جاء الحلفاء ليعلنوا في ميثاق الأطلنتي حق الشعوب في تقرير مصيرها ليزيد إثر ذلك من يقظة الشعوب المستعمرة من حيث أرادوا تهدئة أجوائها وتهييئها لاستغلال طاقاتها البشرية والمادية في حربهم ضد النازية. وتلا ذلك حراك واسع بين الوطنيين في تونسوالجزائر والمغرب على الخصوص. وإذا كانت تبدو تونس الأقرب من الاستقلال بعد ليبيا من خلال المعارضة القوية التي شكلها الباي منصف في مواجهة المقيم الفرنسي ( الجنيرال جيرو) والتي أعطت للاستعمار الفرنسي الانطباع بأنها على كلمة واحدة إثر الاجتماع الذي ضم أبرز القوى الوطنية الموجودة بساحة النضال (الدستوريون الجدد والدستوريون القدامى وجماعة الجامع الكبير) فإن الشعب الجزائري في الداخل نهض هو الآخر مطالبا باستقلاله السيد رئيس الجلسة،حضرات السيدات والسادة، أحيي بداية هذا اللقاء الذي هو لقاء المقاومة المغاربية الذي أصبتم فعلا بتنظيمه، وإني لأهنئكم برعاية صاحب الجلالة الملك محمد السادس، فهو ابن المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني المقاوم ورفيقه ابن المغفورله جلالة الملك محمد الخامس المقاوم الذي لم يتردد في التضحية بكرسيه في الحكم من أجل حرية شعبه ووطنه. فقد استمعت بإمعان للسادة الفضلاء الذين سبقوني في هذا الافتتاح، وإني إذ أنوه بما جاء فيها وعلى الأخص منها كلمة السيد الأمين العام لاتحاد المغرب العربي، وحضرتني بعض الأفكار وبعض الخطرات، فأرجو أن أدلي بها إسهاما في هذا اللقاء المغاربي الهام. نعم يجب استحضار كفاحنا الوطني، ويجب استحضار كفاحنا المشترك من أجل استقلال بلداننا، ولكن أكثر من ذلك، يجب في رأيي المتواضع أن نتوجه نحو المستقبل، فالكفاح الذي بات يفرض نفسه علينا هو الكفاح من أجل تفعيل المغرب العربي، إلا أن الوضع اليوم أصعب مما كان. ففي الماضي كان العدو يتمثل في الاستعمار، كان واضحا بينا، أما الآن فالعدو كامن في ذواتنا والنضال المطلوب هو نضال ضد أنفسنا. إنها مقاومة من نوع آخر أعقد ولكنها باتت تفرض نفسها علينا في ظروف دولية جديدة. علينا أن نأخذ أمورنا بأيدينا وأن نتعاون على تفعيل اتحادنا وإلا فُرِضَ علينا الاتحاد بشكل من الأشكال أمام المدِّ العولمي. فليكن الاتحاد يا سادة بإرادتنا لا بإرادة غيرنا.1 واسمحوا لي الآن بالعودة إلى الورقة التي حضرتها لهذا اللقاء المبارك، فأتقدم أولا بالشكر للسيد رئيس مؤسسة الشهيد محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث الذي تفضل فدعاني إلى المساهمة في هذه الندوة المغاربية المشتركة بين مؤسسته الموقرة وبين مؤسسة مفدي زكرياء،وإني لسعيد جدا بحضور هذه الندوة التي أريد لها أن تتمحورحول موضوع " البعد الوحدوي في النضال المغاربي " فبعرضي هذا إذا سمحتم سأتطرق إلى بعض مظاهر هذا النضال عبر تذكير عاجل بعدد من الأحداث المعبرة التي ولا شك تعرفونها، قبل ان أقف عند شخصية أراها نموذجية في إخلاصها لحلم المغرب العربي. هناك قبل كل شيء ظاهرة مشتركة بين جميع البلدان المغاربية وعلى الأخص منها الجزائر والمغرب ويمكن تسميتها بالمرحلةالجهادية 1 - المرحلة الجهادية - بالنسبة للجزائر ابتدأت هذه المرحلة في الجزائرمع الغزوالفرنسي سنة 1830م،كان لهذاالغزو رد فعل لدى الشعب الجزائري الذي لم يرضخ للاحتلال وثار في مناطق مختلفة من التراب الجزائري،وكانت أهم مقاومة واجهت هذا الأخيرتلك التي قادها الأميرعبد القادر بنمحيي الدين. وكانت هذه المقاومة جهادية لأنها كانت ترتكزعلى العقيدة في دعوة الناس إلى الجهاد. وظلت جهادية حتى بعد استسلام الأميرعبد القادرفي دجنبر 1847م أمام حرب الإبادة التي ووجهت بها المقاومة الجزائرية من طرف المريشال بيجو. استمر(الشعب الجزائري)في رفضه للاحتلال الفرنسي عبرثورات متفرقة محدودة في مساحاتهاإلى بدايات القرن العشرين. - بالنسبة للمغرب لم يخضع المغرب من جهته للاحتلال الذي فُرِض عليه بدعوى الحماية التي جاءت تنفيذا لمعاهدة 30 مارس 1912 وجاءت في واقع الأمرلتكرس وضعية كانت قد سبقت هذه المعاهدة،إذكانت جيوش فرنسا قبل ذلك بسنوات قدعسكرت بعدة مناطق من المغرب وعلى الأخص منها المناطق الشرقية والجنوبية الشرقيةوالساحليةالغربيةالتي استحوذت عليها بدعاوى مختلفة كتأمين الحدود التي بات الاستعمار ينسبها إليه على أنها حدوده الغربية وكتأمين الفرنسيين والأوروبيين المستقرين بالمغرب بحجج متنوعة مما جعل مقاومة هذاالوجود تنطلق أيضا باسم الجهاد مع بوادرذلك الاحتلال العسكري وتستمرإلى حوالي 1934-1935 فعندما نقول الجهادلانعني بالضرورة قادة تلك الحركات الذين لم يكونوا متساوين في نيتهم نصرةالدين فلربماكان الجهاد في سبيل نصرةالدين ودفع أدى المسيحيين الذين كان يمثلهم الاستعمارالفرنسي والإسباني غايةعند بعضهم. ولربما كان وسيلة فقط عند بعض ثان أوغاية ووسيلةعند بعض آخرغيرأن الذي لاشك فيه هوأن الشعب كان ينقاد لتلك الدعاوى التي لاتلبث أن تتسع أحياناإلى أن يطلق أصحابهاعلى أنفسهم لقب السلطان ويخطب باسمهم على المنابر، مما يدل في كلتا الحالتين على أن تلك الحركات كانت تأتي لاردَّ فعل عن بوادرالاحتلال وحسب وإنما كانت أيضا لتفرض نفسها بديلا من الحكم القائم حينذاك. من هنا يجب في نظري التمييزبين الحركةالجهاديةالتي ظهرت قبيل الحماية مثل حركة الجيلالي الزرهوني المشتهرباسم "بوحمارة" وأحمدالهيبة بن الشيخ ماءالعينين والعربي الشيخي الملقب"بوعمامة" والعربي الدرقاوي وأحمد بنمحمد بنعبدالله الريسوني وجميعهم قامت حركاتهم على الطرقيةالتي كانت تتمحورحول فكرةالجهاد والذودعن حوزةالإسلام والدفاع عن البلاد في مواجهةالمسيحيين وبين تلك التي جاءت بعدأن وزع المغرب بين فرنسا وإسبانيا كثورة الشريف محمدأمزيان ومحمد بنعبدالكريم الخطابي في الريف شمال المغرب وموحاأوحموالزياني في الأطلس المتوسط وعسوأوبسلام في الأطلس الكبيرالذين وإن ارتكزت حركاتهم دائماعلى فكرةالجهاد فقدأصبحت فيها فكرةالذودعن البلاد ورفض الأجنبي أبرز. وقد يتساءل البعض: أين هوالبعد المغاربي في هذه المرحلةا لجهادية؟ إنه حاضربشكل طبيعي، فماكانت هناك حركة من الحركات الجهادية إلاوكان واجب المسلم نحوأخيه المسلم يفرض عليه أن يهب لمد يد العون في سبيل الله وبالتالي فإن البعدالمغاربي لم يكن شائعا بمفهومه اليوم وإنما كان بعدا دينيا وقوميا،وهوماحدا بالدولةالمغربية إلى مساندة حركة الأميرعبدالقادر صراحة إلى أن كانت الهزيمة النكراءالتي ألحقهاالجيش الفرنسي بالجيش المغربي في معركة وادي إيسلي سنة 1844والتي كشفت بشكل نهائي ضعف المغرب حينئذ سياسيا وعسكريا وجعلت الاستعمارالفرنسي يعمل جديا على اكتساح ا لتراب المغربي ويتذرع بذرائع شتى لاحتوائه،غيرأن هذه الهزيمة لم تمنع من ظهورحركات جهادية ربطت بشكل من الأشكال فيما بين المغرب والجزائرعلى الخصوص لانتمائهاإلى القطرين معا. 2 - مرحلة الوعي الوطني في كلتا الوضعيتين الجزائرية والمغربية أذكى الاحتلال مشاعرالرفض له واحتد الشعوربالانتماءللوطن والعروبة والإسلام وتبلورالوعي شيئا فشيئاعبرالانتظام في هيئات سياسية ذات غطاء ثقافي بضرورة تنسيق الجهود والعمل جماعيا على تحقيق أهداف مشتركة،تمثلت على العموم في تحريرالأوطان كهدف رئيسي مباشروبناءاتحادالمغرب العربي كقاعدةأساسية تندرج في مشروع بناءاتحادعربي إسلامي موسع. وشكلت الحرب العالمية الثانية التي كان ممن تأثروابها مباشرة فرنساالتي انهزمت بشكل فاضح أمام ألمانيا النازيةالتي احتلتها سريعا فورانطلاق الصراع المسلح. شكلت هذه الحرب مفاجأة قوية،إذ تنبهت الشعوب المحتلة من طرفها إلى أنها في وضعيتها وإلى أن الظرف مناسب لتطالب من جهتها مثلما كانت تطالب به المقاومةالفرنسية في الداخل والخارج من حرية وجلاءالقوات الغازيةعن أراضيها. وجاءالحلفاء ليعلنوا في ميثاق الأطلنتي حق الشعوب في تقرير مصيرها ليزيد إثر ذلك من يقظة الشعوب المستعمرة من حيث أرادوا تهدئة أجوائها وتهييئها لاستغلال طاقاتها البشرية والمادية في حربهم ضد النازية. وتلا ذلك حراك واسع بين الوطنيين في تونسوالجزائر والمغرب على الخصوص. وإذا كانت تبدو تونس الأقرب من الاستقلال بعد ليبيا من خلال المعارضة القوية التي شكلها الباي منصف في مواجهة المقيم الفرنسي ( الجنيرال جيرو) والتي أعطت للاستعمار الفرنسي الانطباع بأنها على كلمة واحدة إثر الاجتماع الذي ضم أبرز القوى الوطنية الموجودة بساحة النضال (الدستوريون الجدد والدستوريون القدامى وجماعة الجامع الكبير) فإن الشعب الجزائري في الداخل نهض هو الآخر مطالبا باستقلاله وإن كان هناك اتجاهان واضحان أحدهما تمثل في أصدقاء عريضة الحرية التي تشكلت بعد صدور هذه العريضة في 26 ماي1943 وكان يرأس هذا الاتجاه المرحوم فرحات عباس الذي كان يدعو في تلك المرحلة إلى نهج التدرج نحو الاستقلال التام بشكل سلمي. أما الاتجاه الآخر فهو اتجاه حزب الشعب الجزائري المحظور الذي كان يرأسه مصالي الحاجى الذي كان يتنقل بين السجون لمواقفه العروبية الصريحة، ولأنه كان ينادي في تلك المرحلة من النضال بالاستقلال عن فرنسا تمام الاستقلال، وبتأثير من هذا الاتجاه العارم الذي طغى حتى على الاتجاه الأول في مؤتمر 02 أبريل 1945 انتفض الشعب الجزائري بسطيف إحدى مدن الشرق ا لجزائري يوم 08 مايو 1945 أي في نفس اليوم الذي وضع متحاربوتلك الحرب الكبرى السلاح،فقابلت قوات ا لاستعمارهذه الانتفاضة بعنف دام شديدكان لها لأثرالعميق في سائرأقطارالمغرب ا لعربي وقوبل باستنكارلدى ا لوطنيين بها. في تلك الأثناء،شهدالمغرب عدةأحداث هامة في نطاق النضال الوطني لعل أهمها تقديم وثيقة 11يناير 1944 للمطالبة بالاستقلال من طرف شخصيات وطنية بارزة تنتمي إلى جهات مختلفة من المملكةالمغربية،وأعتبرشخصيا أن الاهتداءإلى تقديم هذه ا لوثيقة بدعم من المغفورله جلالةالملك محمدالخامس كان نتيجة عمل تَوْعَوِيّ وطني عميق توجه إلى الغالبيةالعظمى من الشعب المغربي في الحواضروالبوادي والجبال منذ سنة 1933 وهي السنة التي قرقرارالوطنيين بمباركة من السلطان محمدالخامس الاحتفال بعيدالعرش يوم 18 نونبر،وهوالقرارالذي لم تجد سلطات الاستعماربدا من الموافقةعليه،ونشيرإلى أن هذه السنة وافقت استسلام البطل عسوبسلام الذي كان قدحقق انتصارا بيناعلى الجيوش الفرنسية في جبل صاغروولكنه ارتأى الاستسلام بشروطه بعدما رآه من معاناة الحصار الذي تضرر منه أطفال ونساء قبيلته في أحوال جبلية قاسية. ومن المعلوم أن تقديم وثيقةالاستقلال كان له رد فعل فوري من السلطات الاستعمارية التي بادرت إلى نفي عدد ممن اعتبرتهم رؤوس الفتنة وسجنت منهم البعض الآخر. وهي في الواقع نفس المعاملةالتي كانت تعامل بها السلطات الاستعماريةالوطنيين في الأقطارالثلاثة كل مرة طالبوا فيها بالاستقلال. 3 - مرحلة المقاومة الوطنية حصلت القناعة نهائيا لدى ا لوطنيين بأن لاإيطاليا في ليبيا ولافرنسا على الخصوص في باقي الشمال لإفريقي لم تكن مستعدة للتخلي عما كانت تعتبره ملكا لها واتضح ذلك بمالا يُبقي أدنى شك لديهم يوم أقدمت على إزاحة السلطان محمد الخامس عن كرسي العرش يوم 20 غشت 1953،فكانت الثورة التي لم تهدأ إلا بعودة السلطان إلى عرشه سنة 1955 وإعلان استقلال المغرب سنة 1956،ويمكن القول ان هذه الثورة كانت قد مهدت لها بعض الأحداث أبرزها أولا خطاب السلطان محمد الخامس بطنجة أمام الجماهيرفي 10 أبريل 1947 حيث ألح على حقوق المغرب في استعادة استقلاله تاما، ثانيا أحداث الدارالبيضاء يومي 07 و08 ديسمبر 1952 إثرالمظاهرات التي اندلعت استنكارا لاغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد،وتحولت إلى مجزرة ذهب ضحيتهاعدد من المتظاهرين. ولنا في هذه الأحداث مايدل عملياعلى تجاوب الوطنيين رغم بعدالشقة وحصارالاستعمار،وسيلي نفي محمدالخامس تصعيد في المقاومة