ظلت أزمة السير والجولان ومعضلة النقل والتنقل، على مدار سنوات مشكلة تؤرق بال القائمين على هندسة خريطة العاصمة الاقتصادية، وواضعي السياسات العمومية الكبرى للبلاد. فالدارالبيضاءالمدينة المليونية كانت تزداد شساعة مساحتها على الأطراف مع توالي الأيام، ازدياد فاقه نمو للكثافة السكانية كذلك، مقابل «انحسار» في قلب المدينة النابض وأهم شرايينها، حيث انتقل الحديث عن بلورة مشروع للخروج من هذه الأزمة من مجرد فكرة ومجسم، إلى خطوة عملية مع مايرافقها من أشغال ميدانية، فكان أن تقرر إحداث «الترامواي». الفكرة «الوردية» التي رافقت إحداث المشروع، والتي لقيت تجاوبا لدى بعض المواطنين، لم تجد صداها الطيب لدى البعض الآخر، سواء من مستعملي الطريق أتعلق الأمر بالعاملين في مجال النقل كما هو الحال بالنسبة لعدد من سائقي سيارات الأجرة، أو بالنسبة للمواطنين بشكل عام، وكذلك الأمر بالنسبة لعدد من المهنيين والتجار الذين حكمت أشغال «الترامواي» على تجارتهم بالبوار وطال سلعهم الكساد، بكثير من النقاط المرورية ومن ضمنها، شريان أساسي وتاريخي وهو شارع محمد الخامس. تجار ومهنيون مع وقف التنفيذ تتواصل الأشغال على قدم وساق بشارع محمد الخامس انطلاقا من تقاطعه ومحج الحسن الثاني، بوتيرة متفاوتة عن تلك التي يعرفها المقطع المؤدي إلى شارع الحسن الصغير، أو صوب شارع المقاومة، أو في اتجاه مدارة آل ياسر بشارع «إيميل زولا»، إذ تشارف الأشغال على الانتهاء في المقطع الأول إلى غاية مركز البريد، حيث ماتزال أشغال الحفