جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    أحمد الشرعي مدافعا عن نتنياهو: قرار المحكمة الجنائية سابقة خطيرة وتد خل في سيادة دولة إسرائيل الديمقراطية    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مولاي الشيخ في بلاط فيليب الثاني

لقد خلقت سياسة حوض البحر الأبيض المتوسط منذ فترة فيرناندو الكاثولوكي، على غرار عمليات التوسع البرتغالية، إطارا جديدا في العلاقات بين ضفتي مضيق جبل طارق في بداية القرن السادس عشر. فقد تحول شمال إفريقيا، بلاد البربر بلغة المرحلة، إلى ساحة معركة وصار هدفا منشودا للإمبراطوريات الكبيرة في العصر الحديث، مما جعل الكثيرين ينتقلون من مساكنهم الأصلية للعيش، إما لفترة قصيرة أو بشكل نهائي، في أحضان المجتمعات الأخرى. إن التهديدات المختلفة التي كانت تكبل حكامها قد خلقت في كثير من الأحيان، علاقات متوترة تقع على الحد الضيق الفاصل بين الحرب والسلم. هذه العلاقات كان لها انعكاسها على شوارع وقرى مدريد. فقد كانت أشهر شخصية من الشخصيات المنفية التي ازدانت بها عاصمة المملكة الجديدة هو دون فيليبي دي آفريكا، مولاي الشيخ قديما. غير أنه لم يكن سوى بداية تاريخ لايزال في حاجة إلى من يعيد تركيبه في كثير من أسمائه وشخصياته وأحداثه.
كانت وتيرة مرور المنفيين والمرتدين والمتنصرين من المسلمين إلى مدريد تسير بنفس وتيرة التقلبات السياسية في المغرب العربي. ونفي كثير من الشخصيات المنفية المغاربية كانت نتيجة للوضع السياسي المعقد الذي كانت تعيشه بلاد البربر. اضطرت كثير من الأسر الحاكمة المحلية بعضها مكون من أمراء لهم ملكية واحدة على خط الشاطئ إلى الفرار نظرا لوصول البحارة العثمانيين الذين زعزعوا بشكل خطير بنية السلطة الحاكمة آنذاك. لم يكن المغاربة هم أول من وصلوا، بل الحفصيون التونسيون وزيانيو تلمسان، الحلفاء الكبار لكارلوس الخامس. اقتربت تونس وافريقيا المسلمة والميناء الاسلامي الكبير المتوسط من آل هابسبورغ الاسبان خوفا من الزوال أمام وصول جيوش الانكشاريين العثمانيين. من جهة أخرى كان من اللازم التأثير على الأسياد الذين يستولون على خليج قرطاج القديم للحفاظ على العلاقة مع نابولي وصقلية. ولتوطيد علاقات التعاون والصداقة بين العاهلين، وقبل أن يستولي الامبراطور على قلعة حلق الوادي التي كان يحتلها القائد الأعلى لأسطول سلطان إسطنبول خير الدين بربوس، بعث بأمراء وأميرات قصد التعلم في البلاط الاسباني في عصر النهضة. إحداهن، وهي التي كانت تقوم بدور وصيفة الامبراطورة ماريا، طلبت نذور الرهبانية، في دير مدريدي سنة 1534، وقد أكرمها البلاط بما يلزمها لتحقيق رغبتها، كذلك كان الشأن بالنسبة لإيرناندو المعروف بأمير بجاية الذي كان يعيش ببلدة «ميخورادا دل كامبو» سنة 1543، والذي جهز ابنته» أنا «بكثير من الأفرشة والزرابي والأمتعة حتى تتمكن من التفرغ للرهبنة في دير لاكنثيبثيون التابع لأخوية سان فرانثيسكو.
كثير من السفراء والمبعوثين والتجار وفي بعض المناسبات السلاطين، جاؤوا إلى مدريد طوال هذه السنوات لطلب حماية الملك من أجل الحفاظ على استقلال دولهم. أهمية الكثيرين من أبطال تاريخ المتوسط في هذه العقود أنتجت أيضا مخيالا مشتركا ادعى امتلاك هذه الأسماء، كما يبين لنا أنه في كثير من الاجابات على القوائم الطبوغرافية التي أمر فيليب الثاني بإعدادها يتم التأكيد على أن بربروس القرصان العثماني الكبير في هذه الفترة، قد ازداد في بلدة كولمينار دي أوريخا.
