اطلعت على مضمون الرسالة التي وجهتها عائلة الشهيد أيت الجيد في موضوع"عملية الاغتيال التي أودت بحياته قبل 19 عاما.وهي الرسالة التي تقول إن قياديا حاليا في صفوف حزب العدالة والتنمية يقف وراء اغتيال محمد بنعيسى...وتطالب الرسالة المذكورة بالكشف عن الحقيقة ومحاكمة كل المتورطين في جريمة الاغتيال. وإذا كان موضوع الرسالة يعيد إلى الأذهان وقائع الجريمة النكراء التي أزهقت روح الفقيد الذي كان ينتمي قيد حياته إلى فصيل الطلبة القاعديين،فإنها تزامنت أيضا مع خبر تناقلته بعض وسائل الإعلام يفيد بأن القيادي الحالي في حزب العدالة والتنمية عبد العلي حامي الدين المتهم في هذه الجريمة صرح أثناء التحقيق-حسب محضر الضابطة القضائية-أنه ينتمي لفصيل الطلبة القاعديين في حين أنه كان ينتمي لفصيل إسلامي سنة 1993.سنة وقوع الجريمة... إنها إذن وقائع تنتمي لدائرة الجريمة والعقاب،لمجال القانون الجنائي.وهي وقائع لاتسقط بالتقادم بكل تأكيد ،ولا تخضع لعوامل الإفلات من الحقيقة قبل العقاب.سيما وأن المتهم فيها مسؤول قيادي في حزب سياسي يترأس الحكومة.وعليه،لايمكن التعامل مع هذه المستجدات بمنطق التغاضي،ولا بترويج أسطوانة المؤامرة،ولا بالهروب إلى الأمام أو إلى الوراء....مادامت الوقائع ترتبط بمجريات التاريخ وبتفاصيل تنتمي لسجل التنقيب عن الحقيقة ولعدم الإفلات من العقاب إذا ما ثبتث الإدانة. عقدان كاملان من الزمن يفصلاننا عن هذه الوقائع. هي بالنسبة لذوي الفقيد، ولأقربائه،ولعائلته،ولأصدقائه،ولرفاقه زمن طويل من الانتظار والترقب يكثف تعابير الجرح الدفين الذي يسيج ذاكرة من يفقد إنسانا بفعل القتل الغادر ،غير أن معادلة الزمن هاته بمعناها الكرونولوجي لا تتوافق وأحكام التاريخ الصارم الممتد في ذاكرة الشعوب.فتاريخ الوقائع والأحداث لا يقاس بقدرة الناس على النسيان، أو المصالحة، أو حتى على فعل المناورة لطمس الحقيقة ...بل بقدرة التاريخ على ترتيب الوقائع من جديد ، وعلى تبويب وتصنيف وتحديد الجزاءات حسب طبيعة الجرائم أيا كان موطنها، وأصلها وفصلها.فالتاريخ سجل مفتوح على الدوام،يقيس الزمن بمنطقه الخالص، ويعيد الاعتبار للذاكرة الإنسانية بعيدا عن منطق الانتقام البدائي .إنها القوة الرمزية للتاريخ التي تجعل منه حليفا موضوعيا للحقيقة.وإلا لماذا تصر عائلات الشهداء والمختطفين وذوي المصير المجهول على معرفة حقيقة ما جرى لأقربائهم وذويهم؟.هل نطلب ياترى من عائلات المهدي بنبركة، وعمر بنجلون، والرويسي،والمانوزي،وزروال...وآخرين أن يكفوا عن المطالبة بحقهم في معرفة الحقيقة كاملة لكي يستقيم حكم كل الذين تخيفهم الحقيقة؟. لاياسادة أعزكم الله...هل تريدون أن يصمت التاريخ، أن تتوقف الّذاكرة البشرية لكي تسوسوننا بمنطق إمارتكم.؟..فلتعلموا أن فلسفة الحقيقة جزء من التاريخ وألا سلطة تعلو عليه.واليوم، حيث تسائلكم وقائع هذا الملف وملفات أخرى، وأنتم على رأس النيابة العامة فلتسائلوا حقيقة ما جرى عوض البحث عن تبريرات كتلك التي وقعها صاحب المقال المعنون ب"من يريد ٍ رأس عبد العلي حامي الدين" حيث يذكرنا صاحبه بأن حامي الدين"شاب يزعج البعض"وأنه هو "الصوت الفريد المغرد خارج السرب " ،وأنه "ضمير البيجيدي"،وأنه"خرج في مسيرات حركة 20فبراير رافعا مطلب الملكية البرلمانية"،وأنه مع نظرية "التغيير الديمقراطي في إطار الاستمرارية" ،وأنه انتقد"لادستورية اللقاء الذي جمع الملك محمد السادس يوم 9غشت مع وزير الداخلية حيث أعطى الملك الأمر بفتح تحقيق في شكايات لعدد من مغاربة الخارج"...