هل السياسة أخلاق, كما قال القائد التاريخي للاتحاد المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، وذلك انسجاما مع القيم الديمقراطية المؤسسة للفكر السياسي الحداثي، أم أن السياسة ممارسة براكماتية لا تعترف بأية مرجعية قيمية ويحكمها في البداية والنهاية المنطق الميكيافيلي الذي لا يعير للقيم أي اعتبار. في الواقع تختلف الإجابة عن هذين السؤالين باختلاف مذاهب ومرجعيات الفاعل السياسي فردا كان أم جماعة, فمن الطبيعي ان تتبنى الاتجاهات السياسية الحاملة لمشاريع مجتمعية تقوم على الاستغلال الطبقي وقيم الربح والمنافسة، المنظور البراكماتي للممارسة السياسية ضاربة عرض الحائط كل القيم الإنسانية من قبيل التضامن والعدالة الاجتماعية والوفاء للمثل الإنسانية الكبرى وعلى النقيض من ذلك فإن الاتجاهات السياسية ذات البعد الإنساني والمدافعة عن قيم المساواة والحرية والديمقراطية في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي مقدمتها الأحزاب اليسارية على اختلاف تلاوينها لا يمكنها إلا أن تمارس السياسة على أسس أخلاقية سامية. ولأن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ينتمي تاريخا وفكرا وممارسة إلى الصنف الثاني فإنه بنى شرعيته بالدرجة الأولى على منظومة من القيم وعلى منظومة أخلاقية وفكرية قوامها الدفاع عن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وقد تأسست علاقته بالشعب كما تأسست علاقاته الداخلية )بين القيادة والقواعد، وبين المناضلين أنفسهم( على نظام أخلاقي عماده الصدق والوفاء للمبادئ المؤسسة للمشروع المجتمعي المشترك والتقدير المتبادل بين المناضلين والتضحية بالمصلحة الشخصية خدمة للمشروع الحزبي، والإيمان بحق الاختلاف، والتضامن الأخوي لمواجهة المحن والاعتراف بالخطأ مع ممارسة النقد الذاتي عند الضرورة إلى غير ذلك من قيم الحركة الاتحادية الأصيلة. وقد كانت هذه القيم صمام أمان لوحدة الحزب ومصدر قوته المعنوية وضميره الجمعي الضابط لسلوك المناضل الاتحادي في كل مجالات الفعل النضالي. ولذلك صمد الاتحاد أمام كل محاولات الاجتثاث والتمييع كان ذلك زمن المواجهة الشرسة مع حمالات القمع والتدليس يوم كان الاتحاد الحافظ الأمين لقيم شعبنا الأصيلة والمدافع الطليعي عن طموحات الشعب وحقوقه في العيش الكريم. فأين الاتحاد اليوم، على مستوى سلوك مناضليه وعلاقاتهم فيما بينهم وبينهم وبين المواطنين من تلك المثل التي جسدها المهدي وعمر وعبد الرحيم في امثل صورها. إن من يعيش عن قرب الحياة الداخلية للحزب لا يمكنه إلا أن يسجل على مضض تراجع تلك المثل أمام بروز وهيمنة قيم أخرى اقل ما يمكن أو توصف به أنها بعيدة عن قيم الاتحاد كحزب اشتراكي ديمقراطي وحداثي. من ابرز ما يسود الاتحاد اليوم من قيم يمكن الإشارة الى أولوية المشروع الشخصي عن المشروع المشترك والبحث عن تحقيق الذات ولو على حساب الذات الجماعية ناهيك عن قيم الولاء لمن يملك سلطة مادية أو معنوية والبحث عن الارتقاء الاجتماعي والاغتناء المادي والجاه عبر تبوء مواقع في المؤسسات المنتخبة وبدواوين الوزراء يوم كانت لنا وزارات لذلك شاعت داخل الحزب وتنظيماته قيم الانتهازية واقتناص الفرص مما أدى حتما إلى تفجر صراعات مستعصية على الحل تنظيميا ولم يعد الحزب قادرا على احترائها. ومن تم يمكن القول أن الاختلالات التنظيمية والصراعات المدمرة أحيانا تعود أساسا الى انهيار منظومة القيم التي تأسست عليها الحركة الاتحادية. ولعل الصراعات التي تنفجر بقوة لحظة الانتخابات الجماعية والتشريعية من جهة ولحظة الاستحقاقات التنظيمية الداخلية من جهة ثانية أحسن دليل على عمق الأزمة الأخلاقية التي يعرفها الحزب ولأن هذه استحقاقات الانتخابية أو التنظيمية هي المدخل الأساسي للغنيمة أو لامتلاك السلطة الحزبية المؤدية إلى مواقع الانتفاع المادي، فإنها لحظات تكثف التناقضات الداخلية وتجسدها في أبشع صورها ومن هذه الصور المؤلمة الاصطفافات غير المفهومة والتي لا تستند لأية اقتناعات فكرية أو سياسية مشتركة، وإنما تستند إلى علاقات سطحية آنية وأحيانا إلى أسس لا علاقة لها بالحداثة كالولاءات القبلية والارتباطات العائلية وغيرها. يجد هذا الواقع مبرراته في ما عاشه الحزب خلال عقد من الزمن أو يزيد من تيه سياسي وعبث تنظيمي ضمن مجتمع مأزوم على كافة الأصعدة تحولت فيه السياسة إلى حرفة ومطية للارتقاء الاجتماعي خلال هذه الصيرورة ضعفت سلطة الحزب التنظيمية والرمزية لتقوى بديل عنها سلطة الأشخاص وخاصة أولئك الذين يوجدون في مركز قرار ما (مكتب سياسي، مؤسسة منتخبة...) تأسيسا على ما سبق يبدو أن إصلاح أوضاع الحزب وتمكينه من استعادة نجاعته السياسية والتنظيمية و بالتالي إعادة الارتباط الصميمي بالشعب المغربي لن يتحقق دون القطع مع القيم الدخيلة والعودة إلى الفكرة الاتحادية الأصيلة بكل ما تحمله من قيم ثقافية وأخلاقية.قد يرى البعض في هذه الأطروحة دعوة أخلاقية مستحيلة التحقق وقد يكون الأمر في بعض جوانبه كذلك, لكن على الاتحاديين قاطبة اليوم وعلى المؤتمرين خاصة في طليعتهم المترشحون لقيادة الحزب( مكتب سياسي ولجنة إدارية) أن يحرصوا على إحياء هذه القيم وحماية المؤتمر من كل انزلاقات على هذا المستوى بالذات حتى لا يحدث ما حدث في مؤتمرات سابقة هي قريبة من ذاكرتنا الجماعية: انسحابات، وانتفاضات أو على الأقل احتقان داخلي لم نتمكن من تجاوزه إلا عبر توافق الفرصة الأخيرة ,فعلى الاتحاديات والاتحاديين أن يمارسوا الديمقراطية في اجل صورها, أي الحوار الفكري العميق والإنصات للرأي الآخر وإعمال الآليات الديمقراطية ترشيحا وتصويتا إلى القبول بنتائج الاقتراع ثم الانخراط الجماعي بعد ذلك في إعادة بناء الحزب دون إقصاء أو شعور بالغلبة والانتشاء بالانتصار من قبل الأغلبية ودون حقد أو ضغينة من قبل الأقلية.