إلى محمد العربي المساري، عاشق الحكمة الامثال والحكم والاقوال السائرة التي راجت في القديم، وتروج الآن كثيرة، كثيرة بحيت لا يمكن سردها كلها دفعة واحدة لانها تغطي مسافات ومساحات لا حد لها من الامكنة والازمنة والوقائع والاحداث المختلفة في كل الثقافات والحضارات والمجتمعات الانسانية، ومنها الثقافة العربية بكل روافدها، وفيها تأليق ومصنفات منذ الضبي وابي هلال العسكري والميداني وصولا الى اليومي في زهر الاكم اربعة اجزاء) والحسين بن علي بنعبد الله في قصص وامثال من المغرب، بالنسبة الى بلدنا، وهي غنية ومفيدة نستطيع من خلالها تمثل حضارتنا و حاضرنا بحكم انها اخترقت وتخترق الدين والمجتمع والحياة والسياسة، سواء كانت فصيحة او متحولة عنها من حيث الاصول والمرجعيات والسياقات، نجدها في الشعر والنثر، كما نجدها في أجناس وجنسيات مهجنة، الخطابة مثلا او المقاومات او كتب الرحلة، وكذلك في لغات التخاطب اليومي الشفوي وغيره، بما في ذلك الاشهار أحيانا. من هذه الامثال كل إناء بما فيه ينضح او اعط القوس باريها وصل الى ذلك مما يدعو الى ممارسة حفريات في موضوعاتها ومضامينها واشكالها المتعددة، ومما يجعلها نستعيد بعضها دافع ان من يتابع مايجري في العالم العربي، منذ مقامات الربيع العربي أو مرتجلاته، يثيرة كثيرة ما يكتب ويقال ويصرح به، من خلال عدة خطابات، ويحس باننا كمن يشاهد فيلما من قبيل تحليق فوق عش الكوكو ارقص مع الذئاب، وسواهما حسب السياق الذي نريد ان نفهم من خلاله ما يجري في المشهد الديني والمشهد الديني والمشهد السياسي، وما بينهما اجتماعيا وفنيا وثقافيا وكذلك رياضيا. سيد هذه الخطابات خطاب ديني مفترض يقوله او يكتبه أو يصرح به فقيه او داعية او عالم، متكئا، الخطاب - ملفع يغرف ويغترف من الايديولوجيا لتبربر تخريجاته بصدد واقع الحال في أمور الدنيا كالفن والاقتصاد والمجتمع والهوية. هذا الخطاب، اجانب الخطاب الديني ينطلق من سبق الاصرار والترصد والترميق، والسرق والاجتلاف والنحل على غرار ما جرى ويجري في الشعر كما أشار الى ذلك قدماء نقاد الشعر من امثال الامدي والجرجاني وابني رشيق. الخطاب الديني محوره الوعظ والارشاد والتهديد والوعيد والتلبيس من اجل غاية واحدة، او تكاد تكون وحيدة الا في حالات نادرة، هي غاية الهيمنة وتحويل الناس عن غاياتهم المطلوبة والمشروعة الى ما يشبه سوق الدلالة بما فيه من فتنة وافتتان وزيادة ونقصان وبيع وشراء ومقايضة بغية تصريف ازمة الواقع عوض تقديم حلول رصينة وواضحة المعالم برؤية مقنعة لاصلاح هذا الواقع بما يلزم من برامج ومشاريع ومخططات على الارض في ظل مجتمع مدينة ديموقراطية تتحكم فيها قيم سامية كالمواطنة الحية والحرية المسؤولة والوعي الممكن المحكم والعلم النافع والمعرفة السليمة والتوافق المفيد والشوري العاقلة والترشيد المثمر النابع من ضرورات المجتمع والانسان والاختلاف المبدع والهوية المتماسكة دون عصبية وتعصب و نفي للاخر بعيدا عن التهافت وعن ثقافة الميز والتحريم والتكفير