في بداية الأمر، كانت هناك محاولات لإسكان هؤلاء الأشخاص بعيدا عن مدريد، لا يكونوا قرب الملك واتقاء للقيل والقال وللتعاليق السلبية للمبعوثين الأوروبيين. كما أن الحفصيين كانوا يريدون العودة إلى ديارهم الأصلية، لذلك أقام معظهم في أماكن أخرى في ملكية الأسرة المالكة مثل نابولي وصقلية، اللتين كانتا الأقرب إلى تونس. وكان مولاي محمد ابن السلطان مولاي الحسن، الحاكم الممثل للمملكة خلال فترة التواجد الاسباني في حلق الوادي، واحدا من هؤلاء المنفيين جاء في سنة 1559 لتقبيل يدي الملك الجديد، فيليب الثاني، وعاد إلى باليرمو بعد أن ظفر بيت مال الملك بمنحة دائمة لإعالة خدمه وأفراد عائلته وأبنائه ممن يعيشون معه في بيته. بعد موت أبيه وأخيه مولاي حميدة اعتلى العرش عندما طرد دون خوان دي أوستريا في سنة 1573 العثمانيين من أراضيه، رغم أنه حكم فقط خلال الأشهر القليلة التي تحرر فيها هذا البلد من سلطة الباب العالي. وكان أحد أبناء مولاي حميدة هو من تزعم إحدى أهم حكايات بعض المتنصرين الملكيين الذين مروا من مدريد فيليب الثاني. وبينما كان والده يتآمر من أجل محاولة العودة إلى العرش، الذي أزيح عنه بعد استيلاء العثمانيين على تونس سنة 1569، كان هو قد بدأ وهو الذي يحمل نفس الاسم مثل أبيه، مسيرته الشخصية نحو التنصر الذي سيعلن عنه في 1575في قصر نابولي الجديد, وبمساندة من عرابيه دون خوان دي أوستريا ودونيا بيولانطي دي أصوريو استقبل دون كارلوس دي أوستريا مياه التعميد، وهكذا حصل على كل المنح والمعاشات القانونية التي كانت الملكية تمنحها لرعاياها المسلمين الذين تنصروا. ومن بينها زيادة على المعاملة بالتشريف والإجلال والتفضيل، تلك المنحة المالية المتزايدة وغير القليلة التي دأب على أخذها منذ ذلك الحين والتي كانت يضطر للانتقال من الأراضي الايطالية إلى مدريد لاستخلاص ما تراكم منها لأنها لم تكن تصله بانتظام. كل هؤلاء الأمراء كانوا يتوصلون بنفقاتهم مباشرة من الملك لأنهم تركوا كل ثرواتهم في بلدانهم الأصلية. وكانت منحهم تتأخر في فترات الصعوبات الاقتصادية التي تمر منها المملكة، مما كان يخلق كروبا ولحظات ضيق كانت تنتج عنها رسائل وعرائض للمطالبة بالمبالغ المستحقة المتأخرة.
في عقد الخميسينات هذا, وصل إلى مدريد من أراضي مملكة تلمسان دون كارلوس دي أفريكا ,ابن مولاي الحسن، الملك الزياني الذي كان محبوسا في فاس سنة 1550 بعدما دخل السعديون من المغرب إلى رأس مملكته. ولأن نطاق ملكية والده محتل، فقد اضطر لطلب العون إما من العثمانيين أو من الإسبان. وقد فضل الأسبان لأنه لم يكن يثق في السلطان المشرقي لرغبة هذا الأخير في أن يسيطر على موطنه الأصلي. أمام هذا الوضع، اضطر للتنصر بعد أن فقد الأمل في العودة الى افريقيا، وهكذا رحب به فيليب الثاني ورعاه. بعد اعتناقه المسيحية خلع عنه ثيابه الاسلامية وذهب للعيش في مدريد حيث سكن ببيت سيباستيان كولونا. بعد عدة سنوات في خدمة الملكية في مهمة عسكرية في فلندرة أداها بنجاح كبير، أبان عن اندماجه التام في المجتمع الجديد, اذ كان أول أمير مسلم نال زيا بوسام عسكري عندما تم توشيحه بوسام فارس سانتياغو سنة 1581 هناك امثلة اندماج اوضح في المجتمع الجديد، ومنها حالة المرتدين المسلمين الذين قرروا الرهبنة في احدى الأخويات الدينية. نعرف ان هناك منفيا آخر تنصر سمي فيليب الافريقي، وهو حفصي قديم اعتنق المسيحية سنة 1646، ثم انضم الي الرهبانية اليسوعية وتم ارساله إلى مدينة روما لإطلاع باقي المسيحيين على الانتصار الايديولوجي و الديني على العدو في البحر الابيض المتوسط.