الخ.والحقيقة، أنه لا نرى وجه العلاقة السببية بين هذه الدفوعات الشكلية ووقائع ملف جنائي يعود لسنة 1993. إننا لانتهم أحدا غير أننا نخشى أن تختبئوا وراء فهمكم للربيع المغربي لكي تذكروننا [بأن البيجيدي مستهدف،وأن التماسيح والعفاريت هي التي تحرك هذا الملف،,"وأنه لماذا لم يتذكر البعض،إلا اليوم،أن حامي الدين متهم في عملية اغتيال بنعيسى ايت الجيد ؟"...لا يهمنا أن " تتعطل "حقيقة هذا الملف،بقدر ما تهمنا الحقيقة نفسها، ولا يهمنا إن كان المتهم مع أو ضد الملكية البرلمانية،وإن كان مشاغبا في حزبه،و,ان كانت خرجاته محرجة لرئيس الحكومة...وإلا لافترضنا بمنطق القياس أن كل شخص مع شعار الملكية البرلمانية-وهو بالمناسبة ليس شعارا ثوريا كما يعتقد البعض- ، وأن كل شخص محرج لرئيس الحكومة سيجد نفسه متابعا بملف جنائي قد يطارده.الحقيقة يا سادة،وبكل الهدوء المفترض،ثاوية في تفاصيل الأشياء...ولتأمر النيابة العامة بفتح تحقيق في الموضوع.فلكل سبب مسببات،ومن ينكرها يبطل الإرادة الإلهية. ومن جحد وجود ترتيب المسببات على الأسباب،فقد جحد الصانع الحكيم تعالى-بلغة ابن رشد-.هي الأسباب إذن تلاحق الناس حيثما كانوا..وحيثما حكموا..وحيثما اختبؤوا...أما إرادة الهروب من التاريخ فإنها لن تقدر على طمس الحقيقة. كنا بقانون طوارئ لا يبيح اتهام المعارض المسالم بدعم الإرهاب، فصرنا بقانون مكافحة إرهاب يعتبر السلوك الذي كان في قانون الطوارئ جريمة عادية يعاقب عليها بالحبس من عام إلى ثلاثة مثل «إضعاف الشعور القومي» عملا إرهابيا يحكم على مرتكبه بالسجن لمدة عشرين عاما. يعني هذا أنني كمتّهم، بإضعاف الشعور القومي، لن أفقد فقط راتبي التقاعدي، بل سأحكم بعشرين عاما على جرم حكمت عليه العام 2006، قبل الإصلاح القانوني الذي أنجزه بشار الأسد، بالسجن لثلاثة أعوام، وسط اعتذارات من القاضي الذي أصدر الحكم واعتبره ظالما، لأن المخابرات فرضته عليه، على حد قوله لأكثر من صديق وفي أكثر من زمان ومكان. والآن: ماذا يعني أن يطال الحكم أولادي؟ يبين هذا السؤال بجلاء ما بعده جلاء طبيعة النظام الاستبدادي الذي يحكم سوريا بقوانين لها فعل المدافع والدبابات والطائرات التي تدمر المدن والقرى السورية منذ أكثر من عام ونصف العام، والتي أكد الاسد في آخر لقاء له أنها أسلحة تابعة للمعارضة وليست للسلطة، عندما نسب تدمير البلاد إلى «عصابات مسلحة»، أي إلى جماعات تابعة للمعارضة، في عملية قلب للحقائق يستحيل أن يصدقها عاقل، أو أن تخطر ببال عاقل. ما علينا. عندما يعتقل مواطن في سوريا الأسد توجه إليه تهم يتعمد النظام أن تكون مهينة وماسة بكرامته الوطنية، فإن كان من القائلين بضرورة تحرير الجولان اتهم ب«التخابر مع العدو»، وان كان مطالبا بالعدالة الاجتماعية كانت تهمته «معاداة النظام الاشتراكي»، وان طالب بالحرية اتهم ب«مناوأة الدولة»، وان كان من جماعة الوحدة العربية اتهم ب«إثارة النعرات العنصرية والطائفية»، وإذا كان ديموقراطيا اتهم ب «إضعاف الشعور القومي وإيهان نفسية الأمة»، وإذا كان لا هذا ولا ذاك اتهم ب «الإرهاب» . ينضوي المواطن في نظر السلطة ضمن واحد من سياقات ثلاثة تحدد مدة الحكم عليه، فإن كان شخصا يصلي في المسجد اعتبر «بيئة إسلامية «، مواطنا قد يتعاطف مع الإسلاميين، فإذا ما اعتقل عومل كإسلامي، وان التقى في المسجد أحدا تبين أنه من الإسلاميين أو المتهمين بالأسلمة اعتبر «صلة»، وكانت عقوبته على العموم أشد من عقوبة «البيئة». أخيرا إذا كان