كيف ما كان الحال، فوضعنا يستدعي تحقيق التقائية مجتمعية من أجل تغيير التعامل مع «المسألة الثقافية» من أجل إعادة بناءها من جديد وتكوينها، وتحويلها إلى محرك لتاريخنا المعاصر الراهن. بالطبع هذا التكوين لن يكون سهل المنال، بل تحقيقه يستدعي الصبر، ومقاومة عناء الضغوطات المجتمعية «المصطنعة»، ويتطلب بالموازاة مجهودات جبارة من أجل إحداث الحركية الكافية التي تستجيب لمتطلبات حركة التاريخ الحقيقية. يزداد هذا العناء حدة لأن التحول في منطق ممارسة السلطة والسياسة على المستوى القطري عربيا ومغاربيا زمن العولمة يتطلب مسايرة الانقلاب الذي حدث ما بين المستويات الثلاث: الاجتماعي، والسياسي والثقافي. فبعدما كان التأثير والتفاعل والتداخل ينطلق ويتجه من العلاقات «الاقتصادية-الاجتماعية»، وينعكس في درجة ثانية على «السياسي»، لينتهي التأثير في الأخير على «الثقافي»، أصبح هاجس المقاومة الثقافية مظهرا رئيسيا وبارزا في العديد من دول عالم الجنوب. فبعدما كان رفع شعار «الاقتصادي-الاجتماعي» الشعار «القاعدة» أو»المحدد» أو»المحرك» الذي تم اعتماده في خلق مجموعة من العبارات التي ميزت إشكاليات القرن العشرين كإشكالية «المركز/الهامش»، وإشكالية «المركز (المتقدم)/المحيط (المتخلف)»، وإشكالية «الشمال/الجنوب»، وإشكالية «اليسار/اليمين»، توارى اليوم إلى الخلف ليترك المجال «للمسألة الثقافية» (صراع الحداثة/التقليد) لتصبح مسألة المسائل. يتم إحداث هذا التحول في عالم يتحكم فيه الغرب اقتصاديا (ماديا)، وتم اللجوء فيه إلى إثارة النزعات «الثقافية» لتدبير الصراع السياسي لفائدة مصالحه الاقتصادية أو اعتبارها تأثيرات ثانوية عالمية ناتجة عن عجز عدد من شعوب الجنوب على مسايرة تطور دول الشمال. وهنا ورد في كتابات المرحوم محمد عابد الجابري أنه منذ منتصف القرن الماضي إلى الستينات من هذا القرن، سادت الشعارات الإيديولوجية التي تعبر عن المسألة الاجتماعية بوصفها «المسألة الأساس»، مسألة المسائل : شعارات الاشتراكية العلمية والصراع الطبقي ووحدة البروليتاريا... أما اليوم فلا أحد يستطيع أن ينكر أنه حدث منذ عقد ونيف من السنين أن تراجعت هذه الشعارات ومثيلاتها لفائدة الشعارات التي تطرح «المسألة الثقافية» أو جانبا من جوانبها. لقد أصبح الارتباط، قولا وفعلا وبعنف أحيانا، بالطائفة والعشيرة والمذهب الديني... هذا «الانقلاب» الذي حدث في مجال العلاقة بين «الاجتماعي» و»الثقافي»، والذي يجسده تراجع الشعارات المعبرة عن المسألة الاجتماعية لحساب شعارات «المسألة الثقافية» لم يعد ينظر إليه اليوم على أنه حدث «عارض» يمر سريعا كما تمر «الموضة»، بل غدا موضوعا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا طفا إلى سطح الأحداث، بل ويحلل ويدرس تحت عناوين من نوع «عودة المكبوت»، و»عودة المقدس» في العالم الغربي، و»الصحوة الإسلامية» و»المراجع الروحية» في العالم العربي الإسلامي. على العموم، هذا التحول في عالمنا العربي والمغاربي ليس وليد اليوم، وعودته إلى سطح