بجميع أنحاءالمغرب ولن يكون من ا لصدفة أن تشتدالمقاومة بتونس بينما ستندلع الثورةالجزائرية في فاتح نونبر 1954 ويمكن القول أنه بذلك كانت قد تمت الانطلاقةالحقيقيةعلى المسارالصحيح نحوالاستقلال وإنه وإن لم يتحقق جيش واحد لتحريرأقطارالمغرب العربي كما كان يحلم بذلك زعماءالحركات الوطنيةالمغاربية مع المجاهدالكبيرمحمدبنعبدالكريم الخطابي بالقاهرة،فإن حركة تحرريةعملية كانت قد نشأت فعلا بكل قطر.وإذاكانت ظروف ومدد المقاومة اختلفت من بلد لآخرفإن مايجب التنويه به هو ماكان من تضامن حقيقي بين الشعوب وقادتها. 4 - تضامن الشعب المغربي مع الشعب الجزائري كان لليبيا وضعها الخاص الذي نفضل عدم الخوض فيه وإن كانت المقاومة فيه على اتصال بباقي الحركات التحريرية في بلدان المغرب العربي ،ورغم حصول ليبيا والمغرب وتونس على استقلالها سنة 1956 فإن هذين البلدين الأخيرين في الواقع ظلا يعانيان من الاستعمارالفرنسي للجزائر لوجودهم على الحدود. فقد تدفقت أفواج كبيرة من المهاجرين الجزائريين على البلدين الجارين،وكانت هذه الهجرة أقوى نحوالمغرب حيث وصلت أعداد الفارين من جحيم الاستعمارإلى حدود سنة 1958،ما يربوعن 73000 مهاجر،حسب الإحصاء الذي نقله إلينا د.محمد أمطاط صاحب كتاب " الجزائريون في المغرب مابين سنتي 1830 و 1962 مساهمة في تاريخ المغرب الكبير المعاصر(دارأبي رقراق، الرباط، 2008 ،ص.379)،إلاأنها لم تزدعلاقات الأخوة والتضامن التي كانت بين الجزائري والمغربي إلاقوة،وعاش أفرادالشعب المغربي على إيقاع ثورة التحريرالجزائرية بتأييدها ودعمها إلى أن كان النصر حليفها،ولاحاجة لنا هنا بتفصيل ماكان لجبهة التحريرالوطني الجزائرية من نفوذ على التراب الوطني المغربي وعلى الأخص بالمناطق الحدودية،الأمرالذي مكنها من تنظيم صفوف الجزائريين القاطنين بالمغرب وتعبئتهم في دعم النضال. 5 - حلم المغرب العربي كانت الآمال فعلا كبيرة على أن يكمل استقلال الجزائرحلقة المغرب الكبي رليتحقق حلم المغرب العربي. فقد يقال كانت تلك الأجيال حالمة غيرواقعية،حاولت التنفيس بلاوعي عما كانت تعانيه من ويلات الاستعمار،ولكن واقع التشتت والضعف الذي تعيشه اليوم الأمة العربية والإسلامية رغم مايتوافرلها من طاقات طبيعية وبشرية يبرزكم كانت أهدافها وجيهة إلاأن الصبرعليها صبرَها طيلة مرحلة النضال أعوزها،فبقدر ماكان التضامن على عهد الاستعمارتضامناحقيقيا بل كان أحيانا كثيرة كما سبق ذكره نضالا واحدا،جعل للمقاومة الفعاليةالتي أجبرت الاستعمارعلى التراجع والانجلاء تباعا من بلدان المغرب العربي،بقدرماأصبح على عهدالاستقلال تضامنا واهيا. نعم، فما أن خفت نشوة الاستقلال في مواجهة تحديات التنمية وصعوبات البناء حتى طفت على وجه الواقع مشاكل لم يكن في الحسبان أن تُحْدِث من الخلافات مايجعل العلاقات بين الأخ وأخيه لايستقرلها قرار وفي دُوامة مدوجزر. لم ينس الأشقاء مشروعهم الكبيرالذي غذى حلمهم أيام الكفاح، مشروعَ إقامة اتحاد فيما بين بلدانهم، فأسسوا فعلا اتحاد المغرب العربي في 17 فبراير 1989م بمدينة مراكش، لكن دوامة المد والجزر مالبثت أن غمرت هذا الاتحاد الذي ظل شكليا أويكاد منذأن تأسس...