يقول محمود درويش: حين تبدو السماءُ رماديّةً وأَرى وردة نَتَأَتْ فجأةً من شقوق جدارْ لا أقول : السماء رماديّةٌ بل أطيل التفرُّس في وردةٍ وأَقول لها : يا له من نهارْ ! هل اليسار في أزمة؟، سؤال يقظ مضجع كل غيور على اليسار والفكر اليساري بشكل عام، وليس الإجابة عنه بالأمر الهين، بقدر ما هي مغامرة تأخذك إلى مثالب التاريخ قصد سبر أغوار تجربة راكمت ما راكمت من إيجابيات وعليها ما عليها من سلبيات. لكن ما يزيد الأمر صعوبة وتعقيدا هو حينما نعقد العزم على مواجهة هذا التاريخ، فإننا نتجه صوبه بمناطق رمادية متعددة تفقد الباحث بوصلة التنقيب والاقتراب من الحقيقة نظرا لصعوبة الوصول إلى المعطى التاريخي الدقيق، من خلال وثائق وأرشيف هذه التجربة والتي لا يمكن فهمها وإدراك إمكانياتها خارج العودة إلى هذا الأرشيف وتلك الوثائق، فهي مغيبة إما بفعل القمع الذي عمل على دفن الجثث ومعها الوثائق، وإما هي بيد مناضلين احتكروها لحاجة في نفس يعقوب، فالموجود من وثائق هو لا يعدو أن يكون إلا شهادات لأشخاص عاشوا التجربة ويبرزون فيها فقط ما قدموه لها إما تعليقا أو نقدا في زمن التراجعات والتخلي المبدئي عن الأسس النظرية والفكرية لهذه التجربة. اليسار في أزمة هذه مقولة جوفاء لا تأتي إلا من شخص خارج اليسار، أما المناضل اليساري فهو يدرك أن التجربة هي حركة مستمدة من واقع معيش، محكومة بشروطه وموازن قوى، هذه الحركة إذا ما أخذناها بهذا الشكل العلمي أي أنها محكومة بقانون المد والجزر، تجعلنا نغير طريقتنا في التعامل معها، وبالتالي النظر إلى الأزمة لا كمعطى في ذاتها إنما كقوى فعالة منتجة لفعل التقدم، أو غير فعالة في إطار دينامكية معينة، تمكننا من رصد اتجاهاتها والقوى الكامنة وراءها حتى يتسنى لنا استشراف مستقبل واضح المعالم. من جهة أخرى، فإنه حينما يقال إن اليسار في أزمة، يعني في جملة ما يعني أن أسسه النظرية والفكرية قوضها الواقع وأصبحت متجاوزة، لكن واقع الحال يؤكد عكس ذلك حيث إن الفكر اليساري مازال يحتفظ بمصداقيته وقدرته على تقديم إجابات علمية على هذا الواقع، صحيح أن التراجع الذي رافق الفكر اليساري خلال العقود الأخيرة هو خارج إرادته بحكم الهجوم المنظم والشرس الذي انتهجته الرأسمالية في ضرب كل ما هو فكري وعقلاني، من خلال نشر فلسفتها وتصوراتها مسخرة في ذلك التقدم التكنولوجي في ترسيخ هيمنتها الإيديولوجية، وبالتالي فإن المجال الذي من المفروض استغلاله بات ضيقا، مقابل هذا نجد العنف الممنهج والقمع الدموي الذي تعرضت له التجربة اليسارية، وهو قمع عمر طويلا مرفوقا بهزائم عاشها الوطن العربي على المستوى الوجداني خلفت أثارا سيئة.