إن النقاشات التي عرفها المغرب منذ الخروج عن المنهجية الديمقراطية سنة 2002، وما تلاها من تطورات سياسية، تؤكد اليوم بشكل واضح أن هناك مفارقة أو هوة ما بين الخطاب الرسمي بشأن الديمقراطية والحداثة والواقع الميداني. فالخطاب المتقدم المعنون ب»بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي» وما وازاه من أوراش إصلاحية وتنموية هامة، لم تنعكس تأثيراته في الواقع بالشكل المطلوب. فالواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي وتفاعلاته الواعية وغير الواعية مع منطق ممارسة السلطة بالمغرب لم ينبثق منه روح وطنية سياسية مجتمعية في مستوى احتضان مكتسبات المرحلة. فالجزء المتميز في المبادرات التنموية والإصلاحية يبقى بعيدا نسبيا عن تحقيق الأهداف المرتبطة به، هذا البعد الذي تزداد حدته طالما استمر التفكير في الإصلاح والتنمية بمنطق قطاعي تقنوقراطي. فلا يستساغ في زمن الانفتاح والضغط التنافسي الدولي استمرار التنافر ما بين السياسة بأبعادها النبيلة والمنطق التقنوقراطي بأبعاده العلمية الدقيقة. فما يعيشه المغرب من محاولات لتكريس هيمنة الهاجس التقنوقراطي ليس أمرا طبيعيا في السياسة. ففي الديمقراطيات المتقدمة، التقنوقراطية كمفهوم ما هي إلا آلية للتفعيل الأنجع للبرامج السياسية للحكومات التي تمثل الشعب ديمقراطيا. إن المنطق التجزيئي القطاعي التقنوقراطي المروج له إعلاميا وبسخاء بالمغرب سيبقى ناقص المفعول ما لم تواكبه ثورة ثقافية وتربوية مجتمعية، بحيث تتحول الثقافة والتربية العلمية إلى آليتين لترسيخ الوعي بالسياسة. إن ما يعرفه المغرب من اشتداد لحدة الممارسات الفاسدة والركود في المجال السياسي لا علاقة له بحضارتنا وخصوصيتنا التاريخية، خصوصية مكنت السياسة دائما من أن يكون لها طعم ومعنى ولو في زمن سنوات الرصاص ومعاناتها. وأعتقد هنا، أنه حان الوقت للوقوف وقفة تقييمية لهذا المسار لخلق شروط جديدة لإنجاح الأوراش المحورية المفتوحة وعلى رأسها مشروع الجهوية الموسعة. لقد حان الوقت لفتح النقاش الواسع بشأن تاريخ خصوصيتنا وتحويل مقوماتها الحداثية إلى ركيزة في بلورة استراتيجياتنا المستقبلية الداخلية منها والخارجية. نقول هذا لأننا متأكدين من كون قضايا الخصوصية والهوية والحداثة والتنمية والوطنية هي موضوعات سياسية متشابكة ومتداخلة، وأنه لا يمكن النجاح في بناء مشروعنا المجتمعي إلا من خلال تفكير متشابك يشمل كل القضايا السالفة الذكر، تفكير شمولي انتقائي في مجال التراث يتجاوز الفكر التقليداني ويحول الترابية إلى ذكاء مجالي له جذور في ماضي منجزات الأجداد، وواع بتراكمات الحاضر، وقادر على استشراف المستقبل. إن المجتمعات الترابية لها معرفة محلية ليست وليدة اليوم بل جذورها تاريخية وضاربة في القدم. كما أن الحياة المجتمعية في مجموع التراب الوطني من طنجة إلى لكويرة ليست وليدة اللحظة الزمنية الراهنة، بل هي حياة مرحلة بأكملها تطورت في القرن التاسع عشر واستمر تطورها في القرن العشرين ويستمر في القرن الواحد والعشرين. وعليه، فما يعرفه الحاضر المباشر لهذه المجتمعات من تدخلات تقنوقراطية، والمنفصلة على الإيديولوجيات السياسية ذات المقومات الفكرية والثقافية والتاريخية، لا يمكن أن يكون لها تأثيرات إيجابية قارة ودائمة إلا بالرجوع إلى السياسة بآليتي الديمقراطية والحداثة