ان الطبيعة الخاصة للعلاقات بين آل هابسبورغ وحكام أراضي المغرب الحالية هي السبب في أن أكبر عدد من المنفيين، سواء منهم من تنصر أو من بقي على دينه الأصلي، كانوا أمراء وطاسيين وسعديين، وعلويين. كما ان استيلاء العثمانيين على أراضي البربر الوسطى ورغبتهم في التوسع، جعل الكثيرين من الملوك المغاربة في وضع صعب. فخلال القرنين السادس عشر والسابع عشر اضطروا للقيام بعمليات دبلوماسية وعسكرية معقدة مع الإسبان والبرتغاليين والعثمانيين قصد الحفاظ على استقلالهم الوطني والديني. فقد استباح السلطان العثماني البعيد لنفسه لقب أمير المؤمنين وخليفة الإسلام، وهما تسميتان لم تقبلهما قط هذه السلالات ذات الأصل الشريف (باعتبارها سليلة النبي) التي لم تكن تقبل سيادة اي سلطة دينية اعلى منها.
وكان المسيحيون، من الجهة الأخرى، قد استولوا على أغلب المدن الساحلية للمغرب قصد طرد مختلف القراصنة الذين كانوا يهاجمونهم من مراسيها، محولين بذلك السلاطين المغاربة الى ملوك على أراض ليست لها أية منافذ على أي من البحرين المحيطين بممالكهم. واقتصر ضغط سكان إيبيريا على الخط الشاطئي لان محاولاتهم المحدودة للدخول الى الاراضي الداخلية باءت بالفشل عدة مرات. وقد تمكن السعديون والعلويون من المحافظة على الأراضي الخاضعة لهم بعيدا عن اطماع القوتين، وحققوا استقلالا جعل منهم البلد الاسلامي المتوسطي الوحيد الذي لم يخضع لسلطة الباب العالي في هذه العقود. وعندما تخلى الملوع الاسبان عن فكرة الاستيلاء على أراضي الضفة الأخرى للمتوسط، حاولوا السيطرة عليه بجلب سلاطين المغرب إلى جهتهم، وهي سياسة مكنت المغاربة من الدفاع عن أنفسهم ضد الجزائر والاستمرار في الحفاظ على وضعهم كبلد مستقل بين عدوين قويين. و لتقوية التأثير المسيحي على السلاطين، تمت المراهنة على بعض المطالبين بالعودة الى الحكم في الحروب المستمرة بين الامراء المغاربة حول الخلافة. وهي الفترة التي استغلها العثمانيون ايضا للزيادة من تأثيرهم داخل الغرب الافريقي.