( هزيمة 1967، احتلال العراق. المآل المأزوم للقضية الفلسطينية...) هذا على المستوى الموضوعي. أما على المستوى الذاتي، فإنني أسجل ذالك التراخي والجمود العقائدي لقوى اليسار على المستوى النظري، هذا العجز في عدم القدرة على تقديم إجابات على المستجدات هو الذي سيلقي بضلاله على مستوى الممارسة، إن لم أقل أنه عصف باليسار في اتجاه الانعزالية والانهزامية أمام واقع هو في حاجة له، حيث لم يستطع مسايرته وإن حاول فإنه يسايره بمقولات السبعينات والثمانينات. حالة شبيهة بتلك التي نقرأها في أسطورة الكهف عند أفلاطون إذ تقول الأسطورة «أن أناسا مقيدين منذ نعومة أظافرهم في كهف مظلم، بحيث تعوقهم تلك القيود من الالتفات إلى الوراء أو الصعود خارج الكهف. في الكهف هناك ما يشبه النافذة التي يطل منها نور ينبعث من شمس مقابلة للكهف. بين النور ونافذة الكهف هناك طريق يمر منه أناس يحملون أشياء عديدة، وحينما تضرب أشعة النور في تلك الأشياء تنعكس ظلالها على الجدار الداخلي للكهف. هكذا لا يرى السجناء داخل الكهف من الأشياء الموجودة خارج الكهف إلا ظلالها. وقد حدث أن تم تخليص أحدهم من قيوده، بحيث تمكن من الصعود خارج الكهف ولو بشق الأنفس. وقد أدرك أن الأشياء خارج الكهف تختلف عن الأشياء بداخله، بحيث تعتبر هذه الأخيرة مجرد ظلال أو نسخ للأولى. هكذا سر بما رآه ثم قرر بعد ذلك العودة إلى الناس داخل الكهف لإخبارهم بحقيقة ما شاهده، وتنبيههم إلى حالة الأخطاء والأوهام التي يعيشونها. لكنهم سوف لن يصدقونه بل سيحاولون قتله». من خلال هذا التشخيص البسيط ولو في خطوطه الأولية، أستطيع أن أجزم القول أن الأسئلة التي تتمخض في رحيم الوطن العربي هي نفس الأسئلة التي قامت عليها تجربة اليسار، وأسهمت فيها بشكل كبير فكرا وتنظيرا، فعلا وممارستا، هذه الأسئلة والمشكلة للمحاور التالية ( سؤال الديمقراطية والتحرر، الحداثة والعقلانية، العدالة الاجتماعية...) هي نفس الأسئلة أو الوضعية المأزومة لواقع المجتمع العربي التي عاشها طيلة عقود من الاستبداد، والتي صارت عناوين كبرى لساحات التغيير وميادين الحرية التي فجرتها الجماهير العربية على شكل انتفاضات شعبية طامحة إلى تغيير هذا الواقع البائس، وإحلال محله واقع يرفل بهذه القيم، لكن الظاهر أن حتى هذه الانتفاضات قد تم سرقتها من أصحابها وتم تغيير فلسفتها الحقيقية وألوان أحلامها. ولعل ما يعتمر الآن في مختبر الوطن العربي وما قد تفضي إليه هذه التجربة والتي لا يستطيع أحد التنبؤ بمسارها على الأقل في اللحظة الراهنة، إن كنا نريد معرفة علمية باردة غير منفعلة بلهيب اللحظة، خصوصا أن إفرازاتها ومآلتها اللحظية تنبؤنا بنوع من التشاؤم، لم يعد مقتصرا على الوطن العربي فقط إنما طال المنظومة العالمية، فنحن الآن بصدد انتهاء القطبية الأحادية وإعادة تشكيل منظومة قد تتعدد أقطابها. هذه الانتفاضات الناطقة بقيم اليسار، قد أفرزت الأصوليات الكارهة والحاقدة على هذه القيم، بل عملت هذه الأصوليات لسنوات طوال على هزم القيم العقلانية ومحاصرة الداعين لها، ستجد فرصتها التاريخية والأمر ليس بالمفاجئ بقدر