في حزب أو متهما بانتمائه إلى حزب اعتبر «منظما» تلقى العقوبة القصوى، التي تكون دائما انتقامية وثأرية وكيدية. لنفترض أنه لم يذهب إلى المسجد ولم يلتق أحدا ولم يكن إسلاميا، وإنما تعرف قبل عشرين أو ثلاثين عاما على شاب في مثل عمره تناول معه طعام الغداء في مطعم ما أو بات ليلته عنده، ثم تبين أن هذا الشاب انتسب في ما بعد إلى حزب سياسي معارض، فإن مجرد اعتراف الاخير، الحزبي، بأنه عرفه ذات يوم يكفي لاعتباره بيئة أو صلة، حتى إذا لم يعاود الاتصال به ولم يقابله ولو مرة واحدة، ولزجه في السجن لفترة قد تصل إلى خمسة عشر عاما، كما حدث لشباب عرفوا قبل سنوات كثيرة زملاء جامعيين انتسبوا في ما بعد إلى حزب معارض. لقد أمضى بعض هؤلاء خمسة عشر عاما في السجون بتهمة أنهم «بيئة» أو»صلة». عندما يفر شاب متهم بإحدى هاتين التهمتين من الاعتقال، يتم اعتقال أطفاله أو زوجته أو والده أو أحد إخوته لإجباره على تسليم نفسه، وكم سمع السجناء في فرع التحقيق العسكري أصوات نساء هن بنات أو زوجات أو أخوات أشخاص فروا إلى خارج البلاد، لكنهن أمضين سنوات تصل إلى أكثر من عقد في زنازين هذا الفرع، بحجة إجبار أزواجهن أو آبائهن أو إخوتهن على تسليم أنفسهم، وكم تم الاعتداء عليهن وامتهنت كرامتهن واغتصبن بل أنجبن من أطفال! والآن، وعندما يأتي ظرف يحتم إطلاق سراح المعتقل، يتم تقديمه إلى المحاكمة، بعد أن يكون قد أمضى سنوات كثيرة في السجن. لنفترض أنه «نام» أربعة عشر عاما وأربعة أشهر دون أن يحاكم، مثلما حدث لجماعات كثيرة، وأن النظام وجد نفسه مرغماً على إطلاق سراحه، فإنه يقدم عندئذ إلى جلسة محاكمة واحدة يصدر عليه خلالها حكماً بالحبس لفترة أربعة عشر عاما ونصف عام، وبعد أيام يصدر عفو رئاسي عنه تحتفي صحافة السلطة به بضجيج صاخب، وهي تمتدح «عظيم الأمة»، الذي عفا عنه رغم ما ارتكبه من جرائم! في هذه الحال، يبدأ رجال الأمن الذي كانوا يتهمونه إلى البارحة بالخيانة ويوجهون إليه الإهانات، بامتداح وطنيته والحديث عن سجنه باعتباره سوء تفاهم بين أبناء الصف الوطني الواحد، ويذكرونه بأن عليه نسيان ما لحق به من ضرر وإهانات، ويطلبون منه إرسال برقية شكر للرئيس الذي أعاده إلى أسرته وسامحه على جرائمه. اخيرا، يعرض عليه التعاون مع الأمن والتحول إلى مخبر، ويحذر بلغة لا لبس فيها، من العودة إلى صفوف حزبه، لأن المرة المقبلة ستكون أشد من الأولى. هذا النظام الذي يتهم بدعم الإرهاب مواطنين لا ذنب لهم، غير أنهم أولاد معارض سلمي، فيصادر أموالهم وممتلكاتهم ويمكن ان يحكمهم بالسجن لمدة تصل إلى عشرين عاما، والذي قدمت لمحة فقيرة جدا ولا ترقى بأي حال إلى مستوى ممارساته، دون ان أعرّج على طرق التعذيب والتصفية في أقبية مخابراته ومعتقلاته وسجونه، هو الذي جعل الشعب السوري يفضل الموت على مواصلة العيش في ظله، وتسبب في ثورة الحرية، التي لن يجد علاجا لها غير تدمير مدن وقرى سوريا وتقويض مجتمعها ودولتها. لا يتفق النظام السوري مع أي شيء طبيعي أو قانوني. إنه نظام مخالف للطبيعة وسيزول حتما، لسبب رئيس، هو فشله في طبع شعب سوريا بطابعه المخالف للطبيعة الإنسانية، وإخفاقه في استزراع مفاهيمه المناوئة لهذه الطبيعة في نفوس مواطنين بدأوا يستردون حياتهم الطبيعية من خلال ثورتهم، التي لن تخلصهم فقط من حكمه الشاذ، بل ستردهم كذلك إلى طبيعتهم السمحاء وروحهم السامية، وستحول دون عودتهم الى نظام غير استبدادي كالذي يقضون اليوم عليه، بذلك الثمن الفادح والجسيم، الذي تقشعر له الأبدان!