إن دون فيليب الافريقي يمثل ويلخص نموذج منفى وتنصر المسلمين في اسبانيا ال هابسبورغ في القرنين السادس عشر والسابع عشر. فاذا حاولنا القيام بإعداد نموذج للمغرب الذي جاء الى مدريد طلبا للمساعدة قصد الحفاظ على حقه في الحكم، وفي نفس الوقت تاريخ رجل اندمج كليا في المجتمع الاوروبي بعد أن ارتد عن دينه، فإنه بالضرورة ينبغي ذكر مولاي الشيخ بصفته النموذج الكامل. بدأت حكايته في احدى نضالاته من أجل وراثة الحكم، رغم ان اشهرها تلك التي انتهت بموت ملك البرتغال، دون سيباستيان قرب القصر الكبير، ووصول احمد المنصور، اعظم سلطان في القرن السادس عشر، الى عرش المغرب. والد مولاي الشيخ، محمد ابن عبد الله، اعلن سلطانا في سنة 1574 بتأييد من علماء فاس، بينما أيد علماء مراكش عمه ابا مروان عبد الملك (المعروف بآل مالوكو في المصادر المسيحية) وقد وجد مولاي الشيخ نفسه. وعمره لم يتجاوز بعد ثمان سنوات، منغمسا في المعارك المستمرة بين الطرفين واضطر الى التدخل شخصيا في احداها. وامام الصعوبات التي وجدها والده في الحفاظ على حقوقه، طلب المساعدة من ملك البرتغال الذي عبر الى افريقيا صيف 1578 مع اغلب النبلاء البرتغاليين. مات الملوك الثلاثة الذين كانوا يقاتلون في ساحة المعركة،و تم اعلان احمد المنصور، اخو عبد الملك، ملكا جديدا. كان مولاي الشيخ لاجئا في مازاغان ومنها مر الى البرتغال هروبا من امكانية انتقام الملك الجديد منه. الى حدود هذه اللحظة كان واحدا من المنفيين الكثيرين في الاراضي الاوروبية عاش مابين سنتي 1578 و 1593 في بلدات برتغالية مختلفة, وفي قرمونة واندوجر الى جانب عمه مولاي ناصر. وخلال المدة التي كان فيها الاثنان ضمن رعايا فيليب الثاني، كان بمثابة الوسيلة الدبلوماسية المناسبة للحصول على موقع قوة, سواء في المفاوضات مع السلطان المغربي من أجل الحصول منه على تنازل عن العرائش المرغوبة التي كانت مركزا اساسيا لمراقبة الاسبان لحركة القرصنة بالمحيط الاطلسي وتأمين جزر الكناري، او ايضا لمنع اي تحالف بين هذا السلطان السعدي وانجلترا. لم يجد البلاط الاسباني مانعا من تحمل نفقات المرشحين للعرش المغربي وموكبهما الغفير، رغم انه لم يستجب قط لرغبتهما في الذهاب الى مدريد، حيث كانا يعتقدان انهما سيحصلان على وضع اكثر قوة وتفضيلا انطلاقا من هناك. ومع مرور السنوات، ضعف وضع المرشحين وبدآ يريان كيف اصبح من الصعب عليهما تنظيم عودة الى بلدهما الاصلي، انطلاقا من اسبانيا، مع ضمان استرجاع العرش الذي ضاع منهما.
في سنة 1593 وبعد المشاركة في مهرجان شعبي بمناسبة عيد القديسة عذراء لاكابيثا دي اندوخار, طلب مولاي الشيخ من يعلمه اصول الدين لأنه يريد اعتناق المسيحية، وبعد فترة تعليم ديني قصيرة في جيان نقل السعدي، اخيرا، مع موكبه الى مدريد بهدف جعل طقس تعميده مناسبة نموذجية ودرسا اخلاقيا. ولإعطاء هذا الحدث كل الاهمية الممكنة، تقرر تنظيمه بكنيسة سان لورنثو ذي آل اسكوريال, ولأن هذا الدير لم يكن يتسع لكل الخدم المرافقين لمولاي الشيخ، وقع الاختيار على بلدة بالديمورينو القريبة لينزل بها في انتظار أن تتم الاستعدادات لهذا الحدث العظيم. مازال احد شوارعها يحمل اسمه مذكرا سكانها وزوارها إلى اليوم. بالاقامة الرفيعة والقصيرة - دامت شهرين فقط - لأمير مغربي بين شوارعها وازقتها. وفي يوم 3 نونبر 1593، ومحاطا بكثير من الابهة والبذخ وبحضور اعلى النبلاء القشتاليين شهودا. ولد مولاي الشيخ القديم عند المسيحيين حاملا اسم دون فيليبي دي افريكا، مستقبلا مياه التعميد من يدي دون غارثيا دي لوايسا كاردينال ومطران طليطلة، وبعرابة فيليب الثاني، الذي منحه اسمه، والأميرة اسابيل كلارا اوخينيا,اما عمه مولاي ناصر فقد استمر في محاولاته لاسترداد العرش، وفي الأخير عاد الى المغرب سنة 1595 حيث مات دون أن يحقق أهدافه.