الأحداث ليس وضعا صحيا في سياق التطورات الكونية في القرن الواحد والعشرين. فالتحول في اتجاه المحافظة الثقافية والانغلاق زمن العولمة لا ولن يساهم في تقوية العزم على رفع التحديات المستقبلية، بل ما تحتاج إليه شعوب المنطقة، من المحيط إلى الخليج، هو اندماجها في ثورة تحديثية تمكنها من الاستفادة بالشكل المناسب من التطورات المتراكمة للحضارة البشرية. إن الرهانات المستقبلية تستدعي مواجهة الإيديولوجيات المحافظة التي تريد أن تجعل من تاريخنا مجرد اجترار وتكرار وإعادة إنتاج، بشكل رديء، لما كتبه الأجداد وأورثوه للأجيال المتعاقبة تحت ضغط صراعات العصور التي عاشوا فيها، وفي حدود سقف المعارف والمناهج والرؤى والمفاهيم القديمة التي كانت متوافرة في تلك العصور، والتي كانت المتحكم والموجه لإنتاجاتهم المختلفة. بالنسبة للمغرب، بعدما أشرنا إلى ذلك في مقالات سابقة كونه قطر متقدم سياسيا مقارنة مع دول المشرق والخليج، نعود لنؤكد على ما حققه من تراكمات في مجال التعدد والتنوع الثقافي، الشيء الذي مكنه في نظرنا من المرور من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدما في تاريخه السياسي، مرور توج بإصلاحات دستورية وسياسية متقدمة جعلت من «المسألة الثقافية» محورا قابلا للنقاش السلمي والحوار الحضاري والنقد العقلاني، وجعل من رهان المرور إلى الديمقراطية الحقة رهانا قابلا للتحقيق. فانبعاث الماضي من طرف التيارات المحافظة لم يرق إلى مستوى السيطرة النفسية على المغاربة، بل على عكس ذلك كان وراء بلورة مشاريع فكرية تنويرية ونهضوية جعلت من ضرورة إعادة قراءة التراث وعقلنته، والدعوة إلى «التخطيط الثقافي» من أولوية الأولويات. وهذا الوضع هو الذي عنونه الجابري بضرورة إيجاد طريق إلى الماضي لتطوير الوظيفة التاريخية للثقافة العربية بمقوماتها التالية: اللغة والدين والماضي المشترك والآمال المشتركة في مستقبل حداثي مأمول. وفي نفس السياق، أكد الجابري ما مقصوده أن هذه الصورة لا يمكن تركيبها بعقلانية إلا إذا تمت إعادة ترتيب علاقة الوعي المجتمعي بالماضي كأساس لتمكينه من شق طريقه لبناء علاقته بالمستقبل. إنه رهان تحقيق الامتلاك المعرفي للماضي، والتحرر من مكبلاته، والارتماء في أحضان المستقبل والتأثير في مجرياته بثقة كافية في الذات. ف»التخطيط الثقافي» بالنسبة للجابري يعنى إعطاء الأهمية والأولوية الضرورية لإحصاء ومحاصرة رواسب الماضي في الحاضر، والتخفيف من ثقله وهيمنته على الوعي المجتمعي الحديث والمعاصر، وإزالة الضباب على رؤية المواطن العادي للماضي. فلا يمكن في القرن الواحد والعشرين استساغة نزعات وأحداث «الاقتتال» بين المسلمين بدوافع ترجع إلى ذكريات الصراع السياسي الذي خلدته الحرب بين علي ومعاوية (اقتتال أهل الشيعة مع أهل السنة)، كما لا يمكن استساغة استمرار حكم الأموات (الشخصيات التراثية) والمقومات الميتة المتخشبة في التراث الثقافي العربي الإسلامي. خاتمة هناك العديد من المتتبعين الذين يصنفون بلادنا في خانة البلدان المؤهلة أكثر عربيا ومغاربيا للسير قدما نحو التحديث. وهذا التصنيف يجد تفسيره، كما أشرنا سابقا، في تاريخه السياسي، وفي عبقرية مفكريه الكبار أمثال المرحوم محمد عابد الجابري، وعبد العروي، والخطبيبي،...