عن دار النشر الإيطالية العالمية «الجيراسولي» بإيطاليا، صدرت ترجمة لمختارات من قصائد الشاعرة المغربية عائشة البصري بعنوان «توهج الليلك» في طبعة فنية فاخرة . ففي ترجمة موفقة أنجزها المترجم المغربي الرداد الشراطي، جاء هذا العمل لينضاف إلى أعمال أخرى صدرت للشاعرة في اللغات الفرنسية ،الإسبانية ،التركية والألمانية. وتعتبر دار النشر الإيطالية «الجيراسولي» من دور النشر الجادة التي اهتمت بإصدار ترجمات لعدد من شعراء العالم من مختلف الأجيال واللغات. وقد اشتهرت بالخصوص بنشر أعمال شعراء كبار، أمثال :إيزرا بوند ،خوسي أنخيل بلانتي، ميغال أنخيل كويباس، ضمن سلسلة «إيفيستو» التي يشرف عليها الشاعر الإيطالي أنجيلو سكاندورا. خصت الشاعرة الإيطالية المعروفة ماريا أتانازيو هذا العمل الشعري بتقديم ، هنا تعريب له. بين الغرفة والصحراء سفر الكلمة الشعرية لعائشة البصري حرصت الشاعرة عائشة البصري على تصدير قصائدها بأبيات من قصيدة «الميناء الدفين» للشاعر الإيطالي الكبير جوزيبي أونغاريتي جاء فيها: «من تلك القصيدة تبقّى لي ذاك الفراغ ذو السرِّ اللانهائي» أبيات لها إيحاؤها ودلالتها. يغدو الفراغ بسرِّه المشرع inesauribile segreto كاتبًا للقصيدة، حيث يتأثث بالصمت تارة وأخرى يخترق أشياء وأمكنة تشكّل الفضاء الشعري لعائشة البصري عبر رؤية تجوبُ الغرفة وتنكتب في المرآة لتمتَدَّ من تلك الشرفة المفعمة بخصيصة التخييل عابرةً أسوار المدينة والبنايات والحدائق لتلامِسَ تلاشي ذاكرة صمت الصحراء l?immemore silenzio del deserto حيث «لا صوت يعلو». امتدادٌ من رمل، كما منْ ريح لانهائي ومتجدِّد في تغيّر أشكال الكثبان هو ما يَسِمُ العتبة الرمزية لقصائد «توهج الليلك». إن التحرِّي اللانهائي للشاعرة عائشة البصري عن علاقة الزمن بالوجود، يكشف بجلاء النواة الأساس في مجمل قصائد هذه الأنطلوجيا، نواة تمنحنا مدخلاً قرائيا، إذ تبدو دومًا بين الخفاء والتجلّي في الإيحاء الرمزي لقصائد الشاعرة. وما يميِّز هذا الإيحاء كونه يعثر في اليومي على تعالقٍ تعبيري، بينما يجد في الضباب والصحراء والمرآة اِستعاراته المفضّلة le metafore privilegiote يتأسس البعد التخييلي لهذه القصائد على جدلية دائمة، وما إن تتخفَّفُ من التفاعل القائم بينها حتّى تستقيم في تركيبٍ تعبيري متنوِّّّّّّّّع. العمق القوي للإحساس المحتدم في الجزء الأول من هذه الأنطلوجيا يمحو كل حدٍّ فاصِلٍ بين الكلمة والشيء، بين الإنسان والطبيعة عبر منفذ استعاري دائري يصِلُ الغرفة بالصحراء والضوء، كما يصل العتمة والجسد بالقصيدة، كي يتجدّدَ باستمرار في دفق نادر. في قصائد «عزلة الرمل» مثلا تفقد الطبيعة كل إيحاء مادّي وتاريخي، لتصبح فضاءًا وتعالقًا للروح، إنها بناءً على هذا التحوّل «كاهنٌ يلوكُ صلواته/على صفيح ساخن» بينما يتَّخِذُ الضوء شكل سيدة ل « يُلملم أهدابه / في حقائب الظلمة». في الجزء الثاني من الأنطلوجيا ثمة إحساس حميم وصريح ينهض بوضوح على قراءة تفاصيل اليومي الموجعة، انطلاقًا من ألَمٍ يتآخى مع العشق، واِنطلاقًا أيضا من تيمتيْ العزلة والتيه الوجودي، تيمات تنشئ في تفرّد خارق ورِقة موسيقية صوّرًا شعرية مثيرة. في قصيدة «ذكريات» تكشف الشاعرة عائشة البصري بأبيات راقية عن عمق ألم الذكريات: «الذكريات التي واريتهَا الثرى، اِقتحمت خلوتنا الليلة، ودون اِستئذانٍ شطّرت سريرنا نصفين» كما أن الصور غالبًا ما تفقد الإحالة على خاصِّها لتتمَدَّدَ في رمزية رفيعة بغية البوح بحالةٍ إنسانية عامة: «ألا اسحبي الجثةَ من نهر الطفولة ، انزعي الخنجر من بين الضلوع». تفصح شعرية عائشة البصري عن مسَارٍ يختزل المسافة بين اللغة والحياة، فالشعر بالنسبة لها لم يكن يومًا مجرّد سن قواعد للأحاسيس، بقدر ما هو شغف تستثمره في مواجهة الموت والحياة بالاستناد إلى معان جديدة في اللغة واصفة السفر الجسور للكلمة الشعرية التي تلامسُ هاوية الموت «رائِعٌ عبورك في المرآة». أمام سرِّه العصي على السبر يجبرنا الشعر على التوقّف والتأمل: «سَأغلق النّص على عتمته / كي لا يسيح الرمل بين الشقوق» لينبعثَ عنيدًا في اِستدعائنا للكتابة ولو عَبِْر» بقايا أصواتٍ أَرَّقها الحنين إلى الآتي»