عبر ترك فضائه لخلقه، هو ترك الإنسان يحيى داخل نقصه ورغبته في تسديد دينه إلى الله. بنفس الشكل تقريبا نجد ذلك في الديانة الإسلامية، خصوصا في الحادثة الحكائية التي تروم إلى سحب شيء ما من جسد الطفل/ النبي. يتقدم التحليل النفسي- حسب فتحي بن سلامة- إلى التوقف عند كلمة «دين» من حيث جذرها اللغوي والمعجم الرسمي في لسان العرب والمتمثل في الدلالات المتعددة، هذه الكلمة والتي يجملها في جملة دالة وهي «وكل شيء غير حاضر دين». يرجع الباحث إلى «فرويد» في تحديده للدين من حيث كونه خيالا ذا نجاعة، أي ليس هواما مثلما لا يمكن تحديده في بعده الرمزي للانتهاء منه، فالمسألة تروم إلى هذا الشيء المسحوب أو الذي تم سحبه. ألا يتعلق الأمر هنا بمفهوم الأمومة كمفهوم أساسي في التحليل النفسي. إن لم نقل إن الأمومة مجال المكبوت والمقموع. «باعتبار أنه الشيء الأمومي الذي يجب أن يبقى الموضوع المقصي للمتعة، درءا للرهق وللمخاطره» ص. 82. توجِد اللغة العربية في خصوبة معجمها توافقا بين الأمة والأم من حيث التقريب الذي تحدثه كل كلمة على حدة. وهكذا يشتغل الباحث بكثير من المكر عبر الحفر في اللغة وكأن الحفر ذاك هو الطريق الذي يوصله إلى الموضوعات التي يشتغل عليها التحليل النفسي. ففي حديثه عن الكلمتين الأولى والثاني، يرجعهما إلى جذرهما اللغوي: « أم» من حيث إنها تعني «قصد» و «قرب» و «تقدم» و «الإمام» الذي يؤم الناس أي يتقدمهم. يستخلص من هذا الحفر اللغوي إذن معنى الدين من حيث إنه «الحارس لموقع مقاربي يجعل أعضاء المجموعة يقاربون الشيء دون الوصول إليه» ص 83. كيف ذلك؟ أي كيف يكون هذا التقريب؟ يجيب الباحث أنه يجب إقصاء المتعة الممنوعة، عبر تطهيرها من الدنس أي عبر «خلق حقل صحراوي حول الشيء» ها هنا يحدث التوتر بين النرجسية والمثال وبين الأنا المثالي ومثال الأنا. بالشكل الذي حدده ج. لا كان. إن الخلاء يروم إلى لا موضعته ولأنه كذلك فالدين هو حارسه. فإذا كان الدين، هو حارس هذا الخلاء في المجتمعات التقليدية فإن السياسة اليوم هي حارسته. لن نندفع مع الباحث في وضع تجربة الإسلامويين كعرض من أعراض هذا التوتر... ولننظر إلى مسألة أخرى تكتسب أهمية في نظرنا وهي المرأة كبعد فاعل في ترسيم الديانات، ليس لأنها هي من أنجب الأنبياء والرسل، بل في الدور البنيوي الذي تلعبه داخل الحكايا الدينية. وعبر التقليد الديني. ولنتوقف عند حكاية موسى كما أوردتها الحكايا التوراتية، وحكاية نبي الإسلام، كما تم سردها في السِّير، فإذا كانت الحكاية الأولى تنبني على الوعد الذي أطلقه فرعون، الوعد الذي يقول: كل من يولد في هذه السنة وجب نحره، لكن موسى سيفلت من هذا النحر، ستتم تربيته من طرف زوجة فرعون، ليكون التواصل الجنسي والصوتي بين أم موسى التي أنجبته وأمه التي ربته. فهذا التبادل هو نوع من تبادل الموت بالحياة. أي أن المرأتين معا يتشاركان في نفس المهمة، إنقاذ موسى من الموت، وبالتالي إنقاذ إسرائيل من الهلاك، إنهما تتشاركان كذلك في التنصل من سلطة فرعون. فأم موسى تسللت من وليدها عبر رميه في النهر، وزوجة فرعون أقنعته كي يكون مؤنسا لهما. أليس هذا الانفلات من السلطة هو السلطة ذاتها؟ لأترك هذا السؤال جانبا ولأتابع الحكاية الأخرى. حكاية نبي الإسلام بين امرأتين. من ستكون أم محمد؟ هل رقية النصرانية أخت ورقة بن نوفل أم آمنة ذات النفوذ العائلي في شبه الجزيرة العربية. الحكاية تبدأ من انفلات عبد الله أب نبي الإسلام من النحر. عبر فديته بنحر الإبل هنا الابن أصبح مرهونا ورهنا لأبيه وعملية فداء هذا الرهن هي تلبية طلبات أبيه أي طاعته المطلقة. وهكذا تدور الحكاية، حكاية عبد الله مع أبيه عبد المطلب. وهما متوجهان نحو تزويج الثاني الأول، وفي طريقهما لبيت آمنة التقته الساحرة رقية وطلبت منه الزواج لكنه رفض بحجة رغبة أبيه كأن رقية رأت في عبد الله العلامة ... لكن حين تزوج رسميا بآمنة رجع إليها وهو متحرر من سلطة أبيه، إلا أنها رفضته، كأن القوة التي كان يمتلكها انغرزت في آمنة. أو كأنها ترغب السلطة والهيمنة عبر تلك القوة التي يحملها عبد الله دون أن يكون له علم بها. يفرض علينا هذا التخيل السردي للحكايتين معا مقاربتهما بأكثر المقاربات إمكانا، لكن لنبق في مقاربة التحليل النفسي في هذا الكتاب، يحلل الباحث الحكايتين معا في اختلافهما وتقاربهما معا. فمن حيث الاختلاف الأولي والظاهر في مقصدية التخييل السردي للحكايتين، ونعني بذلك أن الحكاية الأولى تروم إنقاذ الطفل من الموت، وإنقاذ شعبه، بينما الحكاية الثانية فهي مؤسَّسة على بنية القانون/ الشوق؛ القانون المؤسس على طاعة عبد الله لأبيه عبد المطلب، والشوق هو شوق عبد المطلب للمرأة الثانية. وفي مقارنة عجيبة، بين التخييلين السرديين يتوصل الباحث إلى كون الحكايتين مسكونتين بهاجس الخطر المتعلق بالأصل، ماذا يعني ذلك؟ . إنه يعود إلى الخطر الذي يهدد اليهود أي التهديد الذي أرسله الله إليهم، لتصفيتهم، بحسب هبته عبر قطع النسل لديهم وقتل الابن. كما نجد هذا الخطر موجودا بين أم موسى وزوجة فرعون، وبالجملة في الصورة التي يحملها فرعون كمدمر ومنقذ، بينما في الحكاية الثانية، أي حكاية الإسلام فيروم الخطر في بعده التخييلي إلى المرأة الثانية، التي تجسد الشوق أو بالأحرى تفيد اللاشرعية والهجانة بينما تفيد المرأة الأولى(أم النبي) أساس القانون الرمزي الذي يفيد النظام والطاعة، والشرعية. ألا يعني هذا حضور الأوديبية في الحكايتين معا، وإن كنا لا نستطيع التدقيق فيهما كما لو كانت أوديبية مضادة تروم إلى سر الأضحية، الأضحية الإبراهيمية، والأضحية الأخرى التي تم بمقتضاها إنقاذ عبد الله من الموت، وإن كان فرويد يشير إلى الأوديبية من خلال قراءته للثوراة. عبر تفعيل التأويلات المتناسلة لأسطورة أوديب أي تلك الأم العجوز التي ربت أوديب، تلك الساحرة التي علمته كل شيء، لكن في المقابل تمة امرأتان مشاركتان في التخييل السردي للحكايتين معا، ينظر إليهما الباحث من نظارات جاك لاكان، وبالضبط في العلاقة التي تربط الرجل والمرأة والقضيب، ففي الحكاية الثانية تقول رقية لعبد الله بعد عودته إليها (الشوق) « فارقك النور الذي كان معك بالأمس» كأن الدال (القضيب) لم يعد في ملكيتها بل حتى عبد الله لا يعرف ما يمتلكه (حامل الطفل المقدس) ها هنا يشتغل الباحث على قراءة هذه الحكاية من خلال مقالة جاك لاكان (دلالة القضيب 1958) حول «أن تعطي ما ليس لك» و «أن تعطي ما لا تعلم» وهو التحليل الذي يقدمه جاك لاكان للعلاقة بين الرجل والمرأة والقضيب، فإذا كان الطرف الأول من العطاء يحيل إلى المديونية والملكية أي إلى تبادل اقتصادي بينما الثانية فهي أعمق حسب الباحث لتفسير الحكاية الثانية، أي أن عبد الله لا يعرف ما بداخله، كأنها الهبة التي وضعت في متناوله، دون أن يعرف ذلك. وإذا كان الأمر كذلك فإن «رقية» هي المدركة لهذه الهبة وبالمقابل فعبد الله ليس له علم بها. أليس ما لا ندركه هو المستحيل عينه؟ ألا تقدم الحكاية شكلا من أشكال المستحيل. ها هنا يظهر لنا المستحيل بين شخوص الحكاية التخييلية. فعبد الله لا يعرف ما يمتلكه ورقية لا تمتلك ما تعرفه، وآمنة لا تمتلك الشوق. هذا النقصان الذي يحمله كل واحد هو نقصان المتعة. متعة امتلاك الغُرة التي يحملها عبد الله التي لا تشكل دالا، بل هي «الدال السيد» حسب جاك لاكان. ترتبط هذه الصور التخييلية بفعل الأضحية كفعل أساسي وبنيوي في الديانات التوحيدية سواء في رمزية إسماعيل أو في رمزية عبد الله أبو النبي لهذا يسمى النبي في التقليد الإسلامي «ابن الذبيحيتن» حسب مروية ابن القرطبي. ستشكل رؤيا إبراهيم عليه السلام موضوعا تخييليا أكثر شهوة لدى المتصوفة -»ابن عربي» نموذجا- ليس فقط في تفسير الحلم بل كذلك في قلب استعاراته عبر الاشتغال على الطبقات التخييلية التي تؤسسه ليستخلص ابن عربي أن: «الولد عين أبيه» ألا يعني هذا التأويل نوعا من تبادل الأبوة؟ تبادل رمزي لسلطة الأب من هنا يورد الباحث قولة هيجل: «الأبوان بالنسبة للطفل يمثلان الأصل الذي يلغي نفسه». لا غرابة إذن أن يدخلنا الباحث في النبش معه في التخييلات المنتجة والمصاحبة للدين عبر طرق مجموعة من القضايا التي تدخل في المفكر فيه من قبيل الأصل. أصل الدين الذي تم في حجر امرأة، المسألة لا تتعلق بتخييل زائد أو فيض تخييلي مضاعف يفتقد إلى الشرعية، بل هو ذو شرعية في التقليد الديني الإسلامي سواء من طرف الرواة أو كتاب السيرة والطبقات. إنها حكاية النبي مع زوجته خديجة كما يرويها الطبري ورواة آخرون، تقول الحكاية إن النبي حين أتاه الملاك جبريل كان يصاب بأعراض متعددة كالعرق المتصبب من جبينه وقشعريرة تسري في جسده وما إلى ذلك حتى إن البعض يعتبر هذا مسا من الجن أو الشيطان، إلا أن خديجة تعرف الإشارة وتطلب منه الجلوس في حجرها لتحريره من هذه الأعراض عبر حجابها: « هذا المشهد يبين ولا شك أن تصور الأصل في الإسلام احتاج إلى جسد امرأة لكي يزيل الشك في عقل الرجل، ويساعد الملاك على إحلاله في طريق الكلمة» صفحة 244. إن تأمل هذه الحكاية تصيب قراءها - ليس فقط من خلال تأويل الباحث ولكن حتى لقرائها- بالمفارقة بين لحظتين؛ لحظة كانت فيها خديجة هي الوسيط بين النبي والملاك كسبيل لتحريره من الجنون وبين لحظة المرأة كمنتج ومصدر للجنون (الفتنة) الشيء الذي وجب حجبها وعقلها وأسرها، بين امرأة أزالت الحجاب لكشف الحقيقة وامرأة أضحت سبيلا للفتنة بين امرأة عارفة بالحقيقة وامرأة سجينة مكرها وسحرها وتشيطنها... ألا ترمينا هذه المفارقة إلى الحفر في التخييلات الأخرى المصاحبة والمتولدة عن الحكاية الأولى؟ وفي سبيل هذا النبش توقفنا حكاية هاجر في التقليد الديني، ليس من حيث تجربتها مع إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة، ولا في الدراما التراجيدية لهاجر في التيه ولا في عودتها بأمر إلهي بل في الكيفية التي تم نبذها حتى في القرآن عبر عدم ذكرها. أليس في الأمر ما يثير قلق الباحث والقارئ معا اتجاه جَدة العرب من حيث كونها أمة وعبدة؟ هل هذا مبرِّر مقبول في عدم ذكرها خوفا م ما تتركه الحكاية من شتيمة وسبة للإسلام وللعرب لكونهم ينحدرون من عبدة؟ هذه المرأة التي تم التنكيل بها في التقليد اليهودي من خلال رائحتها وأشياء أخرى، وهي ما دفع ابن قتيبة إلى قول: «وأما مثل هاجر التي طهرها الله من كل دنس، وطيبها من كل دفر، وارتضاها للخليل فراشا، وللطيبين إسماعيل ومحمد عليهما السلام أما، وجعلهما لها سلالة، فهل يجوز للملحد فضلا عن مسلم أن يطلق عليها اللخن؟» ص. 185 . ألا يعني هذا أن حكاية هاجر في الإسلام هي حكاية نبذ وتهميش المرأة وحتى إذا افترضنا كرامتها، فإنها لا تتجاوز رمزيتها بل تلك الكرامة الرمزية التي يهبها المجتمع وثقافته ومؤسساته الدينية. وتتمثل هذه الكرامة الرمزية في كونها حافظة للسلالة، من حيث إنجابها لولد يشبه أباه وهكذا. إن المرأة هنا جسد يحمل في طياته صورة الأب، لكن بالمقابل يضع التحليل النفسي موضوعة هاجر لتعريتها عبر قراءة الحكايا الدينية، الثوراة نموذجا، أي في علاقتها بسارة، صحيح أن هذه الأخيرة هي السيدة والسلطانة وصاحبة السلطة، وصحيح كذلك أنها هي التي زوجت زوجها لهاجر رغبة منها في إنجاب الطفل، تبدو أطراف الحكايا في تبادل الأدوار، وتبادل السلط والمعرفة، وهذا ما يستخلصه الباحث في كون هاجر أضحت عارفة بالرؤيا وقارئة للباطل وساحرة، فهي رأت الله وأمرها، هو أعطاها عينا تشرب منها هي وابنها إسماعيل، الذي يفيد « اله يسمع»، مثلما أن لهاجر قوة أخرى ليست لسيدتها ولكن في المقابل هذا الدين الموجود بين المرأتين والمتمثل في تبادل المتعة. والمحصلة أن هاجر تشكّل جسدا قد تستطيع أي واحدة اقتراضه من أجل الإنجاب. لكن صدى هذا التخييل عبر تفكيك بنياته الدالة وعبر طرق المفكر فيه، هو ما يعطي لهذا البحث إمكانية قراءات متعددة ليس فقط لحصره داخلها بل في تخصيبها وركوب أسئلة القارئ بمعنى أن الباحث فتحي بن سلامة يفتح لنا بعض الأبواب للنبش فيها عبر طرد البداهات التي تحيط بها والمسبقات التي تسكن عتباتها. وهذا هو الأهم في نظرنا ونحن نقرأ هذا الكتاب. قد نقول إن ثمة مواضيع لم أتطرق إليها، ليس من باب النسيان، أو لعدم أهميتها أو لتفضيل هذا الموضوع على ذاك، بل لإن هذه الموضوعات كالموت والإرهاب أي ما يسميها المؤلف ب « الأعراض المرضية» للإسلاميون هي ما يمكن اعتباره موضوعا آخر يتطلب زوايا نظر متعددة. لا عجب إذن أن يكون هذا البحث عن الإسلام من وجهة نظر التحليل النفسي مخاطرة، قد تدعو باحثين آخرين إلى دخوله، لاعتبار بسيط وهو غياب هذا المبحث في الجامعات العربية وحتى إن كان فثمة عراقيل وعوائق تعوقه. أليس الأمر متعلقا باللغة؟ اللغة العربية الحافظة لقداستها. لنتصور أن الباحث كتب كتابه بالعربية، فهل يستطيع الحديث بهذه الجرأة؟ وإن كنا نعرف أن المكتبة العربية زاخرة بهذه الكتابات التي تخترق «التابو» لكن ظلت سجينة ومسجونة داخلها. إن هذا المبرر يفيد أن اللغة ليست عائقا- كما يحلو لنا تبرير ذلك- ولعل ترجمة الكتاب إلى العربية والمجهود الذي بذلته المترجمة في تقريب المعنى وملاءمة المفاهيم للنسق العربي هو ما جعل للكتاب مذاقا آخر يقترب من كتابات باحثين آخرين كعبد الوهاب بوحديبة وعبد الكبير الخطيبي وآخرين. إن الكتاب بمجمله يدشن نوعا من المصالحة بين الثقافة العربية والتحليل النفسي، ولعل جرأة أسئلته ومرجعياته الفلسفية والعلمية هي ما يؤكد ذلك، إنها أسئلة تضع قارئها في مقربة من الفزع أو في تماس معه كما يقول بلانشو. د. فتحي بن سلامة: الإسلام والتحليل النفسي ترجمة رجاء بن سلامة دار الساقي، بيروت، ط: I - 2008. 1