ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عِلْمانيون، نعم مُلْحدون، لا . ياسِي أحمد أعزك اللّه
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 14 - 08 - 2012

«.. وأمّا قضية "»عالم«"، فذلك قدرٌ ساقني اللّه تعالى في طريقه. والحقيقة أن المسارات والمعالم الكبرى في حياتي جاءتع كلّها بدون اختيار منّي، وأحياناً على عكس اختياري ورغبتي ومحاولتي. فمثلاً: بعد حصولي على البكالوريا ذهبتُ لدراسة القانون في كلية الحقوق ثم المدرسة الادارية، ولكنّي لم أتمكن من إتمام، وانتقلتُ لدراسة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الرنسانية بالرباط، فأمضيتُ فيها سنة زخرى ولم أتمكن من الإكمال ثم ذهبت مضطراً إلى كلية الشريعة، فكانت بداية الطريق..« (الفقيه أحمد الريسوني، ومن غيره؟).
هكذا تحدث أحدهم »منّا« وليس زرادشْت لنتعامل مع هذا المقتطف باعتباره ملفوظاً مفتوحاً على المطلق فنحصرُهُ في إطار مرجعيته كما هو، نيّئاً وقابلاً للتوظيف المؤشر عليه بموجّهاته اللغوية واللفظية ثم التداولية. الأمرُ ليس كذلك: إنّ الأمر يتعلّق بمتكلم منتج للخطاب وهذا الخطاب عام وخاص حسب معايير كل نظريات تحليل الخطابات والملفوظات والأقوال وما شابه مادامت هذه النظريات، من داخل فروع اللسانيات، تهتم بهذا المظهر أو ذاك حسب قضايا التوصيف والتفسير والتأويل الأفقي والعمودي، الظاهر فيه والباطن، مما يجعل المفوظ المنصوص عليه أعلاه نموذجاً من نماذج أمثلة لغة/ لغات الذوات في خضمّ ترسانة ما يقال أو يكتب راهناً في المغرب وفي غيره من بلدان عربية وإسلامية بصدد اللحظة التاريخية التي تجتازها بكل أبعادها وفي مقدمتها اللغة الفكرية المعرفية بعيداً نسبياً عن اللغة السياسية واللغة الاقتصادية مرتبطتين بلغات أخرى: اللغة الاجتماعية، اللغة الإبداعية، لغة الإعلام، اللغة الدينية، اللغة التاريخية، وهي لغات تتشيدُ وِفْقَ حَوَافِز ونوازع تكون في الغالب رهينة بالوسط والمجال والنسق والسياق والاستراتيجية والإقناع والتأثير والتماهي والتّرهين والتحيين شريطة أن يقوم بين المتكلمين (المتلفظين) وبين المستقبلين (المتقبلين) عقد أو ميثاق لضمان وصول الرسالة.
ما نهتدي إليه في المفوظ أعلاه هو أنه، من خلال مؤشراته، يأتي متعدّد المظاهر والمستويات والمؤشرات تتحكم أداة »أنا« المتكلم [ساقني، حياتي، منّي، اختياري، رغبتي، محاولتي، حصولي، ذهبتُ، لكنّي، أتمكن انتقلتُ، أمضيتُ، أتمكن (مرة أخرى)، ذهبت (مرة أخرى). هذا »الأنا«، بالمعنى النموي، هذه »الأنا« بالمعنى الوجودي (جُو وَمْوا) يتناحران ويتشابكان، لكنهما يتكاملان لأنهما يترجمان نزعة سنخية هي رغبة المتكلم في جذب الاهتمام وإبراز المقام لأجْل الهيمنة والتميز والتمركز الذاتي، ولا عيب في ذلك، فهناك عدة لغات تسعى إلى هذا، لغة الشعر مثلاً، الشعر الغنائي عامة من خلال وجدانياته، منذ امرىء القيس وسواه إلي الآن، وهو شعر يستوي فيه شعر الفخر كما الرثاء والغزل، دون إهمال الشعر الصّوفي، وكذلك النثر، ونادراً ما يهيمن هذا النزوع تلفظياً في جنس أدبي على وجه المطلق، الرواية مثلاً، بينما يغيب عن لغة الاقتصاد ولغة السياسة أو لغة التاريخ، علماً بأن هذه الأخيرة يمكن أن تستعمل »أنا« تركيباً وأسلوبياً في حالات استثنائية عندما يتعلق الأمر بالتجربة، وهنا يتقدم التحليل، ويتأشكل في نفس الوقت، لأن ما يقال ويكتبُ، من طرف فلاسفة أو مؤرخين أو زعماء أو سياسيين، تتداخل فيه مستويات تلفظ من خلال جُنيسات محددة: اعترافات، تراجم، تراجم شخصية، سير، يوميات، مذكرات، رحلات، كتب فلسفية، كتب دينية وهكذا..
