بعد شهرين ونصف من الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الأفغانية، الممزوجة بالخروقات، وعلى بُعد خمسة أيام من التاريخ المقرر للدورة الثانية، أعلن المنافس الوحيد للرئيس الأفغاني، يوم الاثنين المنصرم، الدكتور عبد الله عبد الله انسحابه من السباق، مما دفع باللجنة الانتخابية العليا إلى إعلان السيد حامد كرزاي رئيسا لجمهورية أفغانستان الاسلامية. فمن هو حامد كرزاي هذا؟ وما هو مساره، مِن مجاهدٍ ضد الاحتلال السوفياتي لبلاده إلى حليف، بل صنيعة للاحتلال الأمريكي؛ وكيف تحول من مؤيد لحركة طالبان إلى واحد من أعدى أعداء هذه الحركة؟ وما هي التحديات التي تنتظر الرئيس كرزاي، سواء في الداخل مثل السعي للمصالحة الوطنية ومحاربة الفساد أو في الخارج مثل ترميم العلاقة مع الغرب؟ هل سيتصرف كزعيم وطني يضع مصلحة بلاده فوق كل اعتبار، أم يتلقى التعليمات والتوجيهات من البنتاغون كأي صنيعة للأجنبي؟ فوز مُلتبس في يوم الاثنين، ثاني نوفمبر الجاري، أعلنت اللجنة الانتخابية العليا بأفغانستان المرشح حامد كرزاي رئيساً لجمهورية أفغانستان الاسلامية، وذلك بعد أن أعلن المرشح المنافس الدكتور عبد الله عبد الله انسحابه من السباق، على بُعد خمسة أيام من التاريخ المقرر للدورة الثانية لرئاسيات كانت ستحسم النتيجة لواحد من المرشحين المتنافسين. وبذلك، وضعت اللجنة حداً لشهرين ونصف من المهاترات والاتهامات الموجهة إلى كرزاي ومؤيديه باقتراف خروقات سافرة من تزوير وترهيب لصالح الرئيس وضد منافسه وزير الخارجية الأسبق عبد الله عبد الله. هذه الخروقات التي سجلها المراقبون الأجانب، مما أضفى على الانتخابات الرئاسية التي جرت في 20 غشت الماضي، ظلالا من الشك والعبثية واللاجدوى.. وأمام الاحتجاجات والدلائل المتعددة على الخروقات، اضطر حامد كرزاي إلى الاعتراف بأنه كانت هناك حالات تزوير وبعض الخروقات، لكن «العملية الانتخابية برمتها كانت جيدة وحرة وديمقراطية» حسب أقواله؛ وبذلك وافق على فكرة الدورة الثانية من الانتخابات التي كان مقرراً لها أن تتم يومه السبت سابع نوفمبر، بيد أن الإعلان المفاجىء لعبد الله عبد الله انسحابه من السباق (تفادياً لمواجهة مباشرة أو احتجاجاً أو رضوخا لضغوط من جهات خارجية؟؟) دفع باللجنة الانتخابية العليا (الموالية لكرزاي) إلى إعلان هذا الأخير فائزاً دون إجراء الانتخابات بعد أن أصبح مرشحاً وحيداً. وهكذا أصبح ابن «كَرَز» القرية الصغيرة بولاية كندهار، أول رئيس أفغاني منتخب في العصر الحديث. فمن هو هذا الرجل ذو العينين الثاقبتين الملفوف غالبا في عباءته الأوزبكية، والذي يغطي صلعته ،بشكل شبه دائم، بقبعة من الوبر الأسود المحلي. طفولة ذهبية رأى الطفل حامد النور يوم 24 دجنبر 1957 في قرية كرز جنوب شرق ولاية كندهار الأفغانية، وسط ثمانية أطفال لأحد مشايخ وزعماء قبيلة باشتونية الثرية أبا عن جد. و كان جده خير محمد خان قد شارك عام 1919 في حرب الاستقلال الأفغانية، ثم أصبح نائباً لرئيس مجلس الشيوخ الأفغاني آنذاك. وقد ظلت عائلة كرزاي واحدة من أكبر مؤيدي الملك الأفغاني السابق، ظاهرشاه، حيث شغل والده عبد الأحد كرزاي نائباً لرئيس البرلمان خلال ستينات القرن الماضي. وانتسب الطفل حامد إلى مدرسة محمود متقي الابتدائية بكندهار قبل أن يلتحق بثانوية جمال الدين الأفغاني بكابول عاصمة البلاد، حيث نال شهادة الباكالوريا عام 1976. وانتقل الطالب حامد كرزاي إلى جامعة «هيما شال براديش» في مدينة شيملا الهندية ما بين 1979 و 1983 حيث نال شهادة في العلوم السياسية. وبعد حصوله على الشهادة عاد إلى أفغانستان حيث انضم للمجاهدين الأفغان المدعومين من طرف المخابرات الأمريكية ضد الاحتلال السوفياتي. وكان يقوم آنذاك بدورضابط اتصال بين المجاهدين من جهة و «السي آي إيه» (وكالة المخابرات المركزية الأمريكية) من جهة ثانية، حيث تولى توصيل المساعدات المالية إلى «المجاهدين». وهكذا ظل حامد كرزاي بباكستان المجاورة لبلده طيلة فترة الاحتلال السوفياتي، فيما هاجر إخوانه إلى الولاياتالمتحدة كرجال أعمال. وحين ظهر «الطالبان» في منتصف تسعينات القرن الماضي، ساند كرزاي الموجة الجديدة، على غرار كثير من الأفغان، الذين رأوا فيهم قوة من شأنها أن تُنهيَ العنف والفساد بالبلاد، لكنه انفصل عنهم فيما بعد ورفض أن يتولى منصب سفير لهم لدى الأممالمتحدة، معترفاً لبعض أصدقائه بأنه شعر أن المخابرات الباكستانية «تسيء استغلالهم»، بَيْد أن هناك من يعزو انفصاله عنهم إلى قيامهم باغتيال والده. فقد كان كرزاي وعائلته يعيشون في «كويتا» الباكستانية، وفي أحد صباحات يوليوز 1999 (14 يوليوز بالتحديد)، وحينما كان عبد الأحد كرزاي والد حامد عائداً من المسجد خرَّ صريعاً تحت رصاصات مجهولة نسبها المراقبون إلى طالبان. ومنذ ذلك الحين حول حامد كرزاي ولاءه إلى أحمد شاه مسعود، الذي كان يحشد الحشود لمواجهة «طالبان». وفي أحد حواراته في فبراير 2005، انتقد كرزاي الدور الذي لعبته الولاياتالمتحدة في دعمها وتقويتها لطالبان، قائلا إنه أمضى سنوات طويلة قبل 11 شتنبر 2001 يحذر خلالها السفارات الغربية من خطر طالبان «لكنها تصرفت بإهمال وأنانية وقِصر نظر». وفي الوقت الذي كانت الولاياتالمتحدة بعد تفجيرات 11 شتنبر تستعد فيه لمواجهة طالبان، شرع كرازي في استجداء دول حلف الأطلسي كي تُخلِّص بلاده من القاعدة «هؤلاء العرب مع مؤيديهم الأجانب خربوا أميالا وأميالا من المساكن والكروم ... لقد وجهوا سلاحهم نحو حيوات أفغانية.. نريدهم أن يخرجوا من بلادنا« (في حوار مع بي. بي. سي). في خدمة واشنطن حين شرعت جماعات التحالف الشمالي المدعومة من طرف أمريكا في شن حملتها في 7 أكتوبر 2001 ضد طالبان، ارتأت الإدارة الأمريكية بنصيحة من «زلماي خليل زاده» وهو أمريكي من أصل أفغاني أن تُضفي بعض الشرعية الوطنية