في هذا الصدد، ستكون وظائف البحث المتواصل والتحليل العلمي في مجال الفكر والعمل السياسي والعمل التربوي والمجال الثقافي واللغوي في عمق اهتماماتنا، اهتمامات هدفها الأساسي هو الدفاع عن الحداثة كأفق في النظر بالنسبة لمجتمعنا. فإضافة إلى الحرص على خلق الآليات للعمل الميداني لترسيخ المنتوج البحثي الذي سيتم إنجازه، سيركز هذا الأخير كذلك على إبراز مكاسب التاريخ المعاصر والاستفادة النقدية الواعية من مكاسب الأزمنة المعاصرة ومسلسل تطورها التاريخي، مكاسب الحداثة والتحديث على مختلف الصعد والمستويات. وبخصوص مجالات الاشتغال المقترحة، تم تحديد المحاور التالية: 1. تحديث التراث المغربي: ويتعلق الأمر في هذا المحور، بإعادة قراءة الرصيد الفكري في هذا المجال قراءة تفسيرية ونقدية. ويتطلب الأمر في هذا الباب خلق وحدات للبحث في التراث من خلال رفع لواء الاجتهاد والنقد بمنطق العقل والتاريخ والإبداع. وهنا مراجعنا عديدة ومتنوعة أنجزها عمالقة الفكر العربي والمغاربي القدامى منهم (أمثال: ابن رشد، وابن خلدون، والشاطبي، والفرابي، وابن سينا،...)، والجدد (أمثال: محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وبرهان غليون، ومحمد عزيز لحبابي، والطيب تيزيني، وعبد الله العروي، وعبد السلام بن عبد العالي، ومحمد سبيلا، ومحمد المصباحي، وإدريس كثير، وعز الدين الخطابي، وعبد العزيز بومسهولي، وعبد الصمد الكباص، وحسن أوزال، وعابد الإله بلقزيز، ومحمد وقيدي،....). وتجدر الإشارة هنا أن المشروع الفكري النهضوي الذي أنجزه المرحوم محمد عابد الجابري بتشخيصاته واستشرافاته، وما أثاره من نقاشات وجدالات غنية وطنيا وإقليميا وجهويا ودوليا، سيكون المنطلق الأساسي لعمل المركز في هذا المحور حيث سيتم التركيز على: * إبراز الدور الفكري التاريخي للمفكرين والباحثين المغاربة القدامى والجدد في الإسهام في تطوير المشاريع الفكرية النهضوية عربيا ومغاربيا وغربيا، وفي ارتقاء التفكير الفلسفي كأساس لترسيخ العقلانية والحداثة في بلادنا، والاجتهاد في إيجاد الآليات لتعميم الفائدة على كل الفئات المجتمعية. * البحث في جذور تكوين التراث المغربي بمنطقه السياسي وبمقوماته الثقافية واللغوية، والحفر في طبقاته المتراكمة، وتوضيح العلاقة التاريخية والتأثيرات المتبادلة ما بين السياسي والثقافي والعقائدي، وتبيان مكامن القوة والإبداع فيه، والوقوف على رصد محدوديته في علاقته بأسئلة الحاضر، وفي علاقته بمحصلة الفكر المعاصر، والاجتهاد في خلق وابتكار الأدوات لمحاصرة استمرار تأثيراته التقليدية غير المبررة عقليا، وتعطيل مفعولها في الحاضر والمستقبل. وسيعتمد المركز في هذا الشأن على دراسة التراث بمنظور فلسفي وابستيمولوجي يستحضر فلسفة الدين، والأنتروبولوجيا، وفلسفة التاريخ مع ربط فهم أحداثه بسياقاته الثقافية والاجتماعية. * كشف المفارقات في الواقع العربي المعاصر عامة والمغربي خاصة ومحدوديتهما في غمار مواجهتهما لأسئلة السياسة والفكر والفلسفة في عالم اليوم ورهاناته المستقبلية، وبالتالي الإسهام في دعم المجهودات لإعادة بناء الذاكرة الجماعية، ذاكرة مغربية بخاصيات ومقومات لن يجرأ أحد على التفرد باحتكارها واحتكار رأسمالها الرمزي والتاريخي (ذاكرة الجميع)، ذاكرة بمقومات تمكن المغاربة من مواجهة معارك الحاضر السياسية والثقافية داخليا وخارجيا. * تعميق البحث في الأحداث التاريخية الأساسية بالمغرب لإبراز القيمة الثقافية للتراث الأمازيغي وتفاعلاته مع الثقافتين الغربية والعربية الإسلامية، وإسهامه في إغناء التنوع الثقافي ببلادنا. * إعطاء أهمية لتفسير النص القرآني والتراث النصي عامة