من خلال تتبعنا للنقاشات التي عرفها المغرب منذ تعيين حكومة التناوب التوافقي سنة 1998 بشأن تقابل «الحداثة/التقليد» في الحياة السياسية والثقافية بالمغرب ومدى تأثير الثقافي على السياسي، والتي اشتدت حدتها مع الحكومة الجديدة المنبثقة عن الانتخابات التشريعية ل 25 نونبر 2012، تبادر إلى ذهننا فكرة حاجة بلادنا إلى مؤسسة مدنية وطنية تختص في البحث في مختلف مكونات الهوية المغربية للوقوف على مقوماتها الحداثية وأبعادها الديمقراطية والتضامنية. إن الدافع الأساسي الذي جعلنا نفكر في هذه المبادرة هو إحساسنا بحاجة بلادنا إلى فضاء بحثي وتوثيقي يستوعب جميع المبادرات والطاقات الفكرية والعلمية والثقافية والتربوية في مجالات الهوية والحداثة والديمقراطية وعوائقها «التقليدانية» وتجميعها وتعميم الفائدة بشأنها لتشمل الفئات الواسعة من المجتمع عبر جميع القنوات الإعلامية المكتوبة والسمعية والبصرية والإلكترونية. الهدف العام من التفكير في خلق هذا الفضاء هو تحرير الإرادة والعواطف والمعاملات من التقليد أي تحرير الإنسان المغربي من الماضي المكبل للمبادرات والتفكير، وتعبئة إرادته كي ينطلق بدون هوادة نحو التحديث، ويساهم بالتالي مع باقي الأمم في تحويل العالم إلى «فضاء محايد» لا مجال فيه لإقصاء الآخر باسم النزعات الهوياتية، فضاء يتسع لتنافس كل الهويات وحوارها في أفق تقوية هوية جامعة مرسخة شعبيا تجسد قدرة الأنا على مشاركة الآخر في تصميم وتشييد التاريخ المشترك للفلسفة والفكر. إن الواقع الثقافي لمجتمعنا في حاجة إلى بذل المجهودات البحثية الضرورية لتمكين ذاته من التموقع ثقافيا وفكريا في مسار التحديث الكوني، تموقع يتطلب في نفس الوقت استحضار الآخر القريب وهو التراث العربي الإسلامي العتيق، ويضمن التفاعل القوي المطلوب مع الآخر البعيد ممثلا في الغرب كرمز للحداثة المعاصرة وما بعدها. هذا التموقع يبقى في نظرنا مرهونا بمدى تقوية الوعي عند المجتمع بثقافته العتيقة ومعرفتها معرفة جيدة والتحرر من مكبلاتها، وبالتالي السير بالوثيرة المطلوبة لمعانقة الحداثة، وعي يمكن هذه الأخيرة من التسرب إلى مسام ذواتنا بقناعة ثقافية وفكرية. كما نعتبر أن ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية أصبح اليوم لا يسمح لنا بالتماهي مع الآخر القريب (التراث العربي الإسلامي العتيق)ّ، وفي نفس الوقت يفرض على ذواتنا الانفتاح على الآخر الغربي لمحاورته والتواصل معه باستمرار والاستفادة من منجزاته ومقومات ثقافته بدون المس بمقومات هويتنا المتنوعة والغنية بأسسها التضامنية والثقافية والفنية والإنسانية. وعليه، نريد من هذه المؤسسة أن تكون فضاء للبحث الفكري والثقافي يسهل رحلة الذات المغربية نحو الآخر بدون السقوط في أوضاع «الإستيلاب» (ضمان استقلالية الذات وانفتاحها على الآخر). إنها الحاجة، كما جاء في كتابات محمد المصباحي، إلى البحث من أجل إبراز مقومات الانفتاح في هويتنا بالشكل الذي يمكن الذات المغربية من التفاعل مع الآخر والتواصل معه، والبرهنة كون قولها الفلسفي والفكري لا يمكن أن يكون إلا منتوجا مشتركا للآخر القريب والبعيد، وأن تطوره يبقى مرهونا إلى حد بعيد بمدى ضمان ديمومة التواصل والحوار ما بين الحضارات والأفكار. إنه رهان تحقيق راهنية واستقلالية الفكر الفلسفي المغربي وخصوصيته، دون السماح بحدوث ما من شأنه أن يساهم في انغلاقه على ذاته ويفقده علاقته بالآخر «القريب» ممثلا في التاريخ الفلسفي العربي المغاربي