إن فئات كثيرة داخل الحزب تقر شفاهةً أو كتابةً بوجوده منذ أكثر من عقد في أزمة هيكلية وإيديولوجية مقلقة؛ لكن الكلام على مسببات تلك الأزمة ومسؤوليها كثيرا ما يكون مختزلا أو مخففا. وعن هذا الوضع، لا أحد داخل «الاتحاد الاشتراكي» (وحتى من جهات خارجة) يرضى أن يؤول الحزب إلى وجود باهت، «يُلقّم» به عند الحاجة أو يُسخّر بعيدا عن قيمه وأساسياته، وإذن لا بد للغيورين عليه من وثبات وصحوات لاستحقاق ماضيه النضالي المشرف وعلاج حاضره وتقوية مستقبله وتمنيعه. كنت من بين آخرين كثر آثروا لزوم الصمت طويلا، بسبب تدني مقياس الجذوة والحرارة في النقاش الجاد والحوار المجدي أثناء اجتماعات المكتب السياسي بالمجلس الوطني، وأرى الآن الفرصة سانحة لتناول الكلمة بقلمي، غير مدّعٍ قدرة على إيفاء الموضوع حقه بالإحاطة الواسعة والتحليل المعمق؛ لذا سأسعى ما استطعت إلى وضع تساؤلات وطرح قضايا لعلها تثير اهتمام أصحاب الإرادات الحسنة وذوي الغيرة والعزم بين المناضلين والأطر ومفوضي مؤتمر الاتحاد الاشتراكي التاسع المزمع عقده في 14-16 ديسمبر. لا نبالغ إذا قلنا إن هذا المؤتمر قد يكون الفرصة الكبرى وربما الأخيرة لاتخاذ القرارات والتدابير المصيرية الحاسمة، من صنف التي تضع كل مقدرات الحزب ومؤهلاته في الميزان وعلى المحك. وليس هذا الزعم من قبيل السيكودراما أو التهويل، وإنما من أجل تيقظ الوعي وغلبة الرغبة في الحياة أمام تراكم الأخطار والتهديدات. حدثان صادمان: 2002 و2007 إن أزمة الحزب، من باب الرصد وبكلمات قصار، قد عرت عن واقعها وخطورتها الاستحقاقات التشريعية في7 سبتمبر 2007، إذ انتقل من الرتبة الأولى في انتخابات 2002 إلى الرتبة الخامسة، وظلت تلك الرتبة تراوح تقريبا مكانها في تشريعيات 2012 السابقة لأوانها، كما تأكد التراجع نفسه في الانتخابات الجماعية ليونيو 2009، علاوة على فقد الحزب لحضوره في مدن وازنة كانت من قبل تصوّت له غالبيا. ولقراءة النتائج, الرسالات إذاك وحتى اليوم بقوة التمعن والجد واستخلاص العبر بالنقد الذاتي وإرادة النهوض من الكبوات، لا ينفع كثيرا التمادي في انتحال منطق تبريري بعدي ينتقد التقطيع الانتخابي ونمط الاقتراع النسبي اللائحي وبلقنة الخارطة الحزبية وتشرذمها، وقد نضيف إلى ذلك جرح المغرب الغائر المفتوح، المتمثل في العالم القروي الممتد إلى ضواحي المدن بأحزمته ومآسيه، والذي بثقله الديمغرافي (زهاء نصف ساكنة المغرب) وبتفشي الأمية والفقر يشكل مراتع شاسعة لإفساد العملية الديمقراطية ومسخها. غير أن تلك العناصر وأخرى ملازمة - على صحتها - يمكن لأي حزب أن يشكو منها ويتعلل بها متى خسر وكبا وخابت توقعاته، أو يسكت عنها بل يحمدها إذا ما وافقته وخدمته؛ وهي في الحالتين معا من صنف ما تقبل جلَّه الأحزاب كقواعد ومعطيات بمجرد ما تنخرط في المسلسل الانتخابي وتعمل في ظله. إن خوض الحزب في تجربة التناوب التوافقي ( 1998) مع حكومة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، لم يهوّن سريان تلك الأزمة ومضاعفاتها، إذ أصبح الوزراء الاتحاديون في واد والحزب في واد آخر، لا يحاسبون ولا يساءلون، وإن سئلوا حزبيا مرة أو عرضا، فقلما يجيبون ويعبأون. وأكثر من هذا، فإن الشقاق والفرقة (اللااتحاد) قد بلغا بين بعضهم حدا كان في الحكومة نفسها يستدعي من يسعى إلى إصلاح ذات البين ورأب الصدع بينهم(!)، هذا علاوة على مناوشات حزب الاستقلال الممثل فيها بأمينها العام عباس الفاسي وامحمد الخليفة... وظل الوضع على تلك الحال بل تعقد أكثر واستفحل مع مشاركة الحزب في حكومة السيد إدريس جطو (2002)؛ ولا حاجة إلى وصف هذه الصفحة التي نعرف حيثياتها وملابساتها، اللهم إلا لاستنتاج أنها - حزبيا- ما قوت الاتحاد الاشتراكي وما هونت من تناقضاته ومعاطبه، إلى أن حلت نكسة 7 سبتمبر السالفة الذكر، فكانت هزة كاشفة لم تفاجئ إلا الساهين والمتغافلين أو العاجزين عن الرصد والتحليل. وقد تمخضت هذه الهزة، كما نعلم، عن عواقب وخيمة شعبيا وديمقراطيا على الحزب. هذا الاقرار الاعترافي من طرف شرائح حزبية عريضة ينم عن نضح في الوعي وجنوح إلى المطالبة بممارسة النقد الذاتي؛ لكن السؤال المسكوت عنه في الغالب يظل هو نفسه قائما: هل من عوامل معقولة كانت تبرر ذلك الاندفاع إلى تحصيل حقائب وزارية في حكومة جطو، وذلك بالرغم من أن بلاغ المكتب السياسي إذذاك قد ندد بعدم احترام المنهجية الديمقراطية، كما في علمنا جميعا؟ بدءا يجمل بنا التخفيف عن الوزير الأول الأسبق الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي لكونه، من باب العفة والأريحية، ما كان له أن يوصي بترجمة ذلك البلاغ إلى مستتبعاته المنطقية، وذلك حتى لا يبدو كمن يقول: أنا أعفيت من مهامي فما عليكم إلا بالعدول عن المشاركة في الحكومة المشكلة بعدي. وكانت حجته أمام اللجنتين الإدارية والمركزية هو تفضيل متابعة الأوراش التي فتحتها حكومة التناوب التوافقي. وبالتالي فإن عبء تلك المسؤولية يقع أساسا على كاهل أعضاء المكتب السياسي الذي قبل وقتذاك المشاركة في الحكومة المذكورة (ولو أن محمد اليازغي عارضها في البدء ثم تراجع)، ومعهم الذين صوتوا لأجلها في اللجنتين المذكورتين. بالطبع يستحيل كتابة التاريخ عكسيا، لكن يجوز أن نفترض أن الحزب لو اختار المعارضة إذّاك بديلا لمدة خمس سنوات، متحليا بالصبر (والصبر في هذه الحالة فضيلة ثورية)، إذن لكانت سهومه شعبيا ولدى شرائح الناخبين قد علت بنحو دال، ولما عرف نكسته في تشريعات 2007 وحتى 2012 علاوة على الانتخابات المحلية والجماعية لما بين التاريخين. فهل مع ذلك الخيار التشاركي حصل تحول من مرحلة المرحوم عبد الرحيم بوعبيد (أبينا الروحي جميعا)، الذي كانت مقولته «المقاعد لا تهمنا» (أي كغاية في حد ذاتها) إلى عهد شعاره الخفي أو المعلن «بل المقاعد هي ما يهمنا»؟ والعجيب في الأمر أن متزعم «الثلاثي الغاضب» السي الأشعري كان وقتها من أشد المدافعين عن المشاركة المذكورة، فظل كوزير للثقافة في حكومة التناوب ثم حكومة جطو زهاء عشر سنين، حتى إذا تمت ولايته الثانية أقدم بعد فترة على تجميد أو تعليقها عضويته في المكتب السياسي بمعية الأخوين بوعبيد وعجول، وكان من مطالبهم (هم الثلاثة فقط) من الأعضاء العشرين في هذا المكتب عقد مؤتمر استثنائي ومراجعة سياسة قياديي الحزب وبالتالي خروج الاتحاد الاشتراكي من حكومة عباس الفاسي... وسؤال الكثيرين هو: ألم يكن حريا بالثلاثي أن يعرض على برلمان الحزب (المجلس الوطني) أسباب غضبه في انتظار أن يعقد الحزب مؤتمره العادي فيواجهوا الاتحاديين بما ارتأوه من انتقادات ومؤاخذات على المكتب الحالي، وذلك عوض الإخلال بأمانة طوقهم بها مفوضو المؤتمر الثامن لكي يضطلعوا بها طوال الولاية التي انتخبوا لها وليس لتعليقها؟ في رصد مظاهر من أزمة الحزب في سياق محاولة رصد بعض وجوه أزمة الحزب، يمكن اعتبار بذورها الخطرة قد انغرست قبيل المؤتمر السادس في 2001 (الذي عرف مقاطعة الأموي وأتباعه)، وتفاقمت مع السنين، بحيث أن القيادات المتعاقبة منذ هذا المؤتمر ظلت في حالة توتر وشنآن متفاوتة الدرجة والحدة مع الشبيبة والقطاع النقابي وحتى النسائي. وهذه الحالة معروفة عند المعنيين والمتتبعين وقابلة بالتدريج للمعالجة والتدبير المصلح؛ أما الأخطر فيتمثل في نزيف الانسحابات المؤسفة، وهو من أصناف ثلاثة: - انسحاب المنشقين والخارجين الذي ضاق بهم الحزب أو ضاقوا به ذرعا، وذلك لمراودة السياسة عن نفسها بتنظيمات وصيغ ما زلنا ننتظر وقعها الإيجابي وأفعالها المؤثرة. وما حصل لتجربة اندماج الحزب الاشتراكي الديمقراطي، (التي كان وراءها الكاتب الأول الأسبق محمد اليازغي) من صعوبات ومعوقات يجعل تلك التنظيمات حذرة متحوطة إزاء الدعوة إلى الانصهار في الاتحاد الاشتراكي لخلق قطب يساري كبير موحد؛ هذا مع أن قيام هذا القطب أضحى ضرورة تاريخية من أجل بلورة الخريطة السياسية وتخليصها من التحالفات المتنافرة والظرفية ومن البلقنة والعبثية... - انسحاب الأطر التي لم تعد تجد في الاتحاد عبر سيرورته ما يحفزها على التعلق به والعمل فيه؛ ومنهم قياديون وأطر اعتزلوا الحزب والسياسة كلها، ليس بسبب التقدم في السن أو لدواع أخرى، وإنما لإعراضهم عن الدخول في حرب مواقعية ذاتية بات التنظيم يشكو من ضراوتها وتوابعها؛ ولا أدل على ذلك من اعتزال ذ. اليوسفي السياسة بعد استقالته ككاتب أول في 2003، علاوة - مع وجود الفارق - على حالة الأخ الكحص المؤسفة وسواه كثير... ولو أنه تم خلق هيئة حكماء داخل الحزب، على شاكلة ما أقدم عليه حزب الاستقلال مثلا، هيئة تضم مسؤولين سابقين وعقلاء آخرين، إذن لكان الاتحاد تقوى بهم من باب الاحتكام والمشورة، ولما رأينا ربما شخصية من الرعيل الأول، هو الأستاذ محمد لحبابي، يصرح في عدد «زمان» عدد 25 الأخير أن «الاتحاد الاشتراكي» مات وكذلك الاشتراكية نفسها، ويدعو إلى تحالف اليسار مع جماعة «العدل والاحسان» إلخ! - أما عن انسحاب «المثقفين» أفرادا وجماعات فحدث ولا حرج، إذ أسماء بعضهم غنية عن الذكر (المرحوم الجابري، العروي، الناصري، بوطالب...) وقوائمهم تدل على رسوخ الطابع الابراتشيي وهيمنته على مقاليد التنظيم والتوجيه؛ وسدنة هذه المقاليد يعصى عليهم النظر إلى المثقفين كخبراء ومفكرين وطاقة علمية وإبداعية واقتراحية، فلا يقبلونهم إلا كخدام طائعين مدجنين أو بهاليل الحلقة لا غير. ولو قُيض إجراءُ بحث استباري عن معيش أولئك المثقفين داخل الحزب وما كابدوه من صدود ونفور لاحتيج إلى سجل لوصف مراراتهم وخيبات آمالهم... إنه لوضع لافت ممض عاشه الحزب لمدد طويلة، ولا يبدو أنه في السنوات الأخيرة عالجه أو هون من حدته، ووجه المفارقة فيه أنه من جهة كان التنظيم الوحيد الذي يستقطب إليه بالانتماء وحتى بالتعاطف أهم الفعاليات الثقافية والأعلام الفكرية الوازنة، وأنه من جهة أخرى غير واع أو محتفل بهذا الرافد الخصب الثري، الذي يعوّل عليه نظراؤه داخل الأحزاب الاشتراكية المتقدمة في الانتاج النظري وتعميق الخط الإيديولوجي وأجرأته وتحسينه. وعندما يفكر المرء في واقع تلك المفارقة وتواترها قد يجد لها تفسيرا في وجود تيار متنفذ داخل الحزب معادٍ للمثقفين وخصوصا لمن منهم يمارسون حرية النقد الملتزمة كشرط لترقية الوعي الجماعي ولصهر «السياسة الحقة الوحيدة في سياسة الحقيقة». وهذه الفئة عموما لا تحصل في حبال المحبوبية، لكونها فكريا وطبيعيا متبرمة دوما ونافرة من أساليب التدجين والولاء متى استولت وحيثما حلت. أما ثانيهما أن السياسي المحترف داخل «الاتحاد الاشتراكي» وخارجه ميال بصفة عامة إلى الاستحواذ على كل الأدوار التنظيمية منها والتنظيرية والحركية، فيؤدي منها ما تقدر عليه كفاءته وطاقته، ويشد على حبل الأخرى ولو بتركه عاطلا، أو بتفويض القبض عليه إلى الأزلام والأشياع... والعواقب السلبية اليوم هي ما نلحظه ونقرأه من إنشائيات وتسطيحات مؤسفة، ومن لوك لكلمات لا رقيب ولا حسيب عليها نظريا وفكريا، بحيث أصبحت عبارة عن ماركات مسجلة لا غير، كالتعدد كبلقنة وتقدد والتنوع (كتمفصلات ممزقَةِ النسيج، عديمة التواصل) والانتقال الديمقراطي (من دون أفق ولا متم) والتقليدانية والظلامية، وهلم جرا؛ أضف إلى ذلك لفظة الحداثة التي حوّلها الكثير إلى ديانة أو عقيدة مذهبية سجالية ذات أركان وقطعيات جاهزة قارة، بيد أنها عند مستعمليها كمفهوم ما هي إلا نمط فكري متجدد ومجموعة آليات للتقدم المرافقي الملموس وإنتاج قيم رافعة مضافة... وعلاوة على ما ذكرت، يشهد الكثير من المهتمين من داخل التنظيم وخارجه هذا الوضع المزري الذي آلت إليه صحافة الحزب، بحيث استعصى على أي إصلاح منقذ وأي تغيير جذري، يروم المهننة والإشعاع، وربما التفويض التعاقدي أو ما شابه. فأضحت عبارة عن مرايا مشروخة مهملة. أما مؤسسة الدراسات والبحث التي كان من المفترض أن تصير قاطرة الاتحاد الاشتراكي في مجال التنشيط الثقافي والانتاج الفكري، فكأننا بها أمست في خبر كان أو موقوفة مجمدة... (يتبع)