المراقبة واباحة الدماء والقتل كما في الماضي على امتداد عقود وقرون بعد موت النبي مباشرة، يشهد بذلك تاريخ الامويين وتاريخ العباسيين منذ معاوية وأبي العباس. الخطاب السياسي ممعن في الخلط بين الايديولوجيا المغلقة والممارسة الحرفية للهواجس والنوازع والاهواء والكوابيس والاستيهامات وفوبيا التسلط، وابرز من يمثل هذا الخطاب سياسيون رجعيون محافظون تقليديون دوغمائيون ورجال دين متشددون واحزاب مهلهلة ومنظرنو لاهم يف العير ولا في النفير وصحافيون واعلاميون يدعون نسب زرقاء اليماحة وعوض ان يكحلواه يقوودن ضحيتهم الى العمى كما هو شأن بطل رواية قنديل ام هاشم (يحي حقي): انه خطاب متجول، يتسول تصوراته الطائشة واطروحاته المبينة من بنك معطيات هلامية تصب الخل في الزيت على يد الشيخة ربابة بشار، اقصد بشارا بن برد وليس بشارا الدموي في دمشق وحلب وحمص والرسن، وتقترن بهذه الجماعة، من اتباع وهو يدي الخطاب السياسي المزعوم القائم بالقوة، المعلق في سماء لا ادريه مخزنة في الرفوف والهواتف النقالة، جماعات متفرقة، خرجت من علبة ياندورا وهي اقرب ما تكون ممن ذكرهم بعض شعراء العربية، في الجاهلية والاسلامية، فيم عرض بعض نصوصهم، وشبهوهم بالطيور الجارحة الكاسرة كالنسور والعقبان والصقور، ومن هؤلاء الشعراء ابو مسلم بن الوليد وابو تمام والنابغة الذبياني و ابو نواس، مع الاشارة الى أن الشاعر الافهوه الاودي كان هو الاسبق عندما قال وترى الطير على اثارنا رأى عين ثقة او ستماء من الميرة اي الزاد والمؤونة، التقضي بالداجة وقريب منها الجرمونة واللعاقة والبقشيش، والاكراميات بلغة الخليج وكلها تمت وتحيي، تتسرب الى العقل والجسد وتصيب بالصدأ ما تبقى اذا تتحول الى مخدر مزمن، وعلينا من خلال هذه الافة ما يتعرض له الخطاب السياسي من فطل يصيب اهله ما اصاب ذات مرة طرفة ساذجا وغرا وان نبهه خاله المتلمس فسمي ما جرى بينهما صحيفة المتلمس، ناهيك عما جرى لبشر بن المعتمر مع صحيفته ايضا، الاولى غواية لاغتناء لا يتحقق وتقود الى الحتف، والثانية رفق و تدارك لمداراة الحال خوف اكتشاف الذات في العربات عمود درويش، مما يجعل احزابا صورية عديدة تستعين بهذه الجماعات وتستصرفها للخوض في سياسة لاعبي النو... أو الشطرنج والدومينو من باب تزوجية الوقت واستهلاك الزمن والحقيقة وملء الفراغ: هنا سيرك، وهناك احتيال ومراوغة ودسيسة وإيقاع بمن خفت توازينه ورؤياه لخوض معارك وحروب وأشواط إضافية وأوقات بدل الضائعة قبل الضربات الترجيحية أو الهدف الذهبي في مباريات لا تحيد عن الاستعراض لأنها مدفوعة الأجر والتعويض سلفا، تمويهات تقود إلى الخسارات حتما ولو كانت نصرا يعقبه النزول أو الصعود إلى أن يأتي النزول إلى الأبد مجانا. بجانب هذه الجماعات المغرر بها أو المغررة بنفسها، وكذلك الماضية في غيها، تنهض جماعات من صنف آخر هي جماعات الرأي التي لا رأي لها سوى »الدميص« في لعبة الأمر والنهي، من خلال مشاهد تعيد ما حدث - يحدث للحمل مع الذئب على حافة ماء يجري، من