في صباح 23 نونبر 1989، لاحظ وحيد مزهده، وهو مترجم أفغاني يعمل في مدينة بيشاور (الباكستانية) لحساب واحد من أهم زعماء الأفغان العرب، شيئاً غريبا وهو في طريقه إلى العمل. كان بعض العمال قد أغلقوا تقاطع طرق صغير أمام مسجد يرتاده «الأفغان العرب»، وهو مصطلح يطلق على المقاتلين القادمين (المجاهدين) من الدول العربية إلى أفغانستان. كان العمال ينظفون مجرى الأمطار الذي يقع تحت التقاطع من الأوساخ المتراكمة . وفي المكتب، تجادل مزهده مازحا مع زملائه في العمل عن احتمال كون مدير البلدية قد تلقى أموالاً مؤخراً للعناية بالحي، ولكنه لم ينفق إلا القليل وعلى تنظيف هذا التقاطع، تحديداً، ربما لكون هذا المكان سيمر فيه موكب حكومي!! في اليوم الموالي، غادر رئيس مزهده، وهو شيخ فلسطيني ذو كاريزما، منزله متجها إلى المسجد ليؤم صلاة الجمعة. وقبل شهر من ذلك الوقت، زرع مجهول قنبلة تحت المنبر الذي يعلوه الشيخ. واكتشفها فرّاش المسجد قبل الصلاة وتم إبطالها، ولكن الشيخ عبد الله عزام قال إنه سيكون هناك محاولات أخرى لقتله. ومع هذا، تجاهل عزام هذا التهديد مخبرا الصحافي جمال إسماعيل: «قدري مكتوب، ولا يمكن أن أغير ما كتب لي». في ذلك الصباح من نونبر، لوّحت أم محمد عزام بيدها مودعة زوجها عبد الله عزام وولديها (محمد 22، وإبراهيم 14 عاما) عندما غادروا بالسيارة إلى المسجد، ثم ذهبت إلى المطبخ لتحضر الطعام. وبعد دقائق، سمعت انفجاراً رهيبا نتجت عنه سحابة سوداء في السماء فوق المسجد. «عرفت فوراً... « كما قالت لي مؤخراً وهي تجلس في منزلها في عمّان، الأردن. ولكنها اتصلت بمكتب زوجها على أية حال، سأَلتُ: «هل كان المسجد أم السيارة؟». قيل لها: «السيارة!». «وأيقنتُ –كما قالت لي– أن زوجي وأبنائي أستشِهدوا «شهد الانفجار جمال عزام، ابن أخ الشيخ عبد الله عزام ومساعده الذي كان يتبع سيارة عزام عندما مرت فوق التقاطع (الذي يقع تحته مجرى الأمطار الذي كان العمال ينظفونه كما سلف ذكره). قال جمال: «صدر صوت عظيم وطارت سيارة عزام في الهواء». وعندما انقشع الدخان، «شاهدت السيارة مقسومة إلى جزئين، وكان جسم محمد عالقا على جذع شجرة في الجهة المقابلة من الشارع، وسيقان إبراهيم معلقة بأسلاك الكهرباء التي في الهواء، ويداه انفصلتا وسقطتا في الجهة المقابلة من الشارع». وأكد جمال أن جثة عزام عثر عليها بدون خدوش. وأضاف جمال: «كان هناك قليل من الدم يخرج من فمه. القنبلة لم تحتو على مسامير أو شظايا حادة، ربما بصورة مقصودة. لو لم يقتل باكستانيون فإن التحقيق كان سيكون روتينيا في أحسن الأحوال». «لم يكن أحد يهتم بالعرب»، كما قال المسؤول الحكومي منصور إلهي. «في العادة عندما يحدث شيء مثل هذا، يحاول المحقق معرفة أعداء الشخص، ولكن لكونه أجنبياً (أي غير أفغاني)، لم يفكروا كثيراً. وحتى لو فكروا، لم يكن ذلك ليجدي»، لأن الكثيرين كانوا يريدون قتل الشيخ عبد الله عزام! الموقر والذميم في الوقت نفسه، لم يهتم أحد باغتيال الشيخ عبد الله عزام خارج العالم العربي وخط الحدود المتهرئ بين باكستانوأفغانستان. ومع هذا، من السهل القول إن اغتياله كان نقطة التحول الحرجة في تأسيس تنظيم القاعدة الإرهابي. الشيخ عبد الله عزام كان