الإسلامي، أو بالآخر البعيد ممثلا في تاريخ الفلسفة الغربية الحديث المعاصر. وعليه، وتعميما للفائدة، وطموحا في فتح نقاش واسع في هذا المجال، ارتأينا نشر مشروع هذه الورقة الأولية بشأن مشروع خلق هذه المؤسسة لتكون، بعد إغنائها بملاحظات القراء واقتراحاتهم، أرضية سيتم طرحها في جمع عام، سيتم الإعلان عن تاريخ انعقاده لاحقا، كمنطلق لتأسيس ما نقترح أن نسميه المركز الوطني للبحث في الهوية والحداثة والديمقراطية بالمغرب. منطلقنا، كما سبق الإشارة إلى ذلك أعلاه، يتجلى في كون التطورات التي عرفها ويعرفها المغرب تؤكد اليوم، بما لا يفيد الشك، أن المجتمع المغربي لا زال يعاني من عراقيل ثقافية تقف عائقا حقيقيا أمام المساعي والمجهودات التحديثية. إنه وضع مقلق يتزحزح إلى الأمام بوتيرة لا تتماشى والرهانات المنتظرة. ويرتبط هذا البطء في التغيير، كما تم تأكيد ذلك في عدة كتابات وبحوث، بقوة التساكن غير الطبيعي بين ثلاث قطاعات أو أنماط من الحياة الفكرية والمادية والعقائدية داخل المجتمع (وكأن هناك ما يشبه حدود فاصلة فيما بينها). الأول «عصري» مستنسخ من النموذج الغربي (الفرنسي على الخصوص) ويفتقر للمرتكزات الفكرية والآليات العملية والتقنية لترسيخه مجتمعيا، وبذلك يبقى قطاعا نخبويا مبتعدا عن الواقع الثقافي الشعبي الذي يجر أكثر إلى الوراء. والثاني إيديولوجي «تقليدي» أو «أصلي» أو «أصيل» منغلق مرجعيته في الماضي البعيد، ولا يرى الخلاص من التخلف إلا بالرجوع إلى الوراء، أي إلى أقوال وأفعال السلف الصالح. والثالث تمثله القوى الحية في البلاد التي لا تدخر جهدا من أجل التقدم في مجال تحقيق التناغم ما بين الفكر والواقع، ومن تم تحقيق التراكمات المطلوبة، بتدرج تصاعدي، في مجال الحداثة والديمقراطية والحرية. والحالة هاته، فبالرغم من التراكمات الملموسة التي تم تحقيقها في المجالات السياسية والاقتصادية منذ أواخر التسعينات، لا زالت القوة «الاستهلاكية» في المجتمع للخطاب «التراثي» التقليدي تقاوم كل المساعي الجادة المؤسساتية منها والمجتمعية المراهنة على الرفع من وثيرة التقدم في المسار التحديثي بالشكل الذي تتوطد من خلاله العلاقة بين الفكر والواقع. الغريب في الأمر أننا اليوم نتعايش مع هذه الفرملة، التي لا تعطي أي قيمة للزمن في التطور الحضاري، في زمن تأكد فيه أن الصراع الذي عرفه التاريخ السياسي والاقتصادي الإنساني، والذي قابل تيارين متضادين الأول بتوجه مادي والثاني بتوجه روحي مثالي، أصبح أّمرا ثانويا. الأهم بالنسبة لأجيال اليوم هو الاستفادة من كل ما أنجزته الإنسانية وتطويره لتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي بالشكل الذي يتماشى وتطلعات الشعوب. فالاختلاف بين من يدعي قدم العالم ومن يدعي حدوثه ما هو إلا اختلاف طبيعي تضمنه مبادئ الوجود الإنساني المبنية على العقل، والحقوق، والحريات. فهذا الاختلاف لا يضع الموقفين في وضع تقابلي «تصارعي»، ولا يمكن أن يكون أرضية لتوجهات سياسية في المجتمع، لأن في كلتا الحالتين لا يمكن الانطلاق إلا من فرضية. وهنا لا بد من استحضار كلام المفكر ابن رشد الذي اعتبر أن من ينطلق من قدم العالم كفرضية يستنتج ما شاء من النتائج، ومن يستند على فرضية حدوثه يستنتج منها ما شاء من النتائج، الأهم، بالنسبة لهذا المفكر، هو أن تتفق النتائج مع بعضها البعض، وهو أمر ممكن ما دام هدف كل من العقل والوحي هو الوصول إلى الحقيقة، وما داما يجعلان منها الهدف الذي يسعى إليه الإنسان (الإنسان