هذه الجماعات منظروف من طينة حملة الترس (لذلك يقال في الدارجة« التراس« ربما)، وهنا تقود الاستعارة والتمثل والتمثيل إلى شخصية سانشوپانثا و فقة دون كيتخوتي ذي لامنتشا، الفارس النبيل الذي يتمادى في جنونه، بينما حامل الرس وخادمه يتحمل عواقب محمقه بلا حدولا كلل وما أكثر هؤلاء في نمط معين من إعلام الفهلوة. الخطاب الثقافي فضفاض بطبعه باستثناء اشراقات نجدها لدى دارسين وباحثين بعيدون النظر في مكونات وآليات وإبدالات الثقافة المغربية والثقافة العربية - الإسلامية، قدماء ومحدثين ومعاصرين، بعمق ودقة وإقناع دون صنمية أو اتباع، في التاريخ والمجتمع والسياسة والسلطة والمؤسسات والمثثلات، غير أن ما يقدم من طرف هولاء، في عدة حقول معرفية، تناصبهم الدولة العداء، كما الكثير من السياسيين والزعماء وعلماء الدين المحنطين من ذوي الذلفى لأن ذلك يشوش علي مراكزهم ويجردهم من سلطهم المطلقة والمشرعة في كل صوب واتجاه، خاصة الدين والمجتمع والسياسة، الأقانيم التي صادرونها لصالحهم ويحولونها إلى ملكية خاصة، مبدأهم في ذلك الواجهة والوجاهة لقضاء الحاحة والمصلحة بانتهازية مكشوفة وطفيلية راسخة ملفوفة ميل فوي في قرارة النفس بهدف تحويل الناس إلى ثيران في حلبة الكوريدا. هذا هو ديدنهم، وتلك جبلتهم التي فطروا عليها أشباه ونظائر، في الواقع وفي عدة أحزاب وجمعيات دنية ملفقة، في الإعلام المنجنح، في البرلمان باسم هذا المنزع أو ذاك، وفي غير ذلك من مراتب العمران كما توحي بذلك أطروحات صاحب »المقدمة« وغيره من جهابذة العلم والتفكير العقلاني. الخطاب الفني مراوغ وماكر دأبه كدأب أم الحويرث في معلقة المرئ القيس، يضع رجلا هنا ورجالا هناك، رجلا في المستنقعات ورجلأ في النعيم علي حساب الفراغ والعقلنة والكثير من الاحتباس وعدم الخيال (بضم العين وتسكين الدال) في اختيار المضامين والوضوعات والأشكال والشخوص ضدا على صحو الإبداع ونضج الأفكار ورحابة الابتكار وتقدير انتظارات المتلقي، في المسرح كما في الطرب والغناء، في السينما كما في التلفزيون الذي استحال خرقة في ما يشبه فضاء »العطم البلدي« حسب شاعر الحمراء أو جبة درويش متجول، من محترفي الكدية والنصب والاحتبال واتسدرار المعاش بليكي، يتسول المسلسلات من كل القارات ويطبخ السيتكومات بسرعة السفناج دون مراعاة للذوق والفرجة الراقية كما عهدنا ذلك قبل عقود تولت بزخمها وعطائها بفضل مبدعات ومبدعين أفذاذ في الحقول المذكورة وسواها، في التشكيل والموسيقى والرياضة والبراامج التثقيفية الجادة. أم على الرياضة الرياضة ديال النفس والهمة والشأن في كرة القدم وألعاب القوى، أم على الضحك والفكاهة والانتشاء، وشتان بين البعد والدرو، شتان بين حاطب ليل وبين أهل الحرفة والصنعة والاتقان الواعرين. إنه المحو والطامة الكبرى في عدة خطابات جوفاء تحاصرنا، تقض مضاجعنا، تهتك حميميتنا وألفتنا، تدمرنا علي مدار اليوم والأسبوع والشهر والسنة، تحرمنا من المواطنة النبيلة الشريفة المشرقة النيرة النزيهة الهادفة