هكذا، لا نعرف أين نضعُ الملفوظ النموذج المذكور منذ البداية إلا بمجاراة صاحبه والعمل على حَصْرهِ تقديرياً، كما في أي تحليل، داخل خانة »خطاب السيرة« (أو »الخطاب السيري«) باعتبار الذات المتلفظة التي تحكي »تجربة«، يدوّنها حسن السّرات في »أخبار اليوم« تباعاً، ثم إنه ملفوظ يحاذي ويحذو خطاب »الاعترافات«، وهذا ضربٌ من ضروب »أدب ذاتي« من خلال جنيسات متنوعة ومتفرقة في سجلات الكتابة الأدبية كما تقدمها نماذج معروفة ومتداولة علماً بأن هذا الأدب السّيري لا يقبل عليه، في الغالب، إلا من يحسّ أنّ له »قيمة« أو »منزلة« ويريد أن »يقدم الدليل على تميزه« وعن »بلواه« فكرياً وثقافياً أو سياسياً ونضالياً، من القديس أو غوستان إلى عبد الله العروي بشكل ما.
هنا مربط الفرس والتدليل قبل الدلالة انطلاقاً من مؤشرات حقل دلالي آخر: صفة عالم، قدر، طريق، معالم، حياة، اختيار، رغبة، محاولة، وكلها تتأرجح بين »صوت« سيّد قطب، خاصة »معالم«، »طريق«، و »صوت« غريماس (اختيار، رغبة، محاولة)، اتباطاً بعوامل مساعدة كالنجاح في البكالوريا وعوامل معاكسة كالفشل في القانون والفلسفة: هل يكفي اللجوء الى »الشريعة« لضمان »التملك« و»الغاية« بعد المرور ب »الرغبة« و »القدرة«؟ هل هذه الشريعة هي »المعرفة«؟ يجيب عن هذا مقطع »ذهبت مضطراً« بكل ما يحمله من فجوات تعني التنازل عن سلطة الرغبة والإرادة والقوة والفوز والتملك والحيازة. ثم إن الأمر يتعلق ب »طريق« ويتعلق في نفس الآن ب »مسارات« و »معالم كبرى«، وكلها متفاوتة الرمزية: الطريق آمنة وقد تكون غير آمنة، تحمي وتهلك، تغني وتفقر. المهم، هناك تردّد وانتفاء صفة التحدّي عن الذات العاملة والفاعلة إلى حدّ القبول بأي حلّ لتوفير الأمن والأمان والانتفاع معنوياً ثم مادياً بالأساس، أي الكسْب الذي قاد إليه »الاضطرار« (!؟).
