لن يشعر البيضاويون أبناء درب السلطان والحبوس، بكل تأكيد، بأي إحساس بالغربة وهم يزورون خان الخليلي في وسط القاهرة. نفس المعمار والهندسة، نفس المنتوجات المعروضة في أسواق الحيين، نفس الروائح والعبق، التاريخ العميق متجذر هنا في خان الخليلي كما في درب السلطان.. خان الخليلي، أحد معالم القاهرة، من زار مصر ولم يمر من هذا الحي الذي عاش وسطه الرائع الأديب العالمي نجيب محفوظ، وكأنه أفلت الموعد، ولم يزر مصر.. قبل السفر لمصر، عدت لقراءة الرواية الخالدة لنجيب محفوظ خان الخليلي، قرأتها وأنا صغير السن، شابا ثم يافعا، شاهدتها في السينما في فيلم من بطولة عماد حمدي وحسن يوسف، كم كان حجم تمتعي وأنا أنغمس في تفاصيل صفحاتها، أجول مع أبطالها في أزقة خان الخليلي، أستنشق هواء دروبها وحواريها، مقاهيها ومحلاتها التجارية، مساجدها الحسين والأزهر، ألامس بيوتها العتيقة، أستمع لهمسات صباياها وشيوخها، أتذوق طعم بنها وقهوتها.. أحببت خان الخليلي قبل أن أزوره، وعشقته وتعلقت به وأنا ألامس ترابه.. تملكني شعور غريب وأنا أطأ بقدمي مدخل خان الخليلي عبر بوابته المطلة على مسجد الأزهر، حنين بكل تأكيد لهذا الحي الراسخ بجماليته في ذاكرتنا العربية بفضل مخطوطات نجيب محفوظ. أهو سحر؟ ذلك ما رددته في دواخلي وأنا أجد نفسي أمشي تجرني خطواتي نحو مقهى الفيشاوي، المقهى التي عمرت هنا بخان الخليلي منذ أزيد من مائة سنة وأكثر، والتي حافظت على مر السنين على طابعها وديكورها الذي يحمل اللمسة التركية.. هنا يلتقي الأدباء والصحافيون والفنانون.. هنا جلس نجيب محفوظ الذي ما تزال روحه ترفرف في المكان.. كم هي جميلة تلك الصور التي تزين الجدران، والتي تؤرخ لزمن مجيب محفوظ وأصدقائه.. كل الجنسيات تحضر هنا في مقهى الفيشاوي، أتراك، فرنسيون وأمريكيون، صينيون وكوريون، عرب، مسلمون ومسيحيون ويهود، وكل الثقافات لا تبارح مقهى أضحت ملتقى يقصده الجميع، حتى صارت أشهر من أهرامات الجيزة، وأعظم من شموخ أبي الهول.. في ركن من المقهى، تحدث الشاب تامر عن المكان: نادرا أستاذي ما أرتاد هذه المقهى، أشتغل في محل في الجوار، لكني لا أفضل احتساء قهوتي هنا لسبب واحد لا غير، مقهى الفيشاوي أصبحت مكانا سياحيا، والأسعار هنا عالية تفوق قدراتي.. أي نعم، هي مكان جميل يحمل سطورا من التاريخ المصري الممتد من القرن الثامن عشر، لكنه نفس فنجان القهوة، بنفس الطعم ونفس المزاج، أحصل عليه بجنيه بدل الأربعة أو الخمسة هنا بالفيشاوي.. يشتغل تامر في محل يعرض منتوجات أثرية وألبسة تقليدية مصرية، يعيش هنا وعمره لم يكن يتجاوز 13 سنة، حين اضطر لمغادرة فصول الدراسة بحثا عن عمل يعين به أسرته ووالدته التي وجدت تغسها بعد رحيل الزوج في متاهة الحياة الصعبة، وفي متاهة التكفل بخمسة أبناء، أكبر الأولاد كان تامر. عادة، وفي حالة الرواج التجاري في خان الخليلي، يمكن لمدخول تامر الشهري أن يصل لألف وخمسمائة جنيه، أي ما يعادل 2250 درهما بالعملة المغربية.. هو مدخول كويس ومش بطال.. اليوم, أستطيع أن أفتح بيت وفي نفس الوقت أعين والدتي على مصروف العيش.. وبالفعل، فأنا حاليا متزوج ولدي طفلتين، أكتري شقة في عين شمس ب 400 جنيه في الشهر، والباقي يكفيني لأتدبر أموري وأمور أسرتي والحمد لله.. ما أتأسف له في واقع الأمر، هو أنه وبعد الثورة، وقف حالنا، وتراجعت أعمالنا، لم يعد الرواج كما كان عليه الحال من قبل، ونادرا نا يقصدنا زبون أجنبي.. وفي رأيي، لم نستوعب جيدا ولم نتأقلم مع ما حققته الثورة، الحياة متوقفة، والمطالب لا تنتهي، وكل يوم هناك مطالب جديدة، هي عادات نشأت مع الثورة، وتحن أصبحنا ضحايا الثورة.. في معرض القاهرة للكتاب، كان عطر خان الخليلي يفوح في كل الأروقة.. كتب ومنشورات، ولافتات تدعو أبناء مصر للتضامن لإعادة البناء.. الثورة حاضرة في الكؤلفات الجديدة، في الندوات، وفي تعاليق وأحاديث بلال فضل الأديب الذي سعدت بلقاءه، وتشرفت بالحديث معه، لن أنسى ملامحه وهو يقف لاستقبالي بعد أن منحني توقيعه على أخر إبداعاته: أستاذ عبد العزيز من المغرب.. مرحبا أخي.. مرحبا في مصر الجديدة، مصر ما بعد الثورة.