ارتبط فصل الربيع في المدن القديمة (فاس، مراكش، سلا، مكناس...) بالنزاهة... وتتوج «النزاهة عادة.. بالجلسات الطربية لفن الملحون، فكثيرا ما نظم شيوخ الملحون القدامى قصائد عن فصل الربيع وتفتح أزهاره، وشهية العشق فيه. «والنزاهة» هي احتفال دأب عليه سكان المدن العتيقة بين الأصدقاء والأحباب وإن في حدود ضيقة، وقد تكون مقتبسة عن عيد «النيروز» لدى الفرس الذي هو احتفال بمواصفات العيد أو عيد «شم النسيم» لدى المصريين. قال الشاعر عن فصل الربيع وعيد «النيروز» : أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من شدة الحسن حتى كاد أن يتكلما قد نبه «النيروز» في غسق الدجى أوائل ورد كن بالأمس نوما في هذا السياق كان لعشاق الملحون ليلة 24 من أبريل الجاري موعدا مع سهرة لهذا الطرب الأصيل بإطلالة جديدة في شكلها ومضمونها وتنظيمها أيضا، نادرا ما اجتمع حولها عدد من العازفين والمنشدين من مدن تراثية مختلفة فاس، سلا، مكناس، تارودانت والراشدية، المدينة الأصل التي استنب في رمال صحرائها هذا الفن التراثي الجميل. ضمت الفرقة الموسيقية ما يناهز عشرون عازفا ينحدرون من المدن المذكورة، بمعنى آخر ينتمون إلى مدارس ملحونية متباينة بمرجعيتها الخصوصية، بالإضافة إلى المنشدات والمنشدين الذين تناوبوا ليس فقط على القصائد، بل على القصيدة الواحدة. كما أتت الفضاء ديكور مسرحي مع مجموعة من الممثلين يتوسطون الجوق، جسدوا في وصلاتهم وحواراتهم التعريف بالملحون، بدؤوا بالوقوف عن أصل الكلمة، ثم قيمته التاريخية، أغراضه أوزانه وبحوره وأهم الشيوخ الذين اشتغلوا عليه، مذكرين بأن هذا الفن المنبثق من الزجل القديم، كان «يسرد» في بداية الأمر قبل أن يغني. فكان المتفرج أمام ما يشبه المسرح الغنائي بممثليه وعازفيه ومنشديه، هذا النوع الموسيقي الممسرح الذي كان مزدهرا في وقت من الأوقات، لكنه لم يتطور لجملة من الأسباب لا يتسع المجال لسردها، فأقبر وتوفي بوفاة رائده العظيم «سيد درويش». نعود للحفل الذي افتتح كالعادة باستهلال «الصلاة على النبي خديم البراق»، تلا ذلك تشخيص مجموعة الممثلين لحوار عن موضوع الملحون (الأصل التاريخ الرواد)، فجاء دور المجموعة النسائية المكون من ثلاثة أفراد تناوبن على إنشاد قصيدة «قتلتني من غير شي يا سلطاني» بعد ذلك أنشدت «سرابة» فصل الربيع من نظم عبد القادر العلمي، ثم قصيدة «الوردة».. بآداء رائع من منشدين من الراشيدية نظم محمد بنسليمان، وجاء دور قصيدة «فاطمة» (أرحمي ياراح لعقل ترحامي) بإنشاد ثنائي من مدينة فاس، كما شاركت المجموعة الغنائية «جيل الغيوان للثرات» من سلا بقصيدة «مزين وصولك» المعروفة وكان الأداء في المستوى. بعد ذلك جاء دور الفنان «خالد إدريس» المقيم في باريس والقادم منه، وهو بالمناسبة من مدينة مكناس، وتتلمذ على يد الفنان الكبير الراحل إدريس التولالي« وقد أتحف الجمهور بقصيدة «الحمام» من نظم الحاج محمد العوفير وتوالت سهرت الإنشاد من تارودانت على يد أحد شبابها، ثم اختم الحفل بآداء جماعي للمشاركين وكان رائعا وجميلا، الذي تلا قصيدة حديثة وظريفة عن حوار بين الهاتف الثابت والنقال. وأروع ما كان في السهرة هو الاستغناء التام عن مقدمها أو منشطها، باستثناء كلمة مختصرة لرئيس الجهة المنظمة جمعية أبي رقراق وشركائها من المسرح نفسه وبعض المؤسسات. لقد ناب عن المقدم المجموعة التمثيلية بلباسها التراثي التي تكفلت ليس فقط بمهمة التقديم أو التعريف، بل ساهمت في التذكير عبر الحوار بالكثير من جزء من القصائد والدرر عبر الإنشاد المسرحي، وبذلك ربط السرد بالغناء، الشيء الذي رفع من إغناء الحفل وتنوع الإنشاد وبالتالي ترك المتفرج يخرج في النهاية بخلاصة هامة ومتعة في الطرب والإفادة. وكان بالفعل وراء هذه الهندسة وهذا الخلق والإبداع مخيلة دراسة ومتعمقة في أصول ربط الملحون بالمسرح في توليفة بقالب فني غير مسبوق، وتقديمه في إطار هذا الفضاء، بحلة جديدة والتي توفقت إلى أبعد الحدود. كان وراء كل هذا، الدارس المبدع عبد المجيد فنيش، الذي لا نملك إلا أن نقتبس منه عنوان المسرحية التي سبق أن أخرجها هو نفسه من تأليف الكاتب الكبير عبد الكريم برشيد وهي مسرحية «ياليل يا عين» وبالفعل كانت «يا ليل يا عين لسهرة ملحونية».