المنيرة الزخرة المنيفة الجميلة السليمة الوضيعة الراقية المفيدة الأصيلة والكريمة المعطاء، الوازنة كما يقول أخي وصديقي الشاعر البحث والروائي حسن نجمي وكما يدافع عنها ويؤازها أمثال السي محمد العربي المساري، صاحب الرزي الثاقب والدور الواجب والتصور الصائب. إنه المحو وطامة تقودنا الي العزلة بالفعل لا بالتمني كما يطيب للفقيه المقاصدي أن يستحليها ويشرغها ويغرقنا فيها لبناء وتسييح معزل (غيتو) القدم والتيه بممارسة النضق (الفيتو) في كل شأن، هو وأضرابه ممن لا يتوقفون علي إصدار واستصدار وتصدير فتاوي تلوفتوي للترهيب والتحديم والحرمان من كل مكاسب اتنوير، تعضد هم في ذلك ميلييات عصور الانحطاط في عهد المماليك والعثمانيين كدأب من لا يميزون بين ألف المعرفة وبين »زرواطة« التعميم دون إمعان في تفاريق الدين الدنيا كما أرادها الله حرصا على السعادة والانشراح ودفع الشؤم والتشاؤم والكدر والخوف والانكماش ودفع الفرقة أيضا باسم القومة وغيرها. نحن أيضا لا نقبل الاسفاف ولا نقبل التزييف والغش، لكننان أيضا لا نقبل المصادرة ووضع الجميع ف سلة و احدة ولامانع من التقويم والنقد لمواجهة »الخوردة، إنما الخوردة والسقط يوجدان أيضا في السياسة وفي الكثير من تجليات الخطاب الديني الذي يتاجر به. ما يلزمنا هو الوقوف على الخلل والبحث عن وسائل تنقذنا من آفاق ثقافة المحو وتحثنا علي صياغة مشاريع نهضة تليق بنا كشعب ونخب ومفكرين وباحثين وعلماء أجلاء وأط فعال نقدرها ونراهن عليها لصناعة الحاضر والمستقبل. أما أولئك، »الهؤلاء« الذين يُحاصرنا مَقْتُهُم، يحاصرون مُهْجَتنا، يريدون تحويلنا إلى رماد وتحويل مُنْجزنا المغربي، الفكري والتاريخي والسياسي والفني ولاإبداعي والثقافي والفقهي فما عليهم إلا النظر في المرآة لاكتشاف فحولتهم أو النظر في قرارة أنفسهم لاكتشاف الخُواء والهباء وقصر الرؤية الجدلية الواجبة والاعتراف، إذ استطاعوا إلى ذلك السبيل المعرفي، بعجزهم عن تقديم بدائل حرية بأن تخرجنا من مآزقنا المختلفة بعيداً عن الميتافزيقيا القاتلة والأدلوجات المتآمرة والمتضاربة في تصور العالم و الكون والوجود والهوية، كما هي لا كما يُرادُ لها أن تكون وكأن الأمر يتعلق باختيار طوعي لا مرد له أو قضاء جازم تكفي فيه الفتاوى والتخريجات لإباحة القتل والتنكيل والمراقبة والحصار وملاحقة التنوير والتجديد والتطور نحو مستقبل مضيء. هل يتعلق الأمر بميدوزا (أوميدوسا) تسعى إلى ما تسعى إليه من إقبار كل شيء بتمرير ثقافة المحو كما طبقت في عدة لحظات سوداء تراجيدية يتستر عليها علماء دين ومتفيقهين ودعاة ومفتين لأنها تقدم الدليل تلو الدليل على على الهمجية والرعب والترهيب والإرهاب؟ يكفي أن نقرأ مصادر قديمة وحديثة ومعاصرة في الثقافة العربية الاسلامية لنعلم كثرة الأفعال والأقوال والآراء والممارسات والأحداث والوقائع التي دمّرت الإسلام ذاته باسم إقامة الحد في حق علماء ومفكرين ومتكلمين ومتصوفة وشعراء وأدباء ومؤرخين وغيرهم، إقامة الحد وأيضاً القتل والصلب والتعريض ولاملاحقة والسجن والتعذيب والتشديد والعزل. الأمثلة لا حصر لها، ولا نملك سوى المطالبة بحقنا في الحياة والتفكير السوي الجاد النبيه ولا حاجة لنا في ميدوزا الدين. لقد تعبنا من التراجيديا، تعبنا من فصولها وعروضها. تعبنا من الألم والبكاء والعذاب والتوجّس والريبة والفُرقة والوصاية. تعبنا من أُدْلوجات »فقهاء الظلام« الخبثاء المندسين بين الصلب والترائب. تعبنا من تأليب الناس ضد الناس في مجتمعاتنا المطمئنة رغم الآفات والأزمات والمآزق وهي تنشد التطور والتقدم والديمقراطية والحداثة النافعة، الحداثة العقلية والفكرية، في التعليم والبحث العلمي الرصين وفي تشييد أفق نظام دولة الحق والقانون والمؤسسات المتراصة المتكاملة والمتوازنة. ما نريده في المغرب، ضمن ما نريد، هو بناء مغرب متنور مبدع خلاّق تصْهَرهُ وتحميه وتقوده رحلة البحث عن بدائل مقنعة، علماً وعملاً، في هذا الوطن الجميل بالفعل لا باسم السياحة وحدها أو باسم أدْلوجات ملتبسة وُكْدُها المحْو ولاشيء سوى المحو وإشاعة الخراب. اللهم يسّر ولا تعسّر. والمتغير هذا ليس طارئاً أو عادياً، ولا ينبغي- لذلك السبب- استصغار شأنه، وإنما يوشك أن يتحول إلى استراتيجيا سياسية شاملة، بدليل أنه لم يقتصر على حالة عربية دون أخرى، ثم بدليل أن التعبير عنه في خيارات سياسية رسمية أميركية كشف عن حال من الإجماع عليه: في الإدارة، والكونغرس، والإعلام، ولدى الطبقة السياسية من الحزبين «الديمقراطي والجمهوري». وإذا أضفنا، إلى هذه القرائن، ملاحظة حالة التطابق، في الرأي والتقدير والسلوك السياسي، بين سياسات الولاياتالمتحدة الأميركية وسياسات الدول الأوروبية تجاه الحركات الإسلامية، توافر دليل آخر، فائض، على أن الأمر- في هذا المتغير- يتعلق، فعلاً، باستراتيجية شاملة وليس بمجرد خيار طارئ أو عارض سرعان ما ينحسر ليخلي المجال لغيره. ما المتغير السياسي الذي نعنيه؟ إنه، ببساطة، التحول الكبير في موقف الإدارة الأميركية من الحركات، التي كانت تطلق عليها اسم «الأصولية الإسلامية»: من حسبانها عدواً، يجب محاربته وتطويقه واجتثاته، إلى حسبانها حليفاً أو- على الأقل- فريقاً سياسياً مقبولاً، بل يطلب منه، اليوم، أداء دور سياسي في بلدانه من موقع السلطة، وهو تحول غير قليل الشأن بالنظر إلى المدى الذي كانت قد بلغته سياسات المواجهة الأميركية لهذه الحركات إلى عهد قريب، إما من طريق مباشر، وبوساطة الأدوات الأميركية، أو من طريق غير مباشر، عبر دعم الأنظمة السياسية القائمة- في معاركها المديدة- مع الحركات الإسلامية المعارضة: المسلحة وغير المسلحة، المتطرفة والأقل تطرفاً. إن حروب أميركا، وعملياتها الاستخبارية والأمنية، على تنظيم «القاعدة»، في مركزه الأفغاني وفي «فروعه» العربية والدولية، وعلى ردائفه «الجهادية»، المختلفة، معروفة، ومعروفة حدتها وشراستها اللتان لا تضاهيمها، في الحزم والصرامة، سوى حدة الحرب الاقتصادية والمالية وشراستها على تنظيمات «الأصولية» الإسلامية، لتجفيف