إننا، في هذه الحالة، أمام اختيار واع يترجم مقصدية هذه الذات متعلقة بما تُعلنه لكنها تخفيه في الحقيقة: الإعلانُ بحثٌ تبرير لفشل مضمر في اختيار القانون أو الفلسفة اللّذين يتطلبان العقل بينما اختيار الشريعة استسهال. هلْ اختيار الشريعة "»ضعف«" تراجع؟ اعتراف بالعجز؟ غاية في نفس يعقوب؟ إنطواء؟ انتكاسة؟ أزمة ثقافية ومعرفية قبل أن تكون »"علمية" والعكس؟ أزمة شخصية بعدما كانت الذات مرة في التعلم والتحصيل في دكان العم قبل الاهتداء إلى سيد قطب؟
الأسئلة لا تعد ولا تحصى بحكم ما يوحي به منطوق القول وتتشبث به الذات بغض النظر عن القصدية، ونستطيع، بكل صدق وأمانة، أن نربط كل ما تقدم بما يمكن أن يتحكم في وجهة هذه الذات وهي تشق طريقها نحو استقرار الحال والطمأنينة والخلاص والنجاة من حبائل العلم والكثير من العقلانية التي تفرضهما الفلسفة وتفوضهما الفلسفة وتفرضهما دراسة القانون، الأولى، حسب منطوق القول دائما، تفتح الأبواب للولوج إلى الميتافزيقا، بينما دراسة القانون لا يمكن أن تحيد عن تجليات أمور الدنيا كالمجتمع والسلطة والمال والسياسة حسب الفروع والأصول والتخصصات وتاريخ الأفكار وطبيعة المؤسسات والأنظمة.
يتعلق الأمر بتلافي المتاهة، في العلم ربما، والسير في طريقه، ومن ذلك نهتدي إلى المعادلة الرئيسة: »العلم - القدر، وهذا أمر لا صحة فيه إلا في حدود. قلت »لا صحة فيه» ولم أقل »لا صحة له«. هناك فرق كبير بين »فيه« و»له«، وشتان بين »الحصر« و»المطلق«، ومن يربط بين »العلم« والله كمن يقول لك: ابتعد عن طريقي، فأنا مجبر ولست مخيرا، كما يقول لك، أنا في واد وأنت في واد، أو يقول لك: أنا في الأعلى وأنت في الحضيض" »كالليل الذي هو مدركي"«، ومن خلال ذلك تتأكد »أدلوجة التفضيل، تفضيل علم/علوم محددة على علم/علوم لا تفي بالغرض ل "»غاية في نفس يعقوب"« دائما، الأولى فيها ضمانة وأمن واستقرار وفي غنى عن العلم، بل »مؤمنة، بينما الثانية تهلكة لصاحبها والقائل بها والمغامر فيها ولا تضمن لصاحبها التميز والبروز والرفعة والمجد والحصانة ثم الربح بشتى مراتبه بما في ذلك الربح المادي، أي الكسب والتكسب معا.
ألهذا وغيره يرفض الأستاذ، العالم، الباحث والفقيه الذي يختار "»الشريعة«" عوض القانون والفلسفة، يرفض "»العلمانية" هذا إمكان من إمكانات المقاربة وتأويل القول والملفوظ معا، أما الإمكانات الأخرى فنتركها لسياق حوار لازم بصدد العلمانية: هناك علمانية وعلمانية، بل هناك »"علمانيات"«، ولا ضرورة في الربط بين »"علمانية" مسكونة بوهج تاريخ عقلاني معرفي بصدد الدين والمجتمع وحرية الفرد وحقوقه، كما في أوربا، أو كما حدث في أوربا إبان عصر النهضة والتنوير ومواجهة الكنيسة ورجال الدين من الكهنوت وربابنة الرهبانية، »و"علمانية«" محجوزة في قمقم التصور الديني الضيق الجاف الذي يتصورها »"إلحادا«" أو ترتبط رأسا بالخروج عن الدين أو الردة أو المروق.