من خلال ما أنجزه المفكر محمد عابد الجابري في هذا الشأن، أهمية يكون أساسها فتح نقاش واسع في المجتمع بشأن كل القضايا المطروحة ذات الارتباط بالعقيدة بشكل خاص وبالتطور البشري بشكل عام. 2. الاستفادة من الرصيد الفكري الغربي ومن الارتباطات التفاعلية للفلسفة الغربية والفلسفة العربية الإسلامية والفلسفة اليونانية: كما هو الشأن بالنسبة للفلسفة الغربية التي تعد امتدادا حقيقيا للعلم والفلسفة اليونانيين، لقد تمت البرهنة الفكرية كذلك على قوة امتدادات العطاء الفلسفي الإسلامي بالفلسفة اليونانية. وهنا لا بد من الوقوف على أهم الاستنتاجات التي ميزت الفلسفة الأوروبية الحديثة وتطورها مع الزمن خصوصا ما يتعلق بالعلاقة ما بين الفكر والوجود. فبعدما اعتبر ديكارت أن الانتقال من الفكر إلى الوجود يتطلب افتراض إله غير خداع، نجد سبينوزا قد وحد بينهما أي بين الله والعالم، معتبرا الوجود واحدا، أي أن الله والطبيعة عنده شيء واحد، وميز في هذا الشأن بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة. وبعد ذلك، جاء جاليلو ونيوتن بنظرية السرعة الميكانيكية والقدرة على تفسير كثير من الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها، واعتبرا الروح والفكر نتاج الدماغ، وّأن هناك توازن ما بين ما هو فكري وما هو جسمي. وبعدما كان شائعا أن الذرة هي أصغر جزء في المادة، تم اكتشاف كونها تتكون من الشحنات والالكترونات، وفندت بذلك فكرة كون المادة أساس كل شيء. وتم اكتشاف بعد ذلك أن المادة تتلاشى وتصبح عبارة عن طاقة، أو عبارة عن كائنات أشبه بالكائنات الروحية. كما تم استنتاج أن الزمان والمكان، وبالتالي الحركة، لم يعودا مطلقين كما تصور نيوتن، بل لقد اتضح مع النظرية النسبية أنهما نسبيتان ويتعلقان بالسرعة،....إلخ. وهنا، واعتبارا لهذه الاستنتاجات والمعطيات التاريخية وتطورها، سيركز المركز في هذا المحور على ما يلي: * إعادة قراءة الروابط التاريخية بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الإغريقية، ومن تم إجلاء الغموض على تناقضات الهوية المغربية من خلال طرح إشكاليات جديدة تشكل امتدادا للرصيدين الفلسفيين العربي الإسلامي واليوناني، وبالتالي إعادة طرح ما يسمى ب»الأصالة الإيديولوجية» كإشكالية في القرن الواحد والعشرين، وتقوية قدرة الشعب المغربي على التفلسف، وعلى إنتاج المعرفة العلمية، وتقوية القدرة على فصل الذات عن الموضوع في سلوكياته الثقافية، وتحويلها إلى أساس لتحقيق التجديد الفكري والثقافي بأبعاد كونية تتجاوز معتقدات الانحياز «الأعمى» إلى المكان والزمان والثقافة واللغة. * فتح الباب للاجتهاد لتوطيد الجرأة والإقدام في التفكير في التراث الفلسفي بمكوناته العربية الإسلامية، والغربية، واليونانية، وتقوية القدرة الفردية على تحرير الذات من الدعوات إلى إلغاء الزمن والتطور والتي تطمح إلى تقييدها (الذات) في زمن ثابت ومنعها من أن تكون خلاقة إزاء الماضي الفلسفي، وفاعلة في الإرادة من أجل التخلص من البنيات العتيقة وخطاباتها الماضوية غير المبررة لا عقليا ولا دينيا، وبالتالي تمكينها من بناء عقل جديد مناسب لربح تحديات ورهانات العصر. * تقوية القناعة المجتمعية بعدم وجود أي مقومات ذاتية موضوعية تمنع مشاركة المجتمع المغربي مع الآخر في بناء الحداثة المأمولة، والإسهام حسب الممكن في تطوير الكشوفات العلمية والاستفادة منها. * إبراز دور الفلسفة والعقل في التغيير لتقوية علاقة الذات بالآخر وعلاقة الذات بالذات. * تقوية التواصل المتبادل بين العلوم وبين الفلسفة والجمهور لتمكين المجتمع المغربي من الانخراط بوعي في معترك التنوير والحداثة. 