والفكر. إنها حقيقة استحالة التفكير في الحداثة والتنمية بدون تثبيت الخصوصية والهوية. فتعامل المواطن المغربي مع الثورة المعلوماتية والتكنولوجية والغزو الثقافي لا يمكن أن يتم بشكل عشوائي وفي غياب استراتيجيه سياسية واضحة للدولة. إن النهضة المغربية لا يمكن أن تحقق أهدافها بشكل مستدام إلا إذا تم استحضار الخصوصية في تطور الفكر الإصلاحي النهضوي في بلادنا في إطار منطق الاستمرارية وليس القطيعة الجذرية ذات الأبعاد التطرفية. وهنا نرى أنه لا بد من الاستفادة من دروس التاريخ المشرقي الذي أثبت بشكل واضح فشل المحاولات المتكررة لترويج الفكر الليبرالي والدعوات المتكررة إلى القطيعة مع الماضي، وبالتالي مع التراث. يذكرنا هذا التاريخ كذلك بردود الأفعال المضادة والعنيفة أحيانا. وموازاة مع هذه الإخفاقات المشرقية، عاش المغرب خصوصية جعلت منه بلدا حافظ على استقلاله السياسي خارج الإمبراطورية العثمانية، ومكنت المجتمع المغربي من مقاومة مفعول الخلفيات السياسية والإيديولوجية التي كانت وراء نشوب الصراعات بالمشرق. لم يتعارض في حياة المجتمع المغربي الإسلام والعروبة، بل ظلا يشكلان ثقافيا وتراثيا شيئا واحدا إلى أن تحول الإصلاح والتحديث إلى أساس ثقافي قوي قامت عليه الحركة الوطنية. إنها الخصوصية التي مكنت هذه الأخيرة من التقدم في التحديث السياسي لسلوكيات الفرد والجماعة ترابيا وفي نفس الوقت مقاومة الحماية ومن تم تحقيق الاستقلال في زمن قياسي. واعتبارا لما سبق، واستحضارا للواقع السياسي الذي نعيشه، نعتقد أن المغاربة يعيشون مرحلة حرجة تعبر عن وضع ثقافي وسياسي غامض يساهم في استفحال حدة القطيعة مع الخصوصية المغربية. إن الثقافة المجتمعية لن تصنع في «المعامل» و»المختبرات»، بل تتطور في إطار الاستمرارية والتوجيه الفكري والسياسي لكونها مرتبطة بتاريخ المجتمعات بتعبيراته الوحدوية والائتلافية وبصراعاته واختلافاته. إن طي صفحة الماضي الأليمة، كقطيعة مع منطق العنف المؤسساتي، يعتبر حدثا تاريخيا محوريا في تاريخ المغرب السياسي المعاصر ويجب أن يجسد منطق الاستمرارية الذي فرض رسميا، كشعار عنون بداية مرحلة التوافق السياسي في مرحلة التسعينات، إعادة النظر في منطق ممارسة السلطة بالمغرب، سلطة يطمح الفاعلون الأساسيون في البلاد إلى ربطها بالإرادة الشعبية بمقومات سياسية أساسها الديمقراطية والحداثة، وسلطة فكرية أساسها الثقافة والعلوم المختلفة. وعكس السياسي المحكوم بمرجعية إيديولوجية فكرية، وبتنظيم سياسي بقوانين أساسية وداخلية تحدد قواعد طبيعة انتماءه الحزبي، وببرامج سياسية واضحة يتعاقد من خلالها مع الناخبين، التقنوقراطي لا مرجع له في مجال السياسة، وقوته مستمدة من المعرفة والفعالية المسخرة لخدمة رجال السياسة والاقتصاد. وهنا، لفت انتباهي مقال في جريدة أخبار اليوم عدد 300 بتاريخ 27 و28 نونبر 2010، بشأن كتاب لحسن أوريد تحت عنوان «مرآة الغرب المنكسرة» حيث ورد فيه في موضوع التقنوقراط ما يلي:»لا يوجد التقنوقراطي لذاته، بل من داخل منظومة أو مؤسسة... هو إنسان الأجوبة لا الأسئلة... التقنوقراطي يتحرك في مجتمع تطبعه المنافسة الشرسة. ومع ذلك، حتى في المجتمعات المتقدمة لا يعفى التقنوقراطي من تمرين التودد، هو من يحوم حول رجل المال أو السياسة... تقنوقراطي اليوم بمثابة مرتزق حكام إمارات إيطاليا إبان عصر