هذه مفاهيم جاهزة ولها سياقاتها التاريخية المعلومة إذ تتضمن بالاضافة الى ما تعنيه من اتخاذ قرار فردي و/أو جماعي من مخالفة أو خرق أو دس وتزييف، ما يمكن أن يوصف »"هرطقة"«: الردة مثلا كفر، بينما التفكير في الدين ليس كفرا، وهنا تتحدد بعض سمات وإبدالات العلمانية وهي تشترط معرفيا الفصل بين تفكير وتفكير، في الدين لا باعتباره دينا كما هو بل باعتباره رؤية للعالم, إذ هناك الدين بمعناه القدسي الخالص وهناك الدين الذي تتخذه أطراف ومؤسسات وسيلة للتبرير والتواكل والسيطرة والغنم (بضم الغين)، إلى جانب أنه يتحول، من خلال ممارسات وتمثلات وإسقاطات مغرقة في الغيبيات، الى مجرد الكسب والدجل على مستوى العامة، أما على مستوى الخاصة فإن الممارسات والاسقاطات تقوده الى الودغمائية والتمامية والأصولية والتطرف وغير ذلك من الأدلوجات المختلفة شكلا و المتشابهة مضمونا، وأمثلة ذلك كثير ينطق بها تاريخ عدة أديان على مر العصور على أن ما يجمع، بهذه الصيغة وتلك، بين طبيعة هذه الممارسات والتمثلات والاسقاطات هو تحريف النص الأعلى لتبرير الأدلوجة من طرف الجماعات والطوائف والحركات والشيع. ولعل هذا كله هو ما يغيب عن أذهان من يتهمون العلمانيين بالإلحاد. العلمانيون ليسوا ضد الدين، بل ضد التحريف والتزييف.
هل فكر - يفكر »علماء الدين» بما يلزم من النضج والمسؤولية، عقديا بالأساس ثم معرفيا في الممارسات والتمثلات والإسقاطات وأدلجة الدين؟
هل فصلوا الحديث حول وقف العلمانية الذي يطالب بتخليص الدين الخالص من شوائب ما يتأسس بموازاة الدين من هرطقات وتخريف؟
هل "»راجعوا«" و"»نقدوا«" الحركات الدينية والطوائف العقدية التي تتخذ الدين قناعا أو تتجه به إلى البدعة والوثنية؟
هل واجهوا -يواجهون الدوغمائية والتمامية والأصولية والتطرف والتدجيل والتحريف؟ هذه قضايا وإشكالات لا يجرؤ عليها علماء الدين ولا يقدمون بصددها قراءات أو مقاربات، فيكتفون بالوعظ والإرشاد والطهرانية بهدف التملص من الحرج والإحراج. العلمانيون، عكس علماء الدين المحنطين، يسعون، ضمن ما يسعون إليه، إلى كشف الغطاء عن "»المطبخ الديني«" البدائي لإبراز حقيقة الدين بعيدا عن الهرطقة والدجل والتحريف. إنهم، العلمانيون، يريدون إنزال الدين من السماء إلى الأرض، يريدون دينا في حلته المجتمعية الإنسانية النبيلة الي جاء من أجلها الأنبياء والرسل وعلماء الدين الأتقياء الذين يوازنون بين السماء والأرض، بين الإيمان والعمل والعلم والحرية والحياة والعدل والخير والنماء والسلم وغير ذلك من القيم السامية.
العلماينون يريدون أيضا تخليص الدين اجتماعيا وثقافيا من موبقات اتخاذ الدين مطية لمصادرة حق التفكير الديني وجعله عملة دائمة في يد رجال دين وكدهم فيه غيرما هو مطلوب بإلحاح في قياس المسافات بين دين سطر للناس ودين لا يستقر فهمه وتأويله، باعتماد النص الأعلى، على يد علماء دين هم أصلا لا جامع بينهم في تصوره بحكمة وعقلانية كافيتين بحسب الأنساق المعرفية والسياقات الفكرية، وما يهم العلمانيين،
مثلا، هو مشروع النهضة الدينية والنهوض بالمجتمع روحياً، نعم، لكن أيضاً سلوكياً وحقوقياً بالمعنى الإيجابي الوظيفي للحقوق الإنسانية المشتركة بين الأفراد والجماعات والطبقات لا الحقوق المعزولة الخاصة بفئة دون أخرى ممن ضاعت كينونتهم وتفرقت بهم السّبل نتيجة الفقر والجهل أو الاستلاب والحداثات المختزلة، الرخيصة المسروقة.