رفع التنصر دون فيليبي دي افريكا الى درجة عالية في المجتمع. وكواحد من كبار اسبانيا، بدأ يصنع مكانه وسط نبلاء الحاشية الملكية ذوي النسب العريق, حيث كان يلعب بورقة الحلول محل الشرفاء خدام العرش - الذين لم يعد هذا الأخير يتوفر عليهم - لكونه أميرا مسلما ترك دينه واعتنق المسيحية. وبناء على ذلك، اعتبرته الملكية انتصارا كبيرا على عدوها الإيديولوجي والديني، ولذلك جعلت منه رمزا متألقا تحضره في كثير من المحافل ذات الوزن الإيديولوجي مثل دخول فيليب الثالث مدريد سنة 1598، وزفاف ولي العهد وإسابيل كلارا إوخينيا في بلنسية سنة 1599، أو أثناء تأدية فيليب الرابع القسم في لوس خيرونيموس سنة 1608. منذ تعميده، انتقل دون فيليبي دي آفريكا للعيش في قصر صغير فاخر بشارع لاس ويرطاس، قرب بيت ميغيل دي ثيربانيس ومازلنا نحتفظ بحسابات الأموال الباهظة التي صرفت، دون انقطاع، في زخرفته وصيانته. ولنفقات القصر المكترى هذه يجب إضافة المبالغ الضرورية لاكتراء مقصورة لفناء عرض المسرحيات الذي كان دون فيليب يتفرج فيه على أهم الأعمال الكوميدية لكبار مسرحيي عصر الأنوار، ومنهم لوبي دي بيغا صديقه الذي حضر تعميده في كنيسة الإسكوريال.
تجواله بأناقة في أزقة مدريد آل هابسبورغ، وبهاء ملابسه، وغنى شخصه ورونقه والاستقبالات التي يقيمها في مقر إقامته، كل ذلك كان مثار إعجاب جيرانه واستحسانهم، لذلك صار الشارع الذي كان يسكنه يعرف بشارع «»أمير أفريقيا««وهو الإسم الذي مازال يعرف به إلى الآن. بدأ «»أمير أفريقيا« «- هكذا كان يحلو له أن يوقع رسائله - يرتدي ملابس على نمط قشتالة، وكانت تبرز لون جلده الأسمر، مما حذا بالبعض إلى تسميته ب «»الأمير الأسود«« .وكان يتكلم أحسن فأحسن لغة البلد المضيف، وليندمج أكثر في المجتمع كان يستمتع بالمشاركة في حفلات الرقص الخاصة التي كانت تقام بالقصر في تلك السنوات الأخيرة من القرن، وفي رحلات القنص، كما كان يحضر مبارزات مصارعة الثيران. بعد تعميده بأيام قليلة طلب وسام سانتياغو، وهو يعلم أن بإمكانه الحصول عليه لأنه سلم عشرين سنة من قبل لمنفي إفريقي آخر كان يدين بدين الإسلام. وقد سلم له ذلك الإيراد بعد خطوات شكلية بسيطة وسريعة، بل إنه في سنة 1596 توصل أيضا بأوسمة بيدمار وألبانتشيث، في أبرشية جيان، مما ضمن له دخلا سنويا يناهز اثني عشر ألف دوكادو. ووفقا لهذا اللقب، قام »»معلم مثاقفة»« فيليب الثاني، نيكولا دي كامبيس بتصميم ترس له تمكن من أن يؤشر فيه على وضعه داخل مجتمعه الجديد. ورغم أنه بعث للخدمة مع الجيش الملكي في فلندرة، فنحن على يقين من أنه ظل يقطن بمدريد طيلة هذه السنوات. طريقة عيشه المبهرجة وإسرافه في الإنفاق كانا وراء محاولات إجلائه عن مدريد. وقد تمكن من الصمود أمام تلك المحاولات حتى 1609، سنة إصدار أول الظهائر القاضية بطرد الموريسكيين، حيث غادر إسبانيا في اتجاه إيطاليا لإسكات الانتقادات التي قد توجه إليه لقربه من البلاط في تلك السنوات التي كان يطرد فيها كل الرعايا ذوي الأصول الإسلامية. إلا أن أثره القوي في مخيال سكان مدريد لم يختف برحيله، لذلك فالشارع الذي كانت فيه إقامته - وهي قصر محفوظ إلى اليوم رغم بعض التغيير الذي طاله بسبب الزمن وتغير الأحوال - مازال يسمى بشارع الأمير. يوجد قبره بإحدى البلدات الإيطالية لأنه عاش أيام حياته الأخيرة في هذه الجزيرة الأخرى للمتوسط، وهذا لا يمنع من أن يبقى شخصه متصلا بمدريد آل هابسبورغ. تلك ذكرى ينبغي إحياؤها حتى لا نضيع ماضينا الخاص. فخلال احتضاره الأخير بعث برسائل كثيرة إلى الملك يطلب منه السماح له بالعودة إلى مدريد، هذه المدينة التي كان يشتاق إليها في معتزله الإيطالي.