شخصا موقرا على نطاق واسع حتى هذا اليوم. أصدقاؤه وأقاربه وأصحابه وتلاميذه يتحدثون عنه ويصفونه بعبارات تمجيدية مثل «الملاك» و«العظيم» و«الكريم». يؤكد ابنه حذيفة: «لو كان عزام حيا لما وافق على تفجيرات 11 شتنبر الإرهابية!!!». ولكن الشيخ عبد الله عزام كان أيضاً ذميما ويثير الخوف، لقدرته العجيبة على إلهام وإقناع الناس بالتطوع للجهاد. لقد كانت هناك 5 محاولات لاغتيال الشيخ عبد الله عزام في الشهور القليلة التي سبقت قتله، كما يقول حذيفة. بالإضافة إلى تهديدات لا تحصى بالقتل في شوارع بيشاور التي تعج بالفصائل (الجهادية) المتصارعة، قد يكون الاغتيال تم عن طريق إحدى هذه الفصائل أو مجموعة منها. «من كان لا يريد قتل عزام؟» يتساءل الصحافي إسماعيل الذي عمل مع الشيخ عبد الله عزام وغطى أخبار الجهاد خلال عقد الثمانينيات. قام إسماعيل بعد الاحتمالات على أصابع يده، «كانت هناك المخابرات السوفياتية والمخابرات الأفغانية العميلة للسوفيت لأن الشيخ عبد الله عزام كان صاحب تأثير في الجهاد الأفغاني. وهناك أيضاً إسرائيل والموساد لأنه ساهم في تأسيس حركة حماس. وكذلك الحكومة الباكستانية بقيادة بنازير بوتو التي يقال إنها علمت بتحريض الشيخ عبد الله عزام على سحب الثقة منها في البرلمان. كان هناك الأمريكان أيضا لأن الشيخ عبد الله عزام عارض طلبهم بعقد صلح بين المجاهدين والحكومة الأفغانية العميلة بعد انسحاب السوفايت. وأيضا القائد غلب الدين حكمتيار، الزعيم الأفغاني القوي، الذي كان يكره الشيخ عبد الله عزام لأنه يؤيد ويساند خصمه القائد أحمد شاه مسعود. وكذلك هناك بعض العرب الآخرين ممن كانوا يخافون من تنامي قوته». وختم الصحافي إسماعيل إجابته قائلاً: «الشخص الوحيد الذي أضمن أنه لم يقتله هو أنا لأنني كنت أحيي حفل زواجي في ذلك اليوم نفسه في الأردن». بصدره العريض مع لحية طويلة يكسوها بعض الشيب، بحلول عام 1989، أصبح الشيخ عبد الله عزام شخصية معروفة ومعتادة في شوارع بيشاور وساحات القتال في أفغانستان حيث كان يعتبر الأب الروحي للجهاد. ولد الشيخ عبد الله عزام في مدينة جنين (الفلسطينية) سنة1941. لجأ عزام إلى الأردن بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967. تعلم في جامعة الأزهر في القاهرة (وحصل على الدكتوراه في الشريعة الإسلامية) ثم درّس في جامعة الملك عبد العزيز في جدة. وعندما غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان سنة 1979، وجد الشيخ عبد الله عزام الذي كان يشعر بالقهر من احتلال بلاده، منفذا لإخراج غضبه. وفي كتاب أًصدره عام 1984، ابتكر الشيخ عبد الله عزام نظرية جديدة معلناً أن الحرب الدينية (الجهاد) ضد الاحتلال الأجنبي هو أمر واجب على جميع المسلمين مثل أركان الإٍسلام: الصلاة والصيام والزكاة. وبعد نشر الكتاب، تكون تيار فكري يؤيد نظرية الشيخ عبد الله عزام. الشيخ عبد الله عزام نفسه هاجر إلى مدينة بيشاور، نقطة تجمع مقاومة الاتحاد السوفياتي حيث أسس «مكتب الخدمات» لينظم حركة تدفق المتطوعين العرب وقام بدعمه أسامه بن لادن عبر ثروته الكبيرة التي غطت جميع التكاليف، ثم نشر الشيخ عبد الله عزام مجلة «الجهاد» الشهرية الملونة ذات الطباعة الفخمة