إلخ. فالنضال الذي خاضته القوى السياسية والفكرية مكن المغرب من التوفر على مشاريع نهضوية كبرى، وعلى تعدد ثقافي ولغوي غني، وعلى مكانة متقدمة لوضعية النساء. فالجابري، كنموذج للسياسي الملتزم والمفكر الهرم، أنجز رحمه الله مشروعا ضخما حلل فيه العولمة والنظام العالمي الجديد، والمسألة الثقافية والحاجة إلى إعادة قراءة التراث قراءة نقدية، وتنبأ باقتراب طلب الشعوب العربية «للكلمة». لقد تنبأ بالأزمات المالية والاقتصادية غير المسبوقة للنظام النيوليبرالي، وكذب أطروحة ربط معدل النمو باستفادة فئات أوسع من ثمرات التنمية، وكشف الاختلالات البنيوية لهذا النظام وعلى رأسها اتساع الهوة بين قلة تتحكم في الرأسمال وفئات واسعة تعاني من التهميش والإقصاء والفقر. وفي مجال اهتمامه بالتراث، أكد باجتهاداته أن لا تعارض بين حقوق الإنسان الكونية والدين الإسلامي. إن هذه الاستنتاجات القيمة في دلالاتها السياسية والمعرفية أصبحت اليوم مرجعا لكل الفاعلين في مجال الفكر والسياسة. فنبيلة منيب، القيادية في حزب الاشتراكي الموحد، صرحت في حوار مع جريدة «الأخبار» عدد 62 بتاريخ 29 يناير 2013 أن «بروز تعددية قطبية جعلت مشروع اليسار يرجع إلى الواجهة، فبعض الدول لجأت إلى تدابير يسارية للحد من آثار الأزمة وتداعياتها، من قبيل الحفاظ عن مجانية التعليم وجودته، أو القبول بتطبيق «تضريب»المضاربات المالية وتوظيفها لصالح الفئات الأكثر تضررا». ويتضح مما سبق أن مسؤولية الدفع بعجلة التحديث إلى الأمام ببلادنا تبقى مسؤولية الأحزاب التقدمية والقوى الحداثية، مسؤولية تتطلب تقوية الذات على أساس مشروع فكري يربط الاستحقاقات الانتخابية بوثيرة التقدم في بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي. وفي هذا الشأن لن نجد أحسن مما قاله عبد السلام رجوان في جريدة الاتحاد الاشتراكي عدد 10307 بتاريخ 29 يناير 2012: «... حين تفتقر السياسة إلى رؤية فلسفية وأرضية ثقافية تصبح الممارسة السياسية بئيسة ولا علاقة لها بالنضال، ويتحول السياسي إلى مقاول يستثمر رأسمالا ماليا أو رمزيا لتنمية رأسماله ذاك وتخليد سلطته المادية أو الرمزية والعمل أحيانا على توريث ذاك الرأسمال. هكذا، يتحول التنظيم السياسي إلى شيء تختلط فيه قيم المقاولة بقيم الزاوية، وتتحول فيه العلاقات بين المنخرطين (ليسوا بالضرورة مناضلين) إلى علاقات شيخ بمريديه أو رب مقاولة بأجرائه». إن التطورات السياسية الوطنية والدولية تفرض اليوم على الأحزاب التقدمية الديمقراطية تجاوز خلافاتهم الداخلية والخارجية، والاستعداد بكل جهد لمواجهة الشعور المشترك بالخطر، مواجهة تتطلب العمل في عمق المجتمع، وإعادة الحياة للمقرات الحزبية والأجهزة التنظيمية الموازية، واعتماد سياسة القرب من السكان، والدفاع المستميت على