هناك حفيد لمولاي زيدان، السلطان الذي أخذت مكتبته ووضعت بدير الإسكوريال، هو أيضا واحد من المنفيين المغاربة الذين جابوا شوارع مدريد أواسط القرن السابع عشر. فقد سلم نفسه طوعا إلى المسيحيين بغية الحصول على حرية أخيه الأكبر اذي أسر إثر غارة لجنود ثغر معمورة. وفي انتظار القدية، تقرر أنه من الأضمن نقله إلى إسبانيا حيث كان تحت حراسة دوق مدينة شذونة. وفي سنة 1635، كان في مدريد حيث علمه اليسوعيون، وفي وقت وجيز، تعاليم المسيحية. وفي كنيسة القصر الملكي تم تعميده في فبراير من سنة 1636، بحضور عرابيه فيليب الرابع والكونت - دوق أوليباريس، وأمام بطريق بلاد الهند ألونسوبيريث دي غوثمان ولذلك اختار كاسم شخصي مسيحي: فيليبي غاسبار ألونسو دي غوثمان.
هناك حاليا شارع اسمه «»فيليبي دي آفريكا«« في بلدة خيطافي، إلا أن هذا الإسم ليس لمولاي الشيخ، بل لمولاي حميد أمير مغربي آخر تنصر بعد لجوئه إلى هذه المدينة سنة 1648، وينبغي الانتباه حتى لا نخلط الأميرين مع صديق لوبي دي بيغا. إن تشابه الأسماء التي اختاروها من المشاكل التي تطرحها دراسة هؤلاء المرتدين، مما يؤدي إلى كثير من الأخطاء.
إن الوثائق لا تمكننا إلا من إعادة ترتيب حياة أهم المسلمين الذين كانوا في شوارع مدريد في القرنين السادس عشر والسابع عشر. الحالات القليلة التي عرضت في هذه الأسطر مجرد رؤوس أقلام واقع أكثر تعقيدا وتشعبا مما تم التوصل إليه إلى حد الآن. هناك شخصيات إسلامية أخرى عاشت. وعرجت على مقربة من القصر الملكي، لكن لم يسعفنا الحظ في العثور على معلومات قطعية وموثوقة بما فيه الكفاية حول تحركاتها. إننا أمام تاريخ مدفون بالكاد بدأ يركب من جديد، ولذلك ينبغي إعادة بنائه انطلاقا من مقتطفات أخبار صغيرة ومعلومات غير تامة، رغم أننا عندما نبدأ في نسجه يمدنا بأخبار طريفة وأشياء عجيبة مثل أن الكثير من دلائل شوارع مدننا تذكرنا بأمراء مسلمين خلقوا إعجابا ودهشة صارا جزءا من المخيال الجماعي المدريدي. أمراء تحولوا إلى مدريدين جدد، أو سفراء عثمانيون تركوا أثرا بليغا في جيرانهم بحيث أصبح الشارع الذي كان يأوي إقامتهم يسمى شارع »»التركي«« اليوم، شارع ماركيس دي كوباس.
عن كتاب « من مجريط الى مدريد»
الصادر عن «البيت العربي» بمدريد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.