التي تمجد القتال (الجهاد) وتندد بالفظائع التي ارتكبها السوفيات وتستجدي التبرعات بمهارة. ولكن بعد انسحاب السوفيات عام 1989، انقطع الدعم المالي الذي كان يصل للمجاهدين. وفي بيشاور التي تعج بمهربي الأفيون وتجار السلاح والجواسيس، أصبح الجهاد تجارة رائجة لا تقل في الأهمية عن أركان الإسلام الأخرى. وبعد أن فقدوا الدافع لوجودهم، تجادل وتصارع الأفغان العرب حول مستقبل الجهاد واختلفوا بسبب الموارد المالية التي تقلصت! أسامه بن لادن بثروته كان المنتصر في جدال الأفغان العرب حول مستقبلهم. اقترح عزام تحويل الجهاد إلى فلسطين لكن مجموعة جديدة راديكالية من العرب، يقودها الطبيب المصري المتطرف أيمن الظواهري، كانت تزداد قوة. الظواهري كان يعتنق الفكر التكفيري ويدعو إلى العنف مع الخصوم حتى من المسلمين. ولكن الشيخ عبد الله عزام كان يصر على المبدأ الإسلامي الراسخ بعدم جواز قتل المسلم لأخيه المسلم. ولكون عزام هو مؤسس فكرة الجهاد وأستاذ بن لادن نفسه، أًصبح عزام عقبة في طريق طموح الظواهري لتأسيس منظمة إرهابية إسلامية يمولها بن لادن. وفي بدايات صيف 1989، عندما بدأت الحرب الأهلية بين فصائل المجاهدين الأفغان، عقد أسامة بن لادن والظواهري اجتماعا أسفر عن تأسيس تنظيم ب«القاعدة» الإرهابي الذي يهدف إلى تحقيق أهدافه عن طريق العنف. وأصبح أعضاء المنظمة الجدد الذين قدموا الولاء لبن لادن يسمون هذا التنظيم ب«القاعدة»، اقتباسا من مكان المعسكر الذي تدربوا فيه. شعر الشيخ عبد الله عزام بالرعب عندما علم بتكوين هذا التنظيم الإرهابي الجديد. وكما قال لي عبد الله أنس، صهر عزام الجزائري، ومحل ثقته وصديقه الذي أصبح زوج ابنته: «عزام كان ضد محاولة تجنيد الناس للجهاد أو القيام بأي عمل عنيف خارج أفغانستان». الظواهري انتقم من عبد الله عزام فوراً عندما وصف عزام كعميل ل«سي آي أيه» (وهي تهمة كيدية سخيفة طبعا!!!!) دوافع عديدة بسبب كل ذلك التاريخ المر، يعتقد الكثيرون أن العداوة بين الظواهري وعزام أدت إلى اغتيال عزام. «الظواهري كان نكرة»، كما قالت «أم محمد»، زوجة عبد الله عزام بسخرية وأَضافت: «لم يكن يملك القوة ولا الأتباع لينفذ طموحاته المجنونة» ولكن مزهده، مترجم عزام، ليس متأكدا من ذلك ولذلك قال لي: «في بيشاور، إذا كنت تملك المال، يمكنك صنع أي شيء من تنظيف الشوارع إلى الاغتيال». هذا بدون شك صحيح، إنما هناك آخرون، بالإضافة إلى الظواهري وأنصاره، كانوا سينتفعون من هذه الخدمة نفسها ولديهم كل الدوافع لفعل ذلك. بعد انسحاب السوفيات اشتبكت فصائل المجاهدين في حرب أهلية مجنونة ومتوحشة بعد انتفاء العدو المشترك. تلك الحرب الأهلية استمرت 5 سنوات، وأدت في النهاية إلى سيطرة طالبان على الوضع. الأفغان العرب، ومن ضمنهم الظواهري، تحالفوا مع حكمتيار، وهو قائد بشتوني كان يلقى دعما من المخابرات الباكستانية، وهي الهيئة نفسها التي كان من المفترض أن تجري تحقيقا في اغتيال عزام!! ولكن الشيخ عبد الله عزام تحالف مع منافس حكمتيار: «القائد أحمد شاه مسعود»، وهو قائد طادجيكي كان يلقبه عزام ب«بطل الجهاد الجديد»، والذي تم اغتياله في النهاية بطريقة دراماتيكية، بواسطة عملاء لتنظيم «القاعدة» قبل يومين من