3. تربية الأجيال الصاعدة على الحداثة : في هذا المحور سيهتم الاهتمام بمجال التربية العلمية داخل الأسرة وكل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وبتشجيع الأطفال والشباب على القراءة ومصاحبة الكتاب، وتعويدهم على الإنصات للآخر كأساس لتقوية التواصل وترسيخ المشاركة في المجتمع، وبتقديم الاقتراحات المناسبة بشأن تقوية دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة، وبإصلاح المنظومة التربوية والتعليمية في كل الأسلاك (التعليم الأولي، خلق نموذج المدرسة الوطنية المواطنة، ملائمة التكوين العالي ومتطلبات سوق الشغل المعرفية منها والتثقيفية بعيدا كل البعد عن النزعات «الاقتصادوية»،...)، وبالرفع من مستوى الوعي التربوي للأفراد والجماعات بأسئلة التاريخ والمعرفة وأسئلة المدرسة والمجتمع، وبأهمية البحث والتأطير العلمي داخل الجامعة، وبالوظائف التي تلعبها الأفكار الفلسفية النقدية في التاريخ الحديث المعاصر. وسيتم التركيز كذلك في هذا المجال، أولا، على إبراز حاجة المجتمع المغربي إلى ترسيخ الفكر الفلسفي المعاصر الذي يدفع الإنسان إلى التعالي وتجاوز ذاته على الدوام وتمكينه بالتالي من تجاوز أنساقه الثقافية المهيمنة عليه بفعل الزمن والتراكم، وثانيا، على الإسهام في تأسيس علاقة جديدة تربط الفكر المغربي بعصر تحولات العالم وحركية الفكر العالمي من خلال الاجتهاد في خلق الآليات لتوليد المفاهيم والأفكار الجديدة على أساس التعدد والاختلاف وتوطينها ترابيا. وفي هذا المحور نقترح النقط التالية كمجالات للبحث والفعل الميداني: * بلورة إستراتيجية لتعميم التربية العلمية داخل الأسرة، واقتراح السبل لتنفيذها ميدانيا. * تعويد الأجيال الصاعدة على مباشرة النقد البناء القادر على استيعاب الذات في تاريخيتها، واستيعاب العصر في زمانيته المفتوحة على زمانية الخصوصي والمحلي. * تفنيد دعوات سدنة التراث التقليدي وحراسه إلى الاكتفاء بحفظ التراث وتقعيده، ثم حفظه ونظمه، ثم حفظه وذكره (تعطيل وظيفة التفكير كوظيفة عقلية وتحويل ذهن الفرد المغربي إلى ذاكرة، والفهم إلى حفيظة، والمعرفة إلى تذكر واستظهار). * تربية الأجيال الصاعدة على الجرأة الفكرية والبلاغة التأويلية وطرح التساؤلات بشأن المسكوت عنه واللامفكر فيه في التراث المجتمعي بشقيه النصي والسلوكي. * تقوية مفهوم الأنسنة في حياة الأطفال والشباب من خلال تجسيد روح الانفتاح، والعقلنة، وتنمية الفضول العلمي والحسي النقدي، وترسيخ القيم الجمالية الجديدة لديهم، وتمكينهم من توسيع النقاش بشأن الإشكاليات الفلسفية المعقدة، وتأهيلهم على إعادة توليد المعاني والدلالات الحداثية من النصوص الدينية والتراثية. * ترسيخ الاقتناع بكون المعرفة التي يكتسبها الإنسان عن الواقع تتم بشكل جدلي. ليس هناك الفكر من جهة، والواقع من جهة، مفصولين أحدهما عن الآخر، بل هناك رابطة بينهما هي أساس المعرفة، هذه الرابطة هي الفعل البشري. الفكر يتفاعل باستمرار مع الواقع المجتمعي وينتج وعيا مجتمعيا يصبح بدوره متغيرا، يتفاعل مع الفكر مجددا ويحدث تغييرات في الوجود الاجتماعي، وهكذا ودواليك. 