أين الإلحاد في سعي العلمانيين المتنورين في الدعوة إلى مشروع مفتوح على الإصلاح ومواجهة استغلال الدين للسيطرة والمراقبة والتكفير والإفتاء المتوحّش الهمجي البدائي البهيمي ضد المرأة والجنس المعقلن، لا الإباحي المنحل، ثم ضد الإعلام البنّاء الذي يكشف عن عودة الجهلة ممن تتحول فتاويهم إلى ما هو أكبر من التهريج وزرع الالتباس لدى المؤمنات والمؤمنين لمزيد من العزلة والإقبار والحرمان والحصار، وكذلك ضد الإبداع والكتابة والسّفر والسباحة والرياضة والحب وكل ما من شأنه أن يضمن الاعتدال والوسطية كما عهدناها لدى أجداد أجدادنا وآبائنا ونسعى إلى زرعها لدى وفي فلذات أكبادنا بعيداً عن كل تحجّر أو تفسخ أو طيش أو زلل أو تناقض ومفارقة؟
العلمانيون ليسوا ضد التدين ولا ضد الإيمان ولا ضد قدسية النص الأعلى: إنهم ضد الهرطقة وضد العسْف والتعسّف وتحويل الناس إلى مجرد قطعان أو مخلوقات تائهة، شاردة، في غابة، في أرض يباب (نومانْس لانْد)، ولذلك »يتدخل« رجال الدين في كل كبيرة وصغيرة ويتناسون، عن قصد، أن الدين خلق ووُجد لإنقاذ الناس من التوحّش أولا وأخيراً، أما أن يتحول هذا الدين أوذاك، كما يريد »"علماء دين"«، بعضهم على الأقل، إلى مجرد طغمة بريتورية في يدها الحلّ والعقد الى حد نفي المكتسبات النوعية للعقل والمعرفة والعلم والحضارة والعمران والفن والإبداع والتطور، فذلك مما يسهّل مأمورية هؤلاء العلماء ويمنحهم الضوء الأخضر لإشاعة الفوضى والاضطراب والتمزق والاحتباس. ووحده العقل هو نبراسُ المعرفة بالدين وغير الدين في بحبوحة من العيش الكريم والسلامة والعتق من النّار والطغيان والفساد، ومنه الفساد العقلي قبل الفساد الاداري والفساد السياسي والفساد الاقتصادي قبل أي فساد آخر ينظر إليه بعض علماء الدين أخلاقياً فحسب، وشتان بين هؤلاء وبين العلمانيين، لأن العلمانيين يحاربون كل أشكال الفساد متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا على قدر ما يملكون من وسائل وأدوات وإمكانات، أما الفساد الديني فهو غير فساد الدين: أليس أصحاب الفتاوى من الذين يزيدون الطين بلّة؟
إن طرح كل هذا والتفكير فيه بما يلزم من العمق والدقة والوضوح والأشكلة ورحابة العقل، لا الصدر وحده، هو الطريق الأمثل للاهتداء إلى كنه ما يصدر عنه العلمانيون في سعيهم الجاد إلى »مدينة فاشلة« تشيدها الأفكار لا الهواجس والاستيهامات والهرطقة والتخريف والتزييف والدّجل والمغالطات يتحكم فيها »"قدرٌ«" يتحكّم فيها »"القدر"«، قدرٌ يسوق إلى »"عِلْم"« قدرٌ يصنع »"عالماً«" (!؟): هل القدر يصنع علماء؟ أيُّ علم؟ أيَّ علم؟ علم الدنيا أم علم الآخرة؟ هل يتحدث السّي أحمد عن القدر أم عن الصّدفة؟ هل القدر، كما نفهم من مستويات الملفوظ، هو »المكتوب«؟
