لقد سبقني إخوة آخرون إلى تعداد صفات ومناقب الراحل الكبير والتي كلها نبل وصدق وتفاني ، وهي شهادات له عند الله وعند عبيده، مصداقا للحديث الشريف (ألسنة الخلق أقلام الحق) . وأودّ أن أقول بعض الجمل التي صنعتها صحبة خمس وأربعين سنة، لعل فيها ما يضيف شيئا لما قاله المتحدثون ويكشف بعض الجوانب التي لا يعرفها البعض أو الكل . لقد تعرفت على الراحل الكبير عام 1967 وأنا طالب في كلية الحقوق بالرباط عندما كان لايزال في أول طريق مهنة المحاماة ، ثم توطّدت علاقتنا عند تأسيس فرع الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني بالدار البيضاء صحبة المرحومين الهاشمي الفيلالي وعمر بنجلون ومصطفى القرشاوي وآخرين ، ثم جمعتنا المصاهرة والنسب، فنبتت علاقة أينعت مع الأيام، ذلك أن صحبة الراحل الكبير أعوامها أيام بل ساعات أو هنيهات. ومن منطلق هذا الذي ذكرت سأتحدث . لقد كان للراحل الكبير بعض من صفات الملائكة الذين لا يعصون ربهم في ما أمرهم، فقد كان شديد الحرص على الاستزادة من التبحّر في كتاب الله وسنة رسوله، ليعرف مكامن الحق ومواطئ الباطل كيلا يزلّ أو يزيغ ، وكي يطبّق الأوامر ويجتنب النواهي .. كثير الصلاة والصيام والحج والعمرة والإنفاق في سبيل الله، والحضّ على فعل الخير وتقويم النفس . وكان للراحل الكبير ، والله أعلم ، ثواب الشهداء المجاهدين، الذين لا يخشون إلا الله، ويقولون الحق ولو على أنفسهم، ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم . أما جهاد المال فقد سبق للإخوة المتحدثين أن ذكروا ما وصل إلى علمهم منه، ولا أظن أن علمهم وسع كل ما كان يفعله . وأما جهاد النفس ، فقد نذر الراحل الكبير نفسه لخدمة أهله وشعبه ووطنه وأمته، وكان سبّاقا في كل الميادين التي قال فيها سبحانه وتعالى (وفي ذلك فلينافس المتنافسون) . ونذر نفسه لتحقيق العدالة في كل مراحل حياته وفي كل الميادين التي عمل فيها، وتوفي وهو في قلب القاعة التي كانت ستجتمع فيها لجنة إصلاح العدالة، أي أنه لبّى نداء ربه وهو في ساحة المعركة التي خصّها سبحانه وتعالى بالعديد من الآيات. وكان للراحل الكبير صفات المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، والذين إيمانهم هو ما وقر في القلب ونطق به اللسان وصدّقه العمل، والذين وصفهم الإمام علي كرم الله وجهه بقوله (شباب والله مكتهلون في شبابهم سريعة إلى الخير أرجلهم ثقيلة على الباطل أيديهم ) . وكان يرتجف ويخشع كلما قرأ آية ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) ، ويتوثّب وهو يقرأ قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم .. إلى آخر الآية ). ولعل أكثركم لا يعلم أنه كان من أكثر من دعم الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني عندما نظمّت مؤتمر نصرة الأسرى الفلسطينيين عام 2010 من ماله الخاص، ووضع نادي العدل تحت تصرف ضيوف المؤتمر، إقامة كاملة استمرت أسبوعين ، وزوّد سكرتارية المؤتمر بالأجهزة اللازمة والكاتبات وبحافلة لنقل المشاركين . وكان من المفترض أن يكون في هذه الأيام في فلسطين لإلقاء محاضرات قانونية في جامعة الخليل، حيث اتفق مع الإخوة هناك على ذلك عندما لبّى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم عندما قال «لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» قبل وفاته بحوالي شهر . أستسمحك أيها الراحل الكبير إن تحدثت عنك بهذه اللغة التي أعرف أنك لم تكن تحب سماعها في حياتك . أستسمحك يا من كنت تدمع وأنت تسمع تلاوة القرآن ، تدمع حزنا وتدمع فرحا، تدمع استقبالا وتدمع توديعا . . وقريب الدمعة قريب من الله . أستسمحك يا من كنت دائم الابتسام ، مطبّقا الحديث الشريف «تبسّمك في وجه أخيك صدقة» . يا من كنت راقي الأحاسيس تشجيك النغمة المبدعة وتسعدك الطرفة النظيفة . لقد أحببتك حبّا جميلا صادقا، لأنك كنت جميل السجايا صادق الفكر والعمل. واحترمتك حدّ التبجيل، لأنك كنت تستحق أكثر من كل احترام وتبجيل . واتخذتك خليلا لأن الخليل من يسد خلل خليله، ولأن الخلّة هي الاتحاد في الخلال والصفات والأخلاق . يا من يردّ إلى شفاهي بسمة الأمل الندي ماتت أناشيدي الحسان وبحّ صوت المنشد لقد رحلت مبكرا ونحن جميعا لم نأخذ نصيبنا منك، ونحن مازلنا بحاجة ماسّة إليك . واعلم أننا مع إيماننا بقضاء الله وقدره مازلنا نغالب أنفسنا ، وكأننا غير مصدّقين أنك فارقتنا. لقد رحلت ضاحكا واقفا كدأب الفرسان المغاوير وكما قال شاعر فلسطين الكبير معين بسيسو (الأشجار تموت واقفة ).. فقد كنت نخلة باسقة طرحت رطبا جنيّا، غذّى الكثير من الأجسام والعقول. وكنت زيتونة أضاء زيتها طريق من أراد أن يرى ببصره وبصيرته . ويا أيها الراحل المقيم في قلوبنا وعقولنا. . توجعني كلماتي التي قلتها . . توجعني كلماتي التي لم أقلها . . توجعني الكلمات التي قالها الآخرون . . آه كم يتشقّق صوتي، وتعتقل الريح أغنيتي . سلام عليك يوم ولدت، ويوم متّ، ويوم تبعث حيّا، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ورد خطأ في عدد أمس في اسم أخت الراحل الناصري والصحيح الأستاذة الباثول الناصري