تفجيرات 11 شتنبر 2001. تعاون الشيخ عبد الله عزام مع مسعود أغضب حكمتيار. «أول شيء خطر ببالي بعد اغتيال عزام هو كون حكمتيار هو المنفذ»، كما قال السيد عبد الله عبد الله، مستشار مسعود ووزير خارجية أفغانستان في ما بعد. «كانت الكثير من الأموال تصل حكlتيار في ذلك الوقت، ومن المؤكد أن مساندة عزام لمسعود كان لها دور في تدفق تلك الأموال!!». إسرائيل تطارد الشيخ عبد الله عزام مع هذا، يتسآل الصحافي إسماعيل، حول ما إذا كان هناك مجموعات أخرى يهمها قتل عزام. وبعد وقت قليل من الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وتأسيس حركة حماس كمنظمة فلسطينية جهادية ضمن حركة مقاومة فلسطينية عريقة كان يقودها قادة علمانيون يرأٍسهم ياسر عرفات، بدأ الشيخ عبد الله عزام بتجنيد أطفال صغار من فلسطين، وإحضارهم إلى أفغانستان للتدرب في معسكرات خاصة. وكان هؤلاء الشباب يستعملون جوازات مزورة لحماية أنفسهم من المخابرات الإسرائيلية، ولكن اكتشف وجود هذه المعسكرات بعد العثور على سيارة مفخخة قرب فندق ماريوت في تل أبيب واعترف المعتقلون الذين خططوا لها، مما أدى إلى اكتشاف خلايا عديدة في إٍسرائيل والضفة وغزة. «لم يكن أعضاء هذه الخلايا يعرفون عن وجود بعضهم البعض»، كما قال الصحافي إسماعيل، وأضاف: «كان العامل المشترك بينهم جميعاً هو التدريب في معسكرات عزام في أفغانستان». المفارقة المدهشة هي كون عزام حصل على إنذار مبكر بخصوص انكشاف معسكراته عبر مبعوث سري خاص من ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية التي كان عزام يكفرها طيلة السنوات العديدة بسبب فكرها العلماني. قال مبعوث عرفات لعزام: «إسرائيل تريد قتلك». كما قال الصحافي إسماعيل، وأَضاف المبعوث: «أرجوك خذ الحذر». كانت تلك هي البداية، كما قال حذيفة بن عبد الله عزام: «اكتشف الموساد أن والدي أسس قاعدة قوية ضد إسرائيل، وأنه سيحل الدور على إسرائيل بعد أفغانستان». يؤكد جمال عزام، ابن شقيق عزام، أنه قد يكون لدى إسرائيل الحافز، لكن لم يستطع أحد أن يثبت تورطهم في اغتيال عزام. أحمد زيدان، الصحافي العربي المرموق الذي غطى اغتيال عزام، رفع يديه بدهشة وسخط عندما سألته: من زرع القنبلة؟ أجاب زيدان: «إنه لغز عظيم مثل باقي الألغاز: من قتل كينيدي، وبنازير بوتو؟ أنا لا أستطيع أن أخمن من قتل عزام أو من كان لديه الدافع لقتله». هل كان التاريخ سيتغير لو عاش عزام؟ إنه لم يكن ملاكا بأي معيار خلاف معايير المجاهدين. ولكن الكثيرين يعتقدون أنه كان سيكون له تأثير إيجابي على تطرف بن لادن، وأن علمه الغزير والكاريزما الخاصة به كانت ستعدل من راديكالية الظواهري المجنونة. صهر عزام عبد الله، أنس، يعتقد أن عزام كان سيواصل رسالته لتحرير أراضي المسلمين. لقد دعا الناس إلى الجهاد في أفغانستان لأن السوفيات احتلوها، ولكن ما ينسب للجهاد الآن في العراق وفلسطين من قتل المدنيين والخطف والتفجيرات في الأماكن العامة ليس هو الجهاد الذي كان يدعو إليه عزام». إن هذا تفكير مريح إلى حد ما، ولكننا لن نعرف أبدا ما إذا كان صحيحاً وكذلك من المحتم ألا نعرف يقينا من فجر سيارة عزام في بيشاور قبل 20 سنة. الكثيرون من الناس كانوا يريدون قتل عزام.