إلا أن اليوم أصبحت تفرض ظروف ضاغطة تفعيل هذاالاتحاد، فهناك فضلاعن مبررات الانتماءالديني والقومي والثقافي دواعٍ اقتصادية وجيوسياسية أكيدة تتمثل في التحديات العولمية الماديةالكاسحةالتي لن تمهل المتباطئين كثيرا... إنهاوضعية مؤسفة وإن أولئك الذين أخلصوالمبادئ الوحدة والأخوةالعربيةالإسلامية وأولئك الذين لم يترددوامن بينهم في وقف حياتهم على خدمتهاوبذل دمائهم وأرواحهم في سبيل مستقبل تنعم فيه بلدانناالمغاربية بنعيم الحرية في ظل وحدة تقوي بنيانها،إن أولئك جميعهم لوكانوايستطيعون مراقبةأوضاعنااليوم لكان أسفهم أكبرولكان حزنهم أشد...فماذاكان سيقول الشهداءأمثال محمدالزرقطوني وحمان الفتواكي وعلال بنعبدالله من المغرب الأقصى؟وماذاكان سيقول امثال مصطفى بنبولعيد والعربي بن المهيدي وعميروش والجيلالي بونعامة والعقيد لطفي وغيرهم كثير؟ولاأشك أن من قدرالله لهم من تلك الأجيال التي لم تعمرحتى ترى أننا ماأنشأناالاتحاد إلالنقيم الحدود فيما بيننا ونُحْكِم إغلاقها بدلامن إزالتها وتوثيق الروابط فيما بيننا وسمع دعاوى أقل مايقال عنها انهالاتدعم الأخوة ولاالوحدة،وتزيد في التنافروتعمق الهوةالفاصلة فيما بيننا،لاشك أنه حزين يتألم من شدةالخيبة. أقول قولي هذاوأنا أذكربعض أولئك الوطنيين الخلص الذين ذاقواالسجون والمنافي وماارتدُّواعن مبادئهم وشاءالله أن يطول عمرهم ليحيوا أياما من الاستقلال،فماكان أشد حسرتهم على التفريط فيما كان الحافزَالقوي لدحرالاستعماروإجباره على الانسحاب،وإذاماكان بعضهم قدانساق مع ماجد في ساحةالاستقلال من صراعات ضيقة ومانشأ من حزازات فإن بعضا آخرقد بقي على العهد فتعالى عليها وظل صامدا في إيمانه بالمستقبل. ولعل من أجمل هذه النماذج وأبلغها نموذج شاعرالمغرب العربي الكبيرمفدي زكرياء...الذي امتطى صهوةالكلمة واتخذ منها سلاحا ماضيا أذكى به لهيب الثورة في نفوس المجاهدين والثواروخلدبهاإنجازاتهم النضالية وبطولاتهم. فهوشاعرجزائري ملتزم بالثورةالجزائرية ومؤلف النشيدالوطني الجزائري ولكنه إلى ذلك مغاربي الهويةعروبي الهوى مؤمن بوحدةالمصيرموحدي بالمعنيين الديني والسياسي،كمايوحي بذلك لقبه ابنتومرت...رافق بشعره الناصع رفاق النضال من أجل تحريرالجزائروتحريرسائرأقطارالمغرب العربي. وأود ولوفي عجالةأن أقدم بهذه المناسبةالمباركة نماذج من شعرهذاالشاعرالعربي المسلم للتمثيل لماهوالوفاء لمبادئ الثورة والنضال عنده وعندأمثاله ممن أبواأن يحيدواعنهاإلى أن وافتهم المنية فكانواممن حق عليه مقول الله تبارك وتعالى:"مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْمَاعَاهَدُواْاللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم ْمَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُوَمَابَدَّلُواْتَبْدِيلاً"(الأحزاب،الآية 23). اشتهرشاعرنا باسم مفدي زكرياءواسمه الحقيقي: الشيخ زكرياءبنسليمان بنيحيى بن الشيخ سليمان بن الحاج عيسى،ولدفي 12 جمادى الأولى 1326 ه،الموافق ل 12جوان 1908م،ببنييزقن،الواقعة بواديمزاب،بغرداية،جنوبالجزائر،تلقى تعليمه الابتدائي بوطنه وانتقل في سن الثانيةعشرة من عمره إلى تونس حيث أتم دراسته بالمدرسةالخلدونية،فمدرسةالعطارين فالزيتونة ثم عادبعدذلك إلى وطنه حيث خاض في الأدب والصحافة والسياسة فكانت له مساهمات بارزة لم تلبث أن نبهت إليه عيون الاستعمار الفرنسي الذي كان يرصد حركات الوطنيين وسكناتهم،مماأدى به إلى الاعتقال مرارا وانتهى به الأمرإلى أن فرمن السجن في 1 فبراير 1959م بعدأن كان قدأودع به في 19 أبريل 1956م. فعاش بعدذلك متنقلابين الدول العربية ولقدحظي المغرب منه بمحبةخالصةخاصة نجد لها صدى كبيرا في شعره... والواقع أن علاقته هذه نشأت منذ أن جاء للمغرب مهنئا بمناسبة استقلاله في 18نونبر 1955 وأنشد بين يدي المغفورله جلالةالملك محمدالخامس القصيدةالرائعةالتي مطلعها: قالوا نريد فقيل للأقدار كوني فكانت رجةالأقدار قالوا نريد فقال ربك نلتمُ فمشيئتي وإرادة الأحرار جاءت هذه القصيدة فيما يربوعن خمسين (50) بيتا تطرق فيها لمواضيع شتى ولكن أبرز مافيها من تلك المواضيع: - تغنِّيه بحتمية النصر - وتنويهه بشعبية جلالة الملك محمد الخامس وحب شعبه - ووصفه لمظاهر ذلك الحب - واستحضاره كفاح الجزائر حينئذ من أجل استعادة سيادتها - وتأكيده على وحدة مصيرشعوب المغرب العربي - ونصحه للملك والشعب فقد يتصورمن لم يفتح دوواين مفدي زكرياءأنه لم يعْدُ في مثل هذه القصائدالمديح على غرارالسلف من شعراءالعرب الذين ارتبطوابالملوك والأمراءورجال الدولة يتكسبون ويخطبون رضاهم وودهم،هؤلاءيتوجه إليهم شاعرنا من خلال مخاطبته لابن يوسف قدس الله روحه دون أن ينسى أنه بين يدي ملك مقاوم يحب أن يتغنى لديه ببطولات الأحرار: ياأيهاالملك الحبيب محبة وتحية من حافظ لجوا مولاي خذها نفحة من شاعر ماكان في القريض يداري كلماته بالمعجزات طوافح وحديثه كالكوكب السيار ورواته عجب بكل محلة لافرق بين مجاهد وهزار ميزانهاقلب الجزائرنابضا ورنينهامن صرخةالثوار! إن الجزائرأمةعربية تسعى إلى استقلالها وتجاري ومحمدبن يوسف كان فعلا ملكا جديرا بالمدح والثناء، فهو الملك الذي لم يرض الذل ولاالهوان لشعبه ولم يرعبه الاستعماربتهديدالنفي وإنما مضى إلى النفي تاركا كرسي العرش الفقيرإلى السيادة... هذاالموقف ا لشجاع من ملك نبيل كان التنويهُ به واجبالأنه مثال في الوطنية،وكمأصاب شاعرناعندماقال بين يديه: ملكٌ تجلى كالملاك،حِياله شعب وفِيٌّ لم يلِن لصَغار ملك من الشعب استمدجلاله فأحبه وفَدَاه بالأعمار ودليلُ صِدْق الشاعرفي هذاالمديح الذي لاعلاقة له بالتزلف