4. دعم وحماية المكتسبات في مجال الحداثة والديمقراطية: ويتطلب الأمر في هذا الباب تتبع السياسات العمومية، والخطابات الرسمية وغير الرسمية، ومختلف التدخلات والمداخلات، وتحليلها، وفتح النقاش بشأنها، وإصدار المواقف الفكرية المناسبة في مجال حماية ودعم المكتسبات في مجالات التحديث الثقافي والسياسي من خلال الإسهام في دعم منظورات جديدة للحاضر والمستقبل داخل المجتمع على أساس العقلانية، ومناهضة الجمود والنزعات التي تطمح إلى تحويل الجانب الثقافي بالمغرب إلى نسق مهيمن بثوابت ميتافيزيقية غير مبررة لا عقليا ولا إنسانيا، نسق يمجد الأصول على مستوى التمثلات الخيالية، ويطمح رواده إلى جعل كينونة الإنسان المغربي كينونة بالتبعية مفصولة عن الحداثة لخلق الغموض في الرؤية المجتمعية إزاء الحداثة كصيرورة. وفي هذا الباب سيركز المركز على ما يلي: * المواجهة الفكرية لدعوات الهروب إلى الوراء والاستسلام لضغط الدوائر المغلقة، وكذا للاختيارات الراديكالية المتطرفة التي تدعو بدون مبررات مقنعة إلى القطع النهائي مع التراث وسط مجتمع يجد أفراده صعوبة لمغادرة زمانه. وبعبارة أخرى، نطمح أن يلعب المفكرون والباحثون والمثقفون في هذا الشأن دور الحامي لمسيرة التطور المتدرجة لتجنب وقوع مجتمعنا في ارتكاسات وتراجعات لن تسمح بتخطي العقبات بسرعة ويسر. * المواجهة المعرفية للغة الخشب التمجيدية والطوباوية، والإسهام في التحرر التدريجي من كل ما هو ميث ومميت في المعتقدات المجتمعية. * الإسهام في دراسة وتحليل كل القضايا العالقة والإشكاليات والمستجدات المرتبطة بالتحولات السياسية والمجتمعية في بلادنا وإصدار المواقف الفكرية الملائمة في شأنها. * اعتماد النقد المركب والأسئلة المركبة للكشف عن محدودية الفكر التقليدي في مجالي الثقافة والسياسة، وتفكيكه وتشريحه، وفتح المجال للاجتهاد الفكري في بؤر التراث الساخنة المثيرة للجدل غير المبررة عقليا. * الكشف عن مظاهر الاستبداد في الكتابات السياسية، وفي الآداب السلطانية، وفي خطابات تيارات رعاة التقليد، وتحرير الإنسان المغربي من كل ما هو ميت أو متخشب والذي يطمح البعض إلى ترسيخه والحفاظ عليه في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي بدون مبررات لا عقلية ولا دينية. خاتمة إن بلادنا، وما حققته من مكتسبات سياسية مقارنة مع محيطها الإقليمي والجهوي، تحتاج اليوم بما لا يفيد الشك إلى تعميق البحث على مقومات جديدة لترسيخ الفكر العلمي والعقلانية في المجتمع. إنها الحاجة أولا إلى إعادة قراءة الرصيد الفكري الفلسفي لإنضاج قراءة يكون لها تأثير إيجابي على مسار بناء المشروع المجتمعي الذي نريد، قراءة خاصة تتجاوز تقليد التجارب (الفكر الماركسي وقراءات كل من لينين، وأنجلز، وماوتسي تونغ، وآخرون، وتطورات الفكر الرأسمالي النيوليبرالي،....)، وتتحرر من قيود التراث العقيمة، وتعتمد النقد بكل تجلياته، قراءة تؤسس لفكر سياسي وثقافي جديد على أساس العقلانية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. منهجيا، نطمح إلى الاعتماد على الجدل والمنطق الجدلي وسيادة العقل في عملنا للإسهام في التطور الدائم للفكر والثقافة في بلادنا بالشكل الذي يضعف تدريجيا منطق الثبات والجمود، وخطابات الوعظ والإرشاد المستغلة للعقول الضعيفة. ومن أجل ذلك، سنحرص على التركيز على تجميع القوى الفكرية والعلمية للإسهام بقوة في بلورة تركيبة فكرية جديدة في بلادنا، تركيبة بفكر عملي يساهم في تقوية التفاعل الإيجابي داخل المجتمع، وفي تسريع وثيرة التمرس المجتمعي على الديمقراطية. منطلقنا في البحث، من أجل إعلاء شأن العقل والتقليل من معارف الحواس غير اليقينية، هو إعطاء الأولوية للفكر وارتباطاته بالواقع الاجتماعي والتاريخي والاقتصادي، وجعل هذا الأخير الأساس الذي يقوم عليه البناء الفكري الجديد. إنه رهان بلورة منطق جديد يضمن التفاعل المستمر بين الفكر بأبعاده المختلفة والواقع المغربي. فواقعنا ليس شيء من لا شيء، بل هو نتاج حضاري وعقائدي خضع لتقلبات في المنطق السياسي عبر العصور، وتفاعل مع حضارات أخرى عبر التاريخ، وأصبح واقعا لاحقا لواقع سابق بشقيه المحلي والعالمي.