لم يتحقق أي بند من بنود التنمية العربية المستدامة، وضمنها الحقل الزراعي.وبقي كل نظام عربي، يبحث لنفسه عن بر للأمان عبر مداخل ومخارج لا تنتمي إلى أي من أدبيات التفكير الإستراتيجي. بهذا الخصوص، سئم الباحثون من الترديد المجاني لبيانات تشير إلى أهمية التكامل الإقتصادي بين الأسواق العربية، وجبرية التجمعات الإقليمية قصد مواجهة التحديات الجسيمة.لكنه، طموح بقي يراوح مكانه، فضاعت الملايير والسنين بين طيات خطب سوق عكاظ. لكن، حينما تحدث أي أزمة دولية، كما وقع سنة 2008، ثم ترتفع أسعار السلع الزراعية والغذائية، خاصة وأن البلدان العربية تستورد على الأقل ما يقارب 50 % مما تستهلكه من الحبوب، رقم من المتوقع أن يلامس 64% ،وما ينتج عن وضع كهذا من زيادة معدلات الفقر وسوء التغذية واضطرابات اجتماعية. فإن، المستجد المؤجل قد يحيي مؤقتا نقاشات الأمن الغذائي، الذي يشعل جمرته اليوم ارتفاع نسبة السكان وتغيرات المناخ السريعة ونقص الأراضي الصالحة للزراعة وتضاؤل الفرشة المائية والإعتماد الكبير على الواردات والتصحر ثم غياب زراعة مبنينة تعقلن القطاع الفلاحي. إذا كان الفلاح الأمريكي، يخطط لمدى قد يصل إلى خمسين سنة،نجد في المقابل تغني الحكومات العربية بقدرية كافكاوية، وهي تراهن كل سنة أن تتلبد السماء بالغيوم، مستندة إلى لغة الإرجاء والتسويف، في غياب مشروع مجتمعي جذري ينهض حقا بالإنسان والأرض.أما الاستثمار، في هذا المجال فيركز أساسا على المنتوجات التسويقية، كبعض الفواكه والخضر والزيتون، وإهمال شبه تام للإنتاج الحيواني والحبوبي أساسا الأمن الغذائي. هنا أيضا، ولأسباب انتفاء الدولة الوطنية وتداخل الخاص بالعام، تتجه العناية إلى مزيد من الإهتمام بالفلاح الكبير - دون الفقير- المشرف على هذه الفلاحة الموجهة للتصدير، باعتباره واجهة للعائلات الحاكمة، التي تعتبر في طليعة المستفيدين من دخل وإيرادات هذه الفلاحة، التي تتطلب إمكانيات مالية ومادية ضخمة من سدود مائية وآلات متطورة ثم استحواذ بكل الطرق على أخصب الأراضي وأجودها. في المقابل، يتم الإلتجاء إلى استيراد جل المنتوجات الغذائية من حبوب الشعير والقمح والذرة والأرز وفول الصوديا... ، مما يبقي هذه البلدان سجينة لمصالح الدول المزودة اللوجيستيكية، و تقلبات الأسواق العالمية والاحتكار، بل احتمالية حدوث كوارث بيئية لدى البلدان المصدرة ، فالقمح الأوكراني أو الكندي ولا سيما الأمريكي ، ليس دائما على طبق من ذهب. أيضا، وفيما يتعلق بالإنتاج الحيواني، فقد تابعنا خلال العقد الأخير،الوتيرة السريعة لانتشار أمراض جنون البقر وأنفلونزا الخنازير والدجاج، بالموازاة مع التطورالهائل للأبحاث المختبرية والتي بقدر مااستطاعت التحكم في خريطة الجينات الوراثية، بغية التصرف في النوع والكيف وتضخيم معدلات الإنتاج ودرجات تسمين الكتلة اللحمية، سقطت أيضا في ارتدادات علمية رهيبة جدا. يعتبر، النمو السكاني في الوطن العربي من النسب العالية عالميا، بحيث تؤكد آخر الإحصائيات أن العدد يفوق 318 مليون نسمة. إذن، الأفواه في ازدياد مطرد، يقابله في الجهة الثانية شح الموارد واتساع قاعدة الفقر، وكأن التحليل القاتم للمفكر الإقتصادي «توماس مالتوس»(1766-1834) يطفو إلى السطح من جديد، مؤكدا على حتمية تناقص المواد الغذائية، مقارنة مع زيادة السكان. وللتذكير، فقد أثبت مالتوس أن سبب الفقر والمجاعات في العالم، سببه البشر أنفسهم الذين ينمو عددهم بسرعة كبيرة، في ظل موارد إقتصادية محدودة. ينساب الخط السكاني في العالم، بموجب متوالية هندسية، تقوم على مضاعفة الرقم الأخير من السلسلة الحسابية(4...