الحماية الاجتماعية والصحية للمواطنين وتحسين حياتهم المعيشية. إن مغرب اليوم مطالب بالالتحاق بدول الجنوب الرائدة التي لا تدخر جهدا من أجل تعزيز علاقاتها وتوضيح طبيعة تمثيلية الدول الصاعدة على مستوى مجموعة العشرين، وعلى مستوى مجلس الأمن والمنظمات المختصة التابعة للأمم المتحدة، والرفع من حصصها من «حقوق السحب الخاصة» على مستوى رأسمال صندوق النقد الدولي، وتقوية تمثيليتها في هيئات القرارات الإستراتيجية للبنك الدولي. بالطبع، عندما نتحدث عن رهان هذا التعزيز نعترف بمجهودات هاته الدول من أجل الرفع من ناتجها الداخلي الإجمالي، ونسب نموها، ومستوى انفتاحها ورصيدها من العملة الصعبة، وأهمية تقدمها الديمقراطي والحقوقي. وعليه، على المغرب، موازاة مع ما يجب أن يبذله من مجهودات في المجالين السياسي والثقافي، أن لا يدخر جهدا في تنويع اقتصاده والرفع من جاذبيته، وتنمية صادراته، وانفتاحه على السوق الدولية بخطى ثابتة، وتقوية اندماجه في المحيطين الجهوي والقاري، وإعطاءه الأولوية للتنمية البشرية المستدامة (جعل الإنسان الغاية القصوى للتنمية)، والاستثمار أكثر في المجالات الحيوية كالطاقة، والنقل، واقتصاد المعرفة، والأمن الغذائي، والتنمية التكنولوجية، والتقنيات الحديثة للإعلام والاتصال، والاقتصاد البحري، والاقتصاد الأخضر....إلخ. إضافة إلى ذلك، الاستثمار في هذه المجالات الحيوية يجب أن يصاحبه حرص شديد لتنمية العلاقات الاقتصادية في إطار الاتحاد المغاربي كأساس لتقوية الأداء الجنوبي في الفضاء الأورومتوسطي، وتحويل هذا الأخير إلى مختبر حقيقي للمستقبل في مجال إعادة التوازن إلى العلاقات «شمال-جنوب» و»جنوب-جنوب»، ومن تم الانفتاح بفعالية على المحيط الأطلسي (دول أمريكا وإفريقيا وأوربا الغربية)، وعلى المحيط الهادي (دول آسيا: الصين واليابان والهند وروسيا والنمور الأسيوية). وعندما نتحدث عن تحديث التراث، كما جاء في المشروع النهضوي للجابري، نعني بذلك إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي، وإعادة الاجتهاد في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لتمكين الفرد من العيش الحر، وأن يفرض الاعتراف بذاته ككيان واحد ومتفرد، وأن نوفر له كل ما يلزم للبروز كفاعل متحكم في مصيره ومصير مجتمعه، ومقاوم للمكبلات اللاعقلانية بمختلف أشكالها سواء كانت عائلية أو عشائرية أو قبلية أو مذهبية، وبالتالي تمكينه من أن يتحول إلى صوت حر. وفي هذا الصدد جاء في مقال للأديب الكبير الطاهر بنجلون صدر بجريدة أخبار اليوم عدد 974 بتاريخ 31 يناير 2013 أن «المؤمن يعيش في صلة مباشرة مع الخالق...وهو الوحيد المسؤول عن أفعاله، هذا هو المقصود بمفهوم «حرية الضمير»، وهي قاعدة وحق ثابت لكل فرد. ولكن، ما يحاول رجال الدين فرضه هو توجيه خطوات كل واحد من أفراد المجتمع، والتدخل في الحياة الشخصية للناس، والسماح لهم بما يريدون ومنعهم مما يشاءون. افتقاد الحرية هي خاصية مشتركة في مجمل الدول العربية، ومع ذلك، يواصل المواطنون المطالبة بها».