ما هو نتيجة طبيعية لإفرازات السلطة الاستبدادية، ( فلا ننتظر أن ينتج الاستبداد فكرا عقلانيا متحررا، فالأصولية وجه آخر من أوجه الاستبداد والتخلف الفكري، مهما ادعت هذه القوى من ديمقراطية أو عقلانية فإن الأمر لا يعدو أن يكون تكتيكا مرحليا ولنا في التاريخ عبر ودلائل (الثورة الإيرانية، وحتى من خلال التواطؤ مع الاستبداد العربي الذي يثورون اليوم عليه)، فمبدأ التقية هو مبدأ جوهري عند جميع الأصوليات، يستخدمونه أين ما حلت مصالحهم، قد تصل بهم الدرجة إلى تحريم شيء ما اليوم وتحليله غدا إذا لزم الأمر لخدمة أهدافهم السياسية )،إذا فإن وصول الأصوليات إلى السلطة السياسية ليس تعبيرا عن تراجع قيم اليسار، وفي نفس الوقت لا يمكن التعامل معه بشكل طبيعي، فالمعركة اليوم مفتوحة : أن نكون أو لا نكون. ولعل وصول الأصوليات إلى الحكم أيضا عن طريق صناديق الاقتراع بشكل ديمقراطي نسبيا على مستوى الآليات الانتخابية، لا يترك مجالا للخوف أو الشك في منطق الانتفاضات فالجماهير التي كسرت جدار الخوف وخرجت إلى الشوارع، فإنها لن ترضى ولن تهدأ حتى تتحقق مطالبها المشروعة، ضاربة بذلك كل جدار أو قيد قد يعيدها إلى الاستبداد، فالأصوليات بات مفروضا عليه إعادة النظر في أطروحاتها وتصوراتها، وهي مناسبة لليسار لتجاوز الهجمات المجانية التي تعرض لها خلال السبعينات والثمانينات والمتمثلة في تكفير ونعت مناضليه بالملاحدة، والتي قد أعطت انعكاسات سلبية لدى الشعوب العربية التي يشكل الدين الإسلامي فيها مكونا بنيويا. عود على بدأ وما كانت العودة سوى لجمع مفاصل التحليل، ينضاف هذا على ذاك لنشكل بذالك خلاصة القول لست قائله إنما حامله، إن البحث عن أفق جديد لممارسة يسارية لن يجد صداه إلا إذا ما نفذ بعقل يقظ إلى الأفق الذي فتحه الربيع العربي، الأمر الذي يلزم اليسار اليوم بإعادة قراءة تجربته مهما بلغت جراحاتها وتداخلت طرائقها وشعابها، فلا نظرية في المستقبل ناجحة إذا لم تجعل حاضرها منطلقها، وماضيها سندها، صحيح أن التاريخ لا تحركه إرادات الأفراد إنما للتاريخ منطقه وقوانينه، فقد علمنا أن حركة سياسية قد تراكم لسنوات عديدة دون أن تحقق شيء، وقد تأتي صدفة هي في الحقيقة وجه من أوجه الضرورة، تغيير موازن القوى ويافطاته، لكن يبقى الدرس الأساس أن الحركة الصامدة في التاريخ: هي الحركة القادرة على قراءة هذا التاريخ عن طريق النقد والنقد الذاتي، ورسم إستراتيجيات واضحة بما يتلاءم معها من تكتيكات قد تقصر أو تطول، وأما الحديث عن الأزمة وإعادة إنتاجه فإنه لا يطيل إلا عمر هذه الأزمة، فيسير الخطاب معزولا مهزوما، هو في الحقيقة ناتج عن فكر مهزوم وعقل لا يمكن أن يفكر إلا في إطار الأزمة، وليس التفكير في هذه الأزمة بالشكل الايجابي، أي تجاوزها وفتح آفاق أرحب تحرر الإنسان وتترجم الحلم إلى واقع في وطن نكبر فيه ويكبر فينا لحظة لحظة. * مناضل إتحادي.