لم يكتب لي، صباح يوم الأربعاء، أن أشرب قهوتي في مقهى الفيشاوي الشهيرة بخان الخليلي، كما اعتدت ذلك كل صباح.. لم أستمتع في ذلك الصباح بعبق ذلك المكان الذي ما يزال يحتضن روح نجيب محفوظ عميد الرواية العربية، كما لم أستمتع بصوت امحمد، نادل المقهى وهو يرفع صوته عاليا كلما رآني قادما وأنا أحمل مجموعة من الصحف: وعندك قهوة سكر زيادة للأستاذ بتاع الجرايد. فقد طلب مني صديقي أحمد أن أنتظره في الفندق، وأن لا أغادره. في السيارة، أبلغني أن الدكتور وجيه عزام عضو اللجنة الأولمبية المصرية، وتربطني به صداقة متينة، يستضيفني لتناول وجبة الغداء، وسيكون برفقتنا أحد المسؤولين في دولة تركيا. وأخبرني أن المسؤول التركي عندما علم بوجود صحفي مغربي في القاهرة، عبر عن رغبته في ملاقاته والتعرف عليه. لم أتردد في قبول الدعوة، لكني اشترطت على صديقي أن نمر على ميدان التحرير لمعرفة آخر التطورات. في الميدان، وكما كان الحال صباح يوم الثلاثاء، كانت خيام المعتصمين منتصبة، جلها مايزال ساكنوها نائمين.. قلة قليلة منهم كانت منهمكة في توضيب بعض الحاجيات، أو في إعداد وجبة الفطور. الهدوء كان يسود المكان إلا من جلبة الحافلات والسيارات وأصوات بائعي الفول المدمس والعيش.. وكأنه كان اتفاقا وقد تم إبرامه بين الخصوم: العساكر والشرطة في مقابل المتظاهرين والمعتصمين.. هي هدنة، لكنها، وكما أوضح صديقي أحمد، هدنة مؤقتة في انتظار يوم السبت 11 فبراير، موعد الإضراب العام أو العصيان المدني. لماذا 11 فبراير بالتحديد؟ أليس يوما يصادف الذكرى الأولى على انتصار الثورة؟ أليس هو نفس اليوم من السنة الماضية التي أعلن خلاله حسني مبارك عن تخليه عن الرئاسة؟ ألا يفترض، كما يتم تذييعه في المحطات الإذاعية والتلفزية المصرية، أن يكون يوم احتفال بنجاح ثورة 25 يناير 2011؟ ثورة إيه وانتصار إيه يا أفندم؟ يقول عبدالحكيم ويشتغل سائق طاكسي، يقولون إنها ثورة التحرير، التحرر الوحيد الذي لمسناه، هو تحررنا من حزام السلامة الذي كان مفروضا علينا.. هل هو إذن فصل ثاني للثورة؟ ذلك على كل حال ما أكده شاب في مقتبل العمر يعتصم في الميدان: نعيش نفس الظروف، نفس المعاناة، ما يزال الشباب يسقطون شهداء، ما يزال الدم يسيل في الشوارع، ما يزال حكام ما قبل ثورة 25 يناير يستمتعون برفاهيتهم ولو خلف قضبان السجون، وما زالوا يخططون ويحكمون.. الجيش ألف كراسي الحكم، لم تتغير حياتنا، ضيق الحال، تعليم سيء، نقل متخلف، عيش مفقود، الاعتقالات، مصادرة الحرية والرأي.. إنها هدنة مؤقتة، فالأكيد أن اليوم الذي سيلي يوم 11 فبراير، لن يكون عاديا.. حل موعد اللقاء مع المسؤول التركي، في عوامة فوق النيل تابعة لنادي التجديف «المقاولون العرب»، جلس شاب وسيم يحيط به شخصان، وسيدتان، قدمني صديقي الدكتور وجيه عزام للشاب، صافحته فبدا أكبر سنا من مظهره، رحب بي بلغته التركية، ليتقدم أحد مرافقيه ليقول باللغة العربية: هو السيد مراد قارقايا المدير العام للهيئة العامة للنشر والصحافة التركية، هي هيئة بمثابة وزارة الاتصال عندنا في المغرب، قدمت نفسي بدوري، وانطلقت ثرثرتنا فوق النيل، تحدث عن قطاع الصحافة والإعلام في تركيا، وما حققته تركيا من تطور هائل في هذا الميدان.. أكثر من 250 قناة تلفزية، منشورات وصحف لا تعد ولا تحصى.. مجال واسع من الحرية في القطاع، وكل الصحف والمنشورات لا علاقة لها ولا تبعية لأية جهة رسمية.. قال السيد مراد قارقايا أن تركيا تنهج حاليا في سياستها الخارجية الانفتاح على المحيط العربي والإفريقي، وكمسؤول عن قطاع الإعلام، فبدوره يعمل بجد على تحقيق التواصل والتقارب مع الأقطار العربية.. وصرح أنه بصدد التحضير لتنظيم منتدى تركي عربي إفريقي للإعلام والصحافة في شهر ماي القام.. ثم أضاف: سأكون مسرورا بحضور جريدة «الاتحاد الاشتراكي» المغربية في المنتدى. بعد ساعة ونصف، وجدت نفسي أتجول في شوارع القاهرة التي تعج بالحركية.. في شارع جامعة الدول العربية، أخذت مكانا لي أحتسي قهوة من يد نادل يملأ الشيب رأسه، كان يرتدي قميصا باللون الأبيض مكتوب على ظهره: أنا القائد وأنا ثورة 25 يناير. في الفندق، اتصلت هاتفيا بجنات مهيد الفنانة المغربية المتألقة والمقيمة بالقاهرة، حددنا موعدا للقاء في اليوم الموالي الخميس، ودعتها وهي ما تزال تردد على مسامعي: أخي عبد العزيز، أنا سعيدة بسماع صوت مغربي.. مرحبا بجريدة «الاتحاد الاشتراكي» في أرض الكنانة.. آه، قبل أن أنسى فنانتنا المغربية.. الموعد يجب أن يكون في الفترة الصباحية، فبعد الزوال، لدي موعد مع علاء الأسواني الروائي الرائع صاحب عمارة يعقوبيان وشيكاغو.. هو موعد لا يمكن أن أفوته أبدا أبدا.. شكرا.