هذه متاهة من متاهات الخطاب: إننا لا نتحدث عن »القدر« بالمعنى الفلسفي أو الدّيني، فهذا أمرٌ لن نفيه حقّه مهما حاولنا الخوض فيه عقلياً نظراً لتشعبه واختلاط الوعي به في حدود ما يطرحه من إشكالات وقضايا معرفية وفكرية، بل نتحدث عن »قدر« السِّي أحمد الخاص من خلال ما يصدر عنه في ما يشبه خطاب السيرة عامة والسيرة الذاتية بالذات متى اعتبرنا ما يقوله خطاباً سيرياً تؤطره مؤشرات القول والتلفظ، وحينئذ يتحول هذا الخطاب الى فعل تخييلي مدارهُ التخيل والإيهام والاحتمال وما تتحكم فيه قوانين إنتاج الخطاب، لغوياً، تعبيرياً، أسلوبياً، تداوليا: هل نقول مع بعضهم "»قدري أنا«" أم "»قدرٌ أحمد الخطى«" ونكتفي؟ هذا احتمال قاتل لهوية السّي أحمد باعتباره »عالماً« كما يرى نفسه.
إن ملفوظ السّي أحمد المشار إليه منذ البداية لا يتحرك منعزلاً، بل يندرج ضمن متوالية من الملفوظات الأخرى التي تعقبه وتتراكم على امتداد حلقات »اعترافاته« في جريدة »أخبار اليوم« ومن ذلك مثلا ما يلي: ».. وعلى هذا الأساس كنتُ أعلن من بعيد تأييدي لحركة 20 فبراير بالمغرب دون أن أسأل عن الفصائل والتفاصيل، وعمّا يمكن أن يكون من عيوب وأخطاء.
فتأييدي موجه لحركة التاريخ ويقظة الشعوب وحركية الشعوب، »والحركات الاحتجاجية في العالم العربي إفراز طبيعي وتحرك شبابي وشعبي عَفْوي وتطور عظيم لم تشهد أمتنا له مثيلاً منذ الحركات الاستقلالية التحريرية«، »لقد تمنيتُ لو كنتُ حاضراً واطلعتُ بشكل مباشر على مجريات الأمور وحصل لي الاطمئنان إلى سلمية المسيرات، كما تمت بالفعل، لكنت حتماً شاركت فيها« (ن. ج، عدد 824، الأحد 2012.8.5/4، ص 13).
إنها ثلاث ملفوظات تربك الملفوظ المذكور، باعتباره نواة لهذه المقاربة، تربكه وتوجهه وجهة أخرى غير »القدر«، توجّههُ، أولا، صوب »التاريخ«، ثم توجّهه، ثانياً، صوب »المجتمع« وصوب »السياسة«. معنى هذا أن القدر الذي سيّر ووجّه حياة السي أحمد يتلاشى لصالح صيرورة أخرى إما أنه لا يدركها، لا يريد أن يدركها، لا يستطيع أن يدركها لأنه »قدري« لوحده أو أن القدر خاص به، أو أن التاريخ والمجتمع ثم الواقع، السياسة مجتمعة في هذه المكونات، تتجاوزه: هل ما حدث في العالم العربي حدث صُدفة أم أنه مترتب عن »"عوامل"«؟
في كل الأحوال والحالات ما حدث لم يكن »قدراً« بل ناتجاً عن »تطور« عظيم، »لم تشهد أمتنا له مثيلاً منذ الحركات الاستقلالية التحريرية«، وها هو التاريخ يتسلل إلى الملفوظ ويؤزّم قناعة القدر، بل يتسلل مفهوم »التطور« ومفهوم »الإفراز«، وهما مفهومان لا علاقة لهما بالنزعة القدرية بالمعنى المعرفي: المفهوم الأول مقولة مصدر التصوّر العقلاني التجريبي الرياضي المقارن ويتضمن ما يتضمن من مقولات سنخية كالتحول والتغيير والتبدل،.