على حامد كرزاي، فنصحته بالدخول إلى أفغانستان وجمع بعض المقاتلين الباشتون حوله. وهكذا تسلل كرزاي صحبة بعض من أصحابه داخل أفغانستان، حيث تزود حامد بهاتف نقال و دراجتين ناريتين ودخلوا. إلا أن صاروخاً أمريكياً خاطئاً انفجر بالقرب منهم، مما أدى إلى إصابة بعضهم بجراح. و تم نقلهم إلى الولاياتالمتحدة للعلاج. ولازال حامد كرزاي يعاني من آثار هذا الجرح الذي أصاب أعصاب وجهه، وهو ما يظهر جليا في بعض الأحيان أثناء إلقائه خطبه. وفي رابع نونبر 2001 قررت القوات الأمريكية نقل كرزاي خارج أفغانستان حماية له وتحضيراً له لمهام أخرى. وهكذا حين اجتمع الزعماء السياسيون الأفغان بألمانيا في دجنبر 2001، أنشأوا إدارة انتقالية عينوا حامد كرزاي رئيساً لها، لكن نفوذه وسلطته لم تكن تتعدى حدود العاصمة، مما جعل الكثير من الأفغانيين يلقبونه ب «عمدة كابول». لكن الوضع سيتغير سنة 2004، حين سيتم انتخابه في 9 أكتوبر رئيسا منتخباً «بشكل ديمقراطي» وكان من بين الضيوف الذين حضروا حفل تنصيبه في 7 دجنبر 2004 الملك الأفغاني السابق ظاهر شاه. ومنذ ذلك الحين، دخلت علاقته مع الإدارة الأمريكية نوعاً من الفتور أو المواجهة الباردة، خاصة بعد أن رفض اقتراحاً أمريكياً بإنهاء إنتاج الأفيون بالبلاد، وذلك عن طريق رش حقول الخشخاش بالمبيدات الكيماوية من الجو، بدعوى أن من شأن ذلك أن يلحق الضرر بالمزارعين الأفغان. غيرأن مصادر أخرى تعزو هذا الرفض إلى ارتباط عائلته وخاصة أحد أشقائه بشبكات المتاجرة في الأفيون. أحمد ومحمود أحمد والي كرزاي، الأخ غير الشقيق لحامد كرزاي يقسم بأغلظ الأيمان أن لا علاقة له بتجارة المخدرات، لكن مسؤولين أفغان وأمريكيين يؤكدون أن أحمد والي الذي يرأس المجلس البلدي لمدينة كندهار، هو واحد من كبار تجار الهيروين في البلاد، وهي التجارة التي تزود عالم المخدرات بتسعين بالمائة من حاجياته في الكرة الأرضية. وللدلالة على ذلك، يقدمون بعض الأمثلة، ففي عام 2004، اكتشفت قوات الأمن بالصدفة مخبأ للهيروين في أحد المقطورات بضواحي كندهار، ويقول قائد الأمن المحلي «جان حبيب الله» أن أحمد والي كرزاي اتصل به وطالب بالإفراج عن المخدرات المحجوزة، وفي 2007 وقع جان حبيب الله في كمين وتم اغتياله. كما ذكرت عدة تقارير أنه تم اكتشاف عدة شحنات من الهيروين الخالص لدى بعض المقربين من أحمد، فيما قالت مجلة «شتيرن» الألمانية ان القوات البريطانية حجزت عدة أطنان من الأفيون الخام في إحدى ضيعات أحمد والي كرزاي. وأمام مثل هذه الوقائع، يقف أحمد صارخاً أين هي هذه المحجوزات؟ ما علاقتي بها؟ هل أراقب كل ضيعاتي؟ كل هذا عبارة عن إشاعات تستهدفني وتستهدف أخي الرئيس. نفس هذا الكلام يكرره الأخ الآخر محمود كرزاي، الذي يتنقل بين كابول ودبي وواشنطن مثلما يتنقل أحدنا من بيته الى مقر عمله. أما النقيصة التي تلتصق بهذا الأخير فليست المتاجرة في المخدرات، بل استغلال النفوذ والسمسرة في العمولات، لدرجة أن بعض الظرفاء الأفغان يلقبونه «وزير الصفقات» و بفضل ذلك أصبح واحدا من أغنى رجالات أفغانستان. عن هذا يرد محمود كرزاي بضحكة صاخبة قائلا: «أنا اليوم أفقر مني قبل سبع سنوات. فكل أموالي أنفقتها في مشاريع عبر ربوع البلاد ولا تُدر شيئاً كبيراً، لكني أعتقد أن كابول ستصبح في يوم ما مثل هونغ كونغ أو سنغافورة. فالاستثمارات التي وضعناها أنا وشركائي استثمارات كبيرة مع مخاطر كبيرة لكن إذا ازدهرت البلاد فستزدهر مشاريعي وآنذاك بعد عشر سنوات ربما سأصبح غنياً، كما يقول عني أعدائي اليوم» (من مقال لجيرالد بوسنر بعنوان: أسرار عائلة كرزاي). أما الواقع، فإن محمود كرزاي يتحكم من بين ما يتحكم فيه في كل صناعة الإسمنت بأفغانستان، فلا يوضع حجر على حجر في البلاد إلا وله منه نصيب. وفي مجال العقار، استولى محمود كرزاي على قطعة أرض كبيرة (10 آلاف فدان) في ملكية الجيش الأفغاني في وسط كندهار بثمن بخس واقترض من البنك مبلغاً ضخماً بدون فائدة و لن يسدد أقساطه إلا بعد بيع المساكن التي بناها فوقها، وهي المنازل التي بيعت بما بين 20 و 130 ألف دولار للواحد... في بلد يبلغ متوسط دخل الفرد فيه 800 دولار للسنة ويصل فيه أجر رئيس الدولة (حامد كرزاي) 487 دولاراً في الشهر الواحد. التحديات الثلاثة ليس أجر رئيس الدولة (حوالي أربعة آلاف درهم) البخس هو ما يقلق حامد كرزاي، فله في أسرته ونفوذها وثرائها ملاذ، لكن ما يقلقه حقاً هو تحديات ثلاث عليها يُشيِّد نجاحه خلال السنوات المقبلة أو فوقها يتحطم مستقبله خلال الفترة نفسها. وأول هذه التحديات هو الانسجام أو الوفاق الوطني الذي تضرر كثيراً بسبب الشرخ الذي لطخ شرعيته الشعبية، إذ لم يتم انتخابه في دورة ثانية من طرف الناخبين، بل تمت تزكيته من طرف لجنة انتخابية متهمة بأنها تُمالئه وتسانده وهكذا يبدأ كرزاي فترته الرئاسية الجديدة بمعارضة سياسية تجعل من الوفاق الوطني المنشود أملاً بعيد المنال. أما التحدي الثاني فهو تطهير صورة البلاد، مما علق بها من سمعة فاسدة جعلت أقرب حلفاء كابول ،وهي الولاياتالمتحدة، لا تتردد في إبداء ملاحظاتها وتحذيراتها حول هذا الموضوع. فقد ذكر الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» أن بلاده ستحكم على «الأفعال» لا على «الأقوال»، وأن أمريكا تنتظر أن تضم الحكومة المقبلة وزراء نزيهين وأكفاء، إضافة الى توقعهم حصول «إصلاحات داخلية» ليس أقلها تحويل بعض صلاحيات رئيس البلاد لفائدة البرلمان كي يصبح النظام أكثر تمثيلية، لكن هل يقبل كرزاي مثل هذا المشروع؟ أما التحدي الثالث، فهو المصالحة الوطنية على الساحة الأفغانية، أي التوصل إلى حل مع الانتفاضة المسلحة المتنوعة - التي يشكل طالبان الجزء الأكبر منها فكيف سيتعامل كرزاي الجديد مع هذه المعضلة، دون أن يتخلص من التواجد الأجنبي (الأمريكي) في بلاده، تلك هي المسألة.