،8،16،2،1) ، فيما يتزايد معدل إنتاج الغذاء حسب متوالية عددية، تضاعف فقط الرقم الأول في المتوالية(1،2،3،4،5،6 ...).مما سيبقي الوطن العربي، في دوامة العجز الغذائي، تزداد حدته كل سنة، لأن حجم المواد الغذائية لايكفي لتلبية حاجياته الإستهلاكية. بالتالي، اللجوء إلى الإستيراد بهدف تغطية العجز.النتيجة، استنزاف دائم لرصيد العملة الصعبة والبقاء في شرك المديونية والتبعية. هكذا، فالإنتاج المحلي عاجز عن تلبية المتطلبات المتفاقمة، مما يوسع الفجوة الغذائية في العديد من الدول العربية ، وصلت أحيانا حد المجاعة، كما نتذكر وياللمفارقة العجيبة !! في بلد بحجم السودان، مع مطلع التسعينات بل وخلال أيامنا هاته. السودان بمساحاته الضخمة والمياه التي يحويها، جوفا وسطحا ، وتربته الخصبة التي تصل إلى 30مليون فدان صالحة للزراعة لايستغل منها سوى 16% وغنى موارده الطبيعية والبشرية، اعتبر دائما مزرعة تحقق للعرب أمنهم الغذائي، أو كما ظلت الأدبيات القومية ترفع شعار «السودان سلة الغذاء العربي»، ومزرعة للعرب.لكن ماذا تبقى حاليا من السودان؟الذي يعيش ويلات حرب أهلية ترعاها إسرائيل وأمريكا، مزقته إربا بتكلفة مادية على حساب تنميته، تقدر بحوالي مليون دولار يوميا. إن الجوع وسوء التغذية، يكتسحان اليوم معظم البلدان العربية، مما يضع مفهوم التنمية البشرية على المحك, لأن البيانات والتقارير الرسمية،لاتعكس لامن قريب أو بعيد الواقع البئيس لقطاعات واسعة جدا من الشعوب العربية. فالميدان الفلاحي كباقي لبنات الدولة الحديثة، يرتبط لا محالة بالبناء الإجتماعي المتين الذي تتكامل روافده مثل البنيان المرصوص، لا يمكن أن تفصل داخله التعليم عن الصحة و لا الرياضة عن الثقافة،أو البحث العلمي عن المنظومة الفنية،إلخ. هكذا اشتغلت وتشتغل المنظومات السياسة لدى الأمم المتحضرة. أما نحن، فلا زلنا نقبع بين عوالم هلامية للأهواء والصدفة والمناسباتية، وتذويبها جميعا بين طيات تضخم لغوي هائل يبني قصورا من رماد، ما إن تتداعى أول نسمة ريح حتى ينكشف بجلاء هذا الفراغ المقفر. تشير بيانات «المنظمة العربية للتنمية الزراعية»، أن إجمالي قيمة الواردات ، فيما يخص سلع المواد الغذائية الرئيسية ارتفعت من 14,13 ملياردولار سنة2000، إلى 94,24 مليار دولار عام 2005 ثم 32,70مليار دولارعام 2007 شكلت نسبة واردات الحبوب 41% من القيمة الكلية للسلع الغذائية المستوردة.كما يشتري الوطن العربي، ثلث احتياجاته بخصوص مادة كالسكر وأكثر من نصف احتياطاته من الزيتون. لذلك تعرف الفجوة الغذائية، خطا تصاعديا من 12 مليار دولار عام 1997 إلى 19 مليار دولارعام 2007 ثم 25 مليار دولار سنة 2009. إجمالا، ينتج الوطن العربي أقل من 70%من احتياجاته الغذائية . أما مستويات انعدام الأمن الغذائي، فالمؤشر يقف عند حدود5% في مصر-تنبغي الإشارة إلى أن هذه الأخيرة من أكثر البلدان في العالم استيرادا للقمح بنحو 6 ملايين طن سنويا، وكانت حتى عقود قليلة تصدر القمح إلى أوروبا، وهي من أقدم البلدان الزراعية في العالم- ثم سوريا ولبنان وليبيا ودول الخليج. أما الأردن والجزائر والمغرب، فيبلغ انعدام الأمن الغذائي لديهم 9% ،نسبة سترتفع إلى %34 في العراق والسودان واليمن وموريتانيا وجزر القمر. اذن، تختزل مشكلة الأمن الغذائي في