والمفهوم الثاني قريب من السوسيولوجيا النظرية والمجالية، والمفهومان معا، بنوع من التبسيط والتوضيح، قريبان من مفهوم »الدينامية« لدى الكثير من الباحثين والمفكرين والمنظرين في عدة حقول نظرية تستقي فرضياتها من الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الطبيعة و علوم الحياة وعلوم الانسان عقليا وعلمانيا، هذا يرفضه السي احمد ليحكم على العلمانيين بالالحاد، لالشيء الا لأنهم " علمانيون"، وهذا يعني ضمنيا ان السي أحمد حر في مساره و اختياراته وتغريبته: تارة يكون قدريا، وتارة يختار وجهة يختزل فيها ما حدث في العالم العربي، من خلال حركة عشرين فبراير، ليسميها ويسمي ما حدث افرازا طبيعيا بنوع من العلمانية المحكومة بالملاحظة فقط وليس بالتحليل الدقيق الى حد السقوط في الفطرية العلمية، خاصة عندما يربط "الافراز" ب"العفوية" هل التاريخ تصنعه النزعة القدرية؟ هل تتحكم فيه العفوية؟
يزداد الامر اشكالا عندما يحيل السي احمد، العالم والفقيه والباحث، على الحركات الاستقلالية "التحررية" أو "التحريرية" ، لا يهم وان كان الامر مختلفا، التحرر شيء والتحرير شأن، وليس هذا ما يهم الان لان الفصل في الفرق والتمييز بينهما يحتاج الباحثين فيه الى العلمانية، بالفعل، ولن نكلف السي احمد ماليس في وسعه بحكم انه قدري في النهاية ولن يحيد عن ذلك الا عندما يوهم الناس انه مدرك لما يجري حولنا، ويفعل ذلك باختزال واضح، يكفي ان نذكر فيه بإشكال وأشكال العلاقة بين الحركات الاحتجاجية في العالم العربي، والحركات الاستقلالية، التحريرية، اذ لا يكفي ان نعرض لذلك، بل يستدعي الامر استقصاء وحفريات ومقارنة يقارب عقدين ونصف من الزمن ان لم يكن اكثر حتى قبل حملة نابليون على مصر.
وما نعلمه هو ان السي احمد ليس مؤرخا وغير ملم بتاريخ الافكار ولا متسلحا، مثلا، بسوسيولوجية المجتمعات والحركات بقدر ما لا يمكن حشره في خانة علم السياسة هو الذي اختار واختار "القدر" بالتحديد.
ما معنى ان يتحدث المرء من حركة عشرين فبراير، ويفعل ذلك من بعيد كما يقول كنت اعلن من بعيد تأييدي لحركة 20 فبراير، ويجعلها بجرة لسان او قلم حركة احتجاجية، هل هي حركة اولا فقط، ما المقصود بتصنيفها احتجاجية وكفى؟ ثم لماذا التأييد من بعيد خاصة عندما يقترن لدى عالمنا ب"حركة التاريخ ويقظة الشعوب"؟
حركة احتجاجية، تأييد، حركة التاريخ، يقظة الشعوب: هذه كلمات وعبارت تتحرك داخل حقل دلالي متشعب ولا تجتمع الا لدى من يمتلك حسا فكريا توجهه منطلقات معرفية لا تتوفر صدفة نتيجة نزعة قدرية او مثالية، وخير دليل على تجنب السقوط في دائرة الاختزال ما تمثله كتابات عبد الله العروي او هشام جعيط مثلا، وما مثلته في السابق كتابات امثال الماوردي وابن مسكويه و ابن خلدون، وغيرهم ممن يقفز عليهم السي احمد ويكتفي بالشاطبي والمودودي وسيد قطب قبل ان يكتفي بنفسه تلبية لقدره ويطلب منا ان نسايره مرغمين ونسير على هديه وخطاه ونحذو حذوه الا كنا ملحدين. يا سلام/ ياله من قدوة لنا! كونوا مثلي الا انتم ملحدون الا تكونوا علمانيين، لا تنتقدوا ما افعل. انا "عالم" ساقني الله والقدر وعليكم ان تتبعوني انا مفتاح آلامكم واحلامكم.