يتجلى من إبرازه الدرس التاريخي الذي لقنه محمدالخامس للحكام عموما بقوله: والمالكون،إذاهم لم يخلصوا لشعوبهم فعروشهم لبوار وإذاابن يوسف كان أصدق معرب عن مغرب فبثاقب بتار وإذاابن يوسف كان أقدس مالك في أمة فبصالح الآثار وإذاكانت القصيدة كلها قوية تمشي على نبرة واحدة فإن من أجمل مقاطعها ماجاء في عروبة المغارب: كفرالألى قالوا الشمال ثلاثة ودعواإلى إذلاله بالنار نصبواالعصي على الحدود سفاهة وسعواإلى توزيعه لضرار والمغرب العربي شعب واحد ملْءَالعروق دمُ العروبةجاري للشرق لاللغرب ولى وجهه فغدا له سندا لخوض غمار مابالهم يتصدقون كأننا نرضى من ا لأسلاب بالأشطار لانقبل الصدقات كلاإننا حق لاسماسرعار لاشيءإلاوحدةٌعربية جبارة في المغرب الجبار وللمرحوم مفدي زكرياء شعر مما نشر منه: " تحت ظلال الزيتون " (صدرت طبعته الأولى عام 1965م ). "اللهب المقدس" (صدر في الجزائر عام 1983م صدرت طبعته الأولى في عام 1973م ) "إلياذة الجزائر" وهي قصيدة طويلة عدد أبياتها تجاوز الألف أراد من خلالها الشاعر كتابة تاريخ الجزائر في شكل ملحمة كما يذكر بذلك عنوانها "من وحي الأطلس " جمع الشاعر في هذا الديوان جل ما جادت به قريحته عن المغارب في الستين الأولى من السبعينات ومما يذكرله رحمه الله أنه ظل وفيا للمغرب بما كان له من إيمان بوحدة المغرب العربي وشعوبه واستمرفي اتصاله بوارث سرالمغفورله جلالةالملك محمدالخامس جلالةالملك الحسن الثاني كمااستمرفي مدحه على غرارمافعل مع أبيه ومدح ولي عهد جلالة الملك محمدالسادس حاليا،ولم يتردد في التهليل بالمسيرة الخضراء والتعبيرعن سعادته باسترجاع المغرب لجزء من أجزاء ترابه الوطني. ومما قاله في هذا المضمارمشيدا بالحسن الثاني رحمه الله: فقاد مسيرة خضراءتعلو بها الرايات والذكرالمجيد بها الأكباد تنصب انصبابا فيدهش من شجاعته الوجود فلاتعجب لمعجزة بشعب تسيرالمعجزات كمايسير وقال أيضا في موضوع استرجاع الصحراء من الاستعمارالإسباني: صحراؤنا دنس الغربان حرمتها وخانها مَنْ إلى جلادها ركنوا سلوا الوثائق فالتاريخ يحفظها وسائلواالكون عنها يشهدالزمن واستفت لاهاي واستنطق نزاهتها تنبئك من نبتوا فيها ومن سكنوا قالوااقتراع فقلنا بل نقارعكم فتهزمون ويبقى اللحد والكفن كل ذلك يرفع به الشاعرصوته عاليا منسجما مع إيمانه بضرورةالوحدة لابتفتيت الجسدالعربي. وأمثاله من شعراءالمغرب العربي كثر.وإذامااستعرضنا شعرهم وهم نابعون من صلب شعوبهم المغاربية ، ينطقون بضميرهم ويعبرون عن آمالهم وأحلامهم فسنرى أن ذلك الشعريذكرنا بمسؤولية تاريخيةعلى عاتقنا ويجسدالوفاءالذي كان يجب أن ننهض به نحوتحقيق الوحدةالمنشودة. والسلام (*) العرض الذي ألقاه في ندوة «البعد الوحدوي في النضال المغاربي» التي نظمتها مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث بتعاون مع «مؤسسة مفدي زكراء» الجزائرية البيضاء في 11محرم 1334ه الموافق 26نونبر 2012