محورين أساسيين : من جهة، انخفاض الإنتاج الزراعي . ثم، من ناحية أخرى ارتفاع سعر المواد الغذائية. ولأن واردات الحبوب تشكل نصيب الأسد، بحيث تقارب 50 مليون طن سنويا، فإن ارتفاع سعرها في السوق الدولية، يؤدي آليا إلى غلاء أسعار الخبز واللحوم والألبان مما يضاعف عجز الميزان التجاري، واستفحال نسبة التضخم بكل ماينطوي عليه من انعكاسات اجتماعية سيئة جدا. فمثلا، حينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية عام 2010، ازدادت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في شتى أنحاء العالم إلى 68 مليون نسمة ، وهي الفئة التي تنفق ما يقارب65% من دخلها على الغذاء. بالطبع، عندما توجه جل النفقات إلى الغذاء فماذا سيتبقى للأشياء الأخرى؟. قد يقول قائل، إن خطر المجاعة ربما يتهدد بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، التي لا يسمح لها دخلها القومي كي تستمر في شراء ثلث كميات القمح المتدوالة عالميا، التي من المتوقع ارتفاعها إلى 40 % .بينما الإمارات الخليجية فلا خوف عليها ، نظرا لأن عائداتها النفطية الوافرة تضمن لها بيسر الإعتماد على الغذاء الخارجي. أعتقد، ليس هناك من حاجة للتذكير، أن قوة الأمم مصدره الأساس قدرتها على أن توفر غذاء أبنائها بنفسها، لذا فالنموذج الاستهلاكي الهش، حيث الاعتماد بالمطلق على الخبرات الأجنبية من تنظيف البيوت إلى الحماية الأمنية والعسكرية، هو نموذج سيفرغ كليا الإنسان العربي من زخمه الوجودي، لذلك لا تتوقف النخب الذكية في تلك البلدان و أصواتها المميزة، أن تلفت الانتباه حيال خطورة هذا التحلل، وضرورة استلهام وتبني مسارات القوى الاقتصادية الصاعدة كالبرازيل والهند وكوريا الجنوبية وتركيا والصين.... إذن، ينبغي على القيادات العربية الجديدة، القطع مع الهرطقات والغوغائيات السابقة ، وتسعى جاهدة لبلورة برنامج متكامل يتوخى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وخلق سوق عربية مشتركة على غرار المجموعة الأوروبية، في أفق مواجهة العجز الغذائي الذي تعيشه الشعوب العربية ،لاسيما وأن غناها الطبيعي وممكناتها المالية ،يخلقان لها كل روافد القوة الإنتاجية الخلاقة. بهذا الخصوص،تبرز خطوات ملحة لامحيد عنها، مثل : 1- مضاعفة الاستثمارات في القطاع الفلاحي.2- عقلنة الزراعة ومكننتها، بتحديث وسائل الإنتاج وتثوير علاقات الإنتاج.3- زيادة المساحة المزروعة والإستغلال الجيد لها، لمواجهة التوسع العمراني.4-التوظيف الجيد والفعال للثروة المائية،فالحروب المقبلة ستكون حروب مياه كما يعتقد أغلب المستقبليين،لذا أضحى الماء أهم رصيد بعد الطاقة البشرية المؤهلة .5-التركيز على تنمية البوادي، وجعلها مناطق خضراء خاصة وأن 76% من فقراء العرب يعيشون في الأرياف.... خلاصة القول ، تتجلى أمام العرب جبهتان صميميتان للصراع، فإضافة إلى النضال الديمقراطي، من أجل إعادة بناء المنظومة العربية وفق شفرات سيرورة التاريخ. تطرح أيضا بحدة ، مجابهة ثانية لازالت ربما تبدو حتى الآن بعيدة كل البعد عن اهتماماتنا، أقصد النضال البيئي لحماية ماتبقى صالحا في كوكب الأرض، أمام التدفق الهائل لغاز ثاني أكسيد الكربون الذي يقتل بلا هوادة المجال الحيوي على وجه البسيطة، مما يعني جفافا وتصحرا واجتثاثا لمنبع بقاء البشر. هامش 1 - جيمس لفلوك : وجه غايا المتلاشي.تحذير أخير. ترجمة سعد الدين خرفان. سلسلة عالم المعرفة.العدد318.مايو2012. 2 - نفسه.ص.107.