النهضة، مستعد أن يخدم أيا كان. ليس للتقنوقراطي ولاء ثابت، لذلك فهو لا يجد غضاضة أن يتحول حيثما تكون مصلحته: ليس له ولاء لحزب، أو لمنظومة فكرية، أو حتى لوطنه. ما يطبع التقنوقراطي هو براغماتيته في الغالب، فهو نفعي وكلبي Cynique، يدور مع الزمان ويلتئم مع الأوضاع، لا يتحرج من التناقض، ولا من الدفاع عما لا يؤمن به... ويفعل ذات الشيء تقنوقراطيون مع رؤسائهم. ليس بالجلافة التي يقوم بها المتملقون كما في الحاشيات، كلا، يسبغون قولهم ظاهريا من الموضوعية والمهنية...». وأضاف في عدد 302 ليوم 30 نونبر 2010 على صفحات نفس الجريدة :» البنية الذهنية للتقنوقراطي، الذي أخذها من تكوينه، هي وفق قوالب أو سيناريوهات، ولا ينظر إلى الواقع إلا من خلال القوالب الجاهزة أو من خلال السيناريوهات. المهم ليس الواقع، وعلى الواقع أن يخضع للقوالب، وينصهر فيها. ما يفيد الطالب الذي يتهيأ لأن يكون تقنوقراطيا هو نفسية شرسة، بل عدوانية... لا مكان للعفة وللأنفة، بل هي سمات لا يمكن أن ترقى بصاحبها، سواء فيما يخص التكوين أو فيما يخص الارتقاء في العمل... فغالب الذين يتولون مسؤوليات من التقنوقراطيين في العالم الثالث ليس لهم مسار سياسي أو فكري يرتبط بهموم مجتمعاتهم وقضاياهم. وهم يعتبرون دائرة عملهم هي الحقيقة، وهم يربطونها والفهم وما ينبغي أن يكون، ولا يقبلون أن يصدر شيء مخالف لما يرونه، وهم يدافعون بشراسة عن مقارباتهم، التي تكون في الغالب قد فرضت عليهم فرضا من قبل مؤسسات دولية أو حكومات غربية، وهم يفرضونها بدورهم على مجتمعاتهم قسرا. وتبقى السلطة أهم شيء بالنسبة إليهم، أهم من الأحاسيس العامة، وأهم من الواقع، وهم مستعدون لكل شيء من أجلها. إن عيوب التقنوقراطي في الغرب مهما جلت، يحد منها توزع مراكز القرار، ووجود مراكز سلطة مضادة، ومجتمع مدني قوي وصحافة مؤثرة... أما في العالم الثالث، فسطوة التقنوقراطي تصبح نوعا من الاستبداد الظلامي Despotisme non-éclairé ، ذلك أنه استبداد لا يفضي إلى حل ما يتخبط فيه المجتمع من فقر وفوارق اجتماعية وتخلف. فهو، في الغالب، مجثث الجذور عن بنية مجتمعه وجدانيا وثقافيا، فهو من حيث أصوله ينتمي إلى الأرستقراطيات أو إلى الأسر العريقة، أو البيروقراطيات القديمة، وهو بحكم تكوينه في الخارج أو تمثله لبرامج خارجية يعدم الصلة الوجدانية مع المجتمع ومع الواقع، وهو ثقافيا بعيد عن ثقافة المجتمع... وحينما يخفق في كل ما لوح به من مقاربات وتصورات ينحى باللائمة على الواقع، وعلى من يعبر عن الواقع، وينعته بهذا النعت الذي يحمل حمولة إيديولوجية «الشعبوية». وعليه، نقول في الأخير، أن حياة المجتمع المغربي وآفاقها المستقبلية لا يمكن أن تكون مرتبطة إلا بالسياسة. فبالأحزاب السياسية القوية تتكون السلط المضادة ترابيا وتتشكل التنظيمات غير الحكومية الفاعلة، ويتقلص التباين في سلطة التقنوقراط ترابيا. إن مشروعنا، يحتاج إلى منطق تقنوقراطي في خدمة السياسة بحيث يجد التقنوقراطي نفسه في وضع اضطراري للتكيف مع الإرادة السياسية الشعبية عوض التحكم فيها والتجبر عليها كيف ما كانت طبيعة المجال الترابي الذي يمارس فيه سلطته ، سواء تعلق الأمر بالمدن الصغيرة أو المتوسطة (سيدي قاسم، وزان، أحد كورت، العرائش،....)، أو بالمدن الكبرى (الدارالبيضاء، الرباط، مراكش، أكادير،...) أو بالعالم القروي.