على المستوى الفردي يجتهد ويطمح إلى الوصول إلى الحقيقة المطلقة أو الاقتراب منها حسب منظوره الخاص ويساهم في النقاش بشأنها قدر إمكانياته الفكرية والعلمية، وسيستمر هذا الاجتهاد في البحث عنها والنقاش بشأنها إلى يوم فناء الكون). وأمام هذا الوضع، تحتاج البلاد إلى فضاء مفتوح للبحث في كل جوانب الهوية المغربية بتراثها الثقافي والعقائدي واللغوي والشعبي، وفتح النقاش الفكري الواسع في تشكلها ومقوماتها وروابطها التاريخية الممكنة بالحداثة، أي البحث على المرتكزات من أجل تحقيق التأصيل الحداثي في ثقافتنا المغربية من خلال تمتين الارتباط الواعي في هويتنا بين التراث الفلسفي، والتراث العربي الإسلامي، والتراث الأمازيغي، والتراث الصحراوي والحساني، وروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية، وبالتالي إجلاء الغموض المفتعل الذي يكبل العقل والمبادرات. دوافعنا للإسهام في هذا المجال نابعة من اقتناعنا الثابت والراسخ بكون الحداثة هي صيرورة تاريخية لا مفر منها, سواء كنا معها كأنصار للتحديث أو كنا ضدها كأنصار للتقليد. الحداثة، بالنسبة لنا، هي صيرورة متواصلة في الزمان والمكان، أي أنها في البداية والنهاية حركة تاريخية كبرى تتقاذفها موجتان لا تهدئان عن الاصطدام والتقاطع والتفاعل والتكامل في جدلية دائمة خلاقة دائبة، بحيث كل جديد حديث يولد من رحم المتقادم المستنفد سعيا لتطويره وتحديثه. فما يعرفه العالمين العربي والمغاربي من تحولات وتقلبات، ومن تضافر وتفاعل لعوامل داخلية وخارجية، يستدعي اليوم تعميق البحث وتوسيع النقاش لتمكين المغرب، بمكتسباته السياسية والثقافية، من مواكبة التطورات التي يعيشها العالم والاستفادة منها، ومن تم تعزيز موقعه الثقافي والتنموي إقليميا وجهويا ودوليا من خلال تمكينه من الشروط والإمكانيات المختلفة من أجل التقدم المستمر في تقوية مقومات مجتمع الديمقراطية والحداثة المتعايش مع ثقافات وحضارات مختلف الشعوب والأمم. وفي هذا المضمار، واستحضارا لمختلف التشخيصات المنجزة والاستنتاجات المستخرجة في مجال دراسة وتحليل التراث المغربي والعربي بمختلف مكوناته، تبين لنا أن العمل في هذا المجال يجب أن يتمحور حول إشكالية مركبة تتكون من إشكاليتين فرعيتين، الأولى متعلقة بالماضي، والثانية متصلة بالحاضر والمستقبل. بهاتين الإشكاليتين الفرعيتين، ستكون المؤسسة البحثية التي نطمح إلى تأسيسها في القريب فضاء للتفكير الفلسفي من أجل ترسيخ مقومات المجتمع الحداثي الديمقراطي والدولة المدنية بالمغرب، وتطوير المنظومة الثقافية على أساس النقد والاختلاف وطرح الأسئلة المقلقة ذات الصلة بمخاض التحول والتطور السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والقيمي للمجتمع المغربي. بالطبع، تحقيق هذا الهدف يبقى مرتبطا إلى حد بعيد بإنضاج المقومات الثقافية للدولة المدنية بتنظيمات سياسية واجتماعية قوية وحديثة، وببنية تحتية حديثة ومتطورة (الاقتصاد: قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج)، وبتحويل الريع إلى اقتصاد مهيكل إنتاجي، وبفتح المجال لحرية التفكير والتحرر من سلطة الجماعة المغلقة، ومن سلطة الفكر المذهبي الطائفي، ومن النزعات المتعصبة، وبنشر الثقافة العلمية والفلسفية وتكريس البحث العلمي ومناهجه نظريا وممارسة، وبالتالي تحقيق التقدم في تجاوز الخطابات والانفعالات الوجدانية الطاغية، وفتح المجال لبناء خطاب العقل والانفعال مع منطق الأحداث وليس إزاء الأحداث.