هل نحن "ملحدون" يا سيدي، لأننا لا نجاريك في تخريجاتك الموتورة والمفروضة علينا ولا نقبل التسليم برؤيتك القدرية للعالم كما هو الان وقد استحكمت فيه كل اشكال الدوغمائية والتمامية والاصولية والتحريف والتطرف وسطوة علماء دين ودعاة ومفتين يريدون فرض صكوك غفران جديدة؟ ما الذي يمنحك، ياسيدي، حق الاتهام، الا تنطلق عن الهوى على غرار السابلة والرعاع عندما يحل بهم الصرع؟ هل المسألة مقصورة عليك وحدك ومن معك، ما تريده هو اللي يكون وما نتمناه لا قيمة له لاننا علمانيون ومن حقنا ان نواجه رؤيتك للعالم، الرؤية المدمرة والقاتلة لأنها لا تناسبنا, اذ نعرف اسلاما واحدا هو الاسلام الصافي النقي بدون تدخل من امثالك، اليس الاسلام دين فطرة يريد من يتشبه بالانبياء ان يحوله الى "فطيرة" ما موقفك عن المجتمع، من التاريخ، والتمثلات؟ هل تريد ان تحكم؟ اخرج لها "كود" وقل "بغي نولي شي حاجة" من أقبل بن لادن والظواهري وعطا ومفجر أركانة وجزارو الدار البيضاء؟ لماذا لا تتجه الى مقاربة "القاعدة" لتعلم الحدود بين الايمان والالحاد، بين التدين والضلال، وجعل الدين مطية للفتنة والقتل والهمجية واباحة الدماء؟ اتراك تفر وتنجو بنفسك وما لك من دراسة القانون وتعلم الفلسفة لتجعل الشريعة ذريعة او غشاء في الوقت الذي يتبين انها ليست سهلة، بل لها حكمتها قبل احكامها، في التربية والسلوك والممارسة الاجتماعية والنفسية ومحبة الناس والاخر واحترام رموز الدولة مما يلزم من التوقير؟ وانت لست رمزا كما غيره.
هذه اسئلة ملحة، نضيفها الى ما سبق لا لمحاصرتك ولا للنيل منك، ومن قيمتك كما تفعل انت، بل لدعوتك الى الاتزان والخلق وحفظ اللسان وتعميق ما أنت تجعله خارج مدارات الشريعة وحدها. كفانا منك سيدي ديموقليس واسرة بروكست، كلما طاب لك المقام او حلا القول أوقدت النار في كل شيء و كأنك كل شيء. لسنا حطبا، أسي احمد، هداك الله، فنحن بشر نحب الله، نحب نبيه الكريم، نحب الوطن، نحب الخير واليسر، نحب الحرية، نحب الاعتدال، لكننا ايضا نحب العلم والعقل والمعرفة، نحب الحياة لأن على هذه الارض ما يستحق الحياة.
ملحوظة: للحديث اكثر من بقية، وفي هذا المنحى، يمكن ان نتخذ كل ما سعينا الى طرحه مدخلا لعدة قضايا واشكالات بصدد اي تفكير ديني راهنا، في علائقه المختلفة مع النص الاعلى في الثقافة الاسلامية وغير الاسلامية ومدى إمكان ربط ذلك مثلا بالتفكير السوسيولوجي والسياسي والثقافي وهذا ما يهمنا، اما الغنوصيات فمجالها غير وارد الا في حدود تتجاوز حقائق الكون والملكوت الى اللاهوت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.