لا نجد في ديوان «ليلة سريعة العطب» عالما متحققا، بل عالما شعريا وهو بدوره غير موجود لأن الأوضح والفعلي هو الطريقة الشعرية في التعبير عن العالم. وهي أبعد أن تكون هلامية، مادامت تعمق من شعرية كينونة تتجلى بوضوح في رؤى القصائد. هذه «الأنا» كما يشير اتيان سوريو «شاعر جوهري ومطلق» أي أنها «صورة شاعرة مصاغة شعريا تمزج بصورة قارئ. هذا الأخير يلج إلى مكان استعاري «معد له» ليشارك في رؤية القصيدة وإيحاءاتها. وعن «تلك الوحدة المفقودة» يتجه الشعر لبناء عالمه، لعله صور مجزأة في «ليلة سريعة العطب». تسع عشرة قصيدة زينت ديوان الشاعرة عائشة البصري «ليلة سريعة العطب»، كي تكون في المجمل جسرا مجازيا لتخطيط تفاصيل «أعطاب العالم» والعطب هنا لا ينجلي كصفة آلية بقدر ما يعبر عن «كساد هذا العالم» والذي لا يستطيع تحمل صوت شاعرة تحاول عبثا إعلان وجعها وخيباتها في تماهي مع عالم مليء بالأعطاب. «أحلام قصيدة» الديوان تتعدى أن تكون صورا أو بناء تركيبيا، بل هي أفق القصائد ككل لذات اختارت الوحدة والعزلة كي تعيد صياغة هذه الرؤى. يعيش القارئ قريبا من صوت الشاعرة، لكنها تبني فعلا وجوديا تشييده استعارات ورؤى وتعلنه لقارئ حميمي للأفكار كي يعيدا معا نسج عوالم «عزلتهما» المجازية بعيدا عن أعطاب الزمن. والأعطاب هنا، وجع بميسم مركب. وجع الحياة وإيقاعها. وجع من الصدفة ومن هيولى المستقبل، ووجع الذات من كبوات أرقتها الأزمنة والآمال. وحين تتجه هذه الذات لأن تخلق مسافات قصية لشجنها كي تكون: «عزلة الرمل برهبانيته حيث يعيش بلا ذاكرة، وهنا تمسي الذات أشبه بصمت الصحراء كي تتجلى كنقاوة الصحو/عزلة الرمل ص7. وحين تأمل الشاعرة «لو كانت قصيدة»/ص58، فإنها تملأ «التعريف» بأن تختار تشييد عالم اللغة هو أشبه ب»صمت الصحراء» وهنا تتحول الذات إلى نداء داخلي مسكون بأسئلة القصيدة. إذ تصيغ كينونتها/استعارة كبرى وتقدم توصيفا بليغا «لقصيدتها الأثيرية» لعلها تسكت هذا الوجع، ويتجاوز «العالم أعطابه المستمرة» «لا سماء لي غير هذا القصيد»/ص60. غير أن القصيدة ذاتها لا تحمل لهذه الذات أي أمل في تجاوز حالات الوجع، ففي النهاية «تصدأ اللغة، ويتعفن الصمت»/ص62. لكن ما تشتهيه هي يتجلى في أحلامها.. كأن أكون شاعرة أحمل بشارة فرح، أزوق الكلام بألوان الربيع دون أن يمشط الحزن مجازاتي»/ص81. ولأنها شاعرة ولا «تنتظر أحدا»/ص84، ولأن العالم «شرب نخب الحياة»/ص87، وتركها وحيدة. تعيد القصائد صياغة وجع شاعرة في العزلة والوحدة، لأنها المكان الصوفي الذي تستطيع من خلاله هذه الكينونة أن تعيد صياغة وجودها ولو أنه اختيار مجازي إذ الحياة في اللغة رهان بديل عن هذا العالم المليء بالأعطاب. لعلها الصورة الأمثل التي تقترحها الشاعرة كعالم بديل، عالم يتحقق فقط في القصيدة. في الكتابة عموما، لا كعالم للمثل بل هو أشبه ما يكون بمزار صوفي لإخفاء الألم وللتطلع الى تلك الكينونة الأبعد عن التشكل. ما تشتهيه الذات كبديل عن حياة مليئة بالأعطاب، يصبح استعارة في اللغة بل الاختيار الأوحد. ولأنها لا «تنتظر أحدا» بحكم أنها مقيمة في المنتهى/القصيدة. فإن قصائد الشاعرة عائشة البصري تتحول إلى ما يشبه العلاج بالكتابة من العالم. في قصيدة الشاعرة عائشة البصري يكبر حجم الخسارات، وتتجه الذات إلى «أحلامها» كي تعلن «عالما» بحجم قلب طفلة، ضدا على الخراب والغياب ونكاية بالخسارات وخيبات هي المضامين الدلالية الجامعة لأعطاب العالم. ولأنه اختيار شعري تتحرر قصائد «ليلة سريعة العطب» من الغلو في الاستعارات، إذ لا قدرة «للبلاغة» في إخفاء كساد هذا العالم، لذلك تتجه قصائد الديوان إلى صياغاتها السلسة بتراكيب ورؤى أقرب إلى حس التلقي، وهو ما يشكل إشراكا واعيا للقارئ في بناء نص شعري هو أقرب لضائقته.. لست في انتظار أحد ليفتح لي باب الشمس كل صباح أو يعلق لي قمرا في شرفة المساء لو صادفتموني واقفة في العراء فلست في انتظار أحد/ص84.