ينابيعها ومواردها المادية، وعلى البلدان التي توفر ملجأ، أو ملاذاً آمناً، لتلك التنظيمات. ولم تكن المواجهة غير المباشرة أقل حدة، فإلى دعم سياسات الاستئصال الأمني، التي نهجتها دول عربية عدة مع الإسلاميين، والتغطية السياسية على الارتكابات الفظيعة تجاه حقوق الإنسان- كما في تونس بن علي ومصر مبارك- ضغطت الإدارة الأميركية، بشدة، على معظم الأنظمة العربية لإحداث تعديلات في البرامج التعليمية، وفي السياسات الدينية، لاجتثات «ثقافة الكراهية» والتطرف التي يتلقنها الناشئة، ثم لكفّ الدعم المالي للمؤسسات الدينية التي يثبت دفاعها عن أفكار التطرف... إلخ. ورب قائل يقول، منبهاً أو معترضاً، إن سياسات المواجهة الأميركية للحركات الإسلامية، في المرحلة الماضية، لم تكن واحدة، وإنما تعددت بتعدد القوى التي وقعت عليها: بين متطرفة، مسلحة، ومجاهرة بالعداء لأميركا والغرب، وقوى معتدلة، سياسية، ومستعدة للحوار مع أميركا، وبالتالي سيكون في باب المبالغة، وعدم الدقة، الحديث عن سياسة أميركية، بالمفرد، لا عن سياسات متنوعة. والملاحظة الاستدراكية صحيحة بشرط أن لا يبنى عليها الاستنتاج، أو الاعتقاد، بأن تنوع تلك السياسات «الأميركية» لم يكن يحكمه موقف جامع من الحركات الإسلامية جملة وتفصيلاً. وليس يغير من هذه الحقيقة أن أميركا حاربت، عسكرياً، قسماً من الإسلاميين وليس الإسلاميين جميعاً، ذلك أنها حاربت من حملوا السلاح في وجهها، أما من اكتفوا بنقدها سياسياً فاكتفت بالضغط السياسي عليهم: مباشرة أو بالوسائط. والأهم من ذلك، أن على من قد يلتمسون الأعذار لتلك السياسات في الماضي، بدعوى أن أميركا غيرت مواقفها السلبية، أن لا ينسوا أن الإدارات الأميركية ظلت تتهم الحركات الإسلامية «المعتدلة» بكونها الرحم التي خرجت منها القوى «الجهادية» المسلحة، وتكون فيها وعيها... إلخ. ما الذي يفيده هذا الاستدراك على الاستدراك؟ إنه يبغي التشديد على ذلك التحول الكبير الذي طرأ منذ عام ونصف العام، في الموقف الأميركي من حركات كانت إما في حكم العدو، أو في حكم الخصم السياسي الذي يخشى جانبه، والذي ينبغي حصار دوره ووجوده السياسي، وإحكام الرقابة عليه. وهو تشديد يروم تبديد أي تبرير ممكن قد تأتيه الضحية، اليوم، من الجلاد، من طريق التهوين من فصول العداء المتبادل بينهما في الماضي القريب. وأظهر ما في هذا التبرير، اليوم، أن يقال- وقد قيل- إن تغير الموقف الأميركي من «الإسلام الحزبي» إنما يرد إلى أن الإدارة الأميركية «اقتنعت» بأن الحركات الإسلامية تتمتع بقدرة تمثيلية كبيرة، وليس كما كانت تصورها الأنظمة القائمة وأجهزتها الأمنية، وأن هذه الحركات وصلت إلى السلطة ب»الاقتراع الديمقراطي»، وأصوات الشعب، وليس من طريق العنف المسلح. من نافلة القول إنه تبرير ضعيف، حتى لا نقول إن من وظائفه تلميع صورة الإدارة الأميركية بما هي جهة تحترم إرادة الشعوب، حين تفصح عنها هذه الشعوب عبر صناديق الاقتراع، ولعمري إن ذلك يتجاهل حقيقتين في ملف العلاقة بين أميركا وهذه الحركات، طيلة العقدين المنصرمين: أولاهما، أن الولاياتالمتحدة ودول أوروبا تعرف، على التحقيق، وفي ذروة صراعها- المسلح والسياسي- مع الحركات الإسلامية، أن هذه الأخيرة ذات حيثية سياسية تمثيلية في بلدانها، وما كانت في حاجة إلى انتخابات «الربيع العربي» كي تكتشف ذلك، وتبني على مقتضاه سياسة جديدة. وثانيهما، أن الإسلاميين- وصلوا إلى السلطة- قبل ما يسمى «الربيع العربي»- بالاقتراع الانتخابي الحر والنزيه: في جزائر ما بعد الثورة أكتوبر 1988، في انتخابات البرلمان «المجلس الشعبي الوطني» «1991»، بأغلبية كاسحة، وفي أراضي «أوسلو» الفلسطينية، في انتخابات المجلس التشريعي «2005». لكن الإدارة الأميركية، وحليفاتها الغربية، وقفت بشدة في وجه صعودهم بالطرق السلمية، وعبر الانتخابات، لأنها لا ترغب في أن يحكموا، حتى لو كان ذلك بإرادة من الشعب. لا مهرب، إذن، من الاعتراف بأن تغييراً كبيراً طرأ على الموقف الأميركي- والأوروبي استطراداً- من الحركات الإسلامية في الحقبة الأخيرة؛ على أن الأهم من التسليم بذلك التغيير، فهمه وتحليل عوامله وأسبابه. ليس لدى إذن إزاء هذه التصريحات المستفزة إلا أن أصفها بالبلطجة الدينية، والاستعلاء على الدولة، فبأى حق يريد »باخوميوس« ومن يوافقه فى رأيه، أن ينعزل بالكنيسة المصرية، وأن يتعامل مع أموالها باعتبارها منزهة عن المراقبة، وما العيب فى أن تقدم الكنيسة بيانا سنويا بمصروفاتها ومواردها لتكون الدولة على علم بها، دون أن تتدخل الدولة فى الشأن الدينى للمسيحيين وفقا لقاعدة الحرية الدينية، وما العيب فى أن تكتب الكنيسة موازنتها السنوية بما فى ذلك أموال إعاشة الرهبان القساوسة، إن كان ما بها ليس مخالفا للقانون؟، وبأى حق يعلى »غالب« من شأن ميزانية الكنيسة وهى المؤسسة الدينية الروحية الخدمية التى تمارس أنشطتها فى العلن على أمر ميزانية الجيش، وهو المؤسسة التى تحافظ من الأمن القومى بما فيه من أسرار؟. تصريحات الأنبا لا تدل إلا على أن الكنيسة القبطية لا تريد أن تتعامل باعتبارها مؤسسة وطنية، وإنما تريد أن تحفظ لنفسها مكانا ضمن المؤسسات الطائفية، لينسف الأنبا كتلة المفاهيم المدنية التى ينادى بها الأقباط قبل المسلمين، ومن أهمها مفهوم المواطنة، وعدم التمييز، ولا يقابله فى هذه النزعة الطائفية البغيضة سوى جماعة الإخوان المسلمين التى لا تريد أن تعلن عن ميزانيتها، ولا تريد أن تقنن أوضاعها، وثالث هذه »الكنتونات« هو الجيش الذى يحاول ممثلوه داخل الجمعية التأسيسية للدستور، أن يحتفظوا لأنفسهم بوضع خاص داخل الدستور، فهل نحن فى دولة تسرى قوانينها على الكبير والصغير.. أم فى عزبة تريد كل طائفة أو فئة أن تستقل بنفسها عن بقية الدولة؟ ثم ألا تدرى هذه المؤسسات أنها بدافع أنانيتها، وأغراضها التى لا يعلمها إلا الله، تدفع بقية طوائف وفئات الشعب المصرى هى الأخرى إلى العصيان، وعدم الالتزام بالقانون، وتنسف مفهوم »مصر الواحدة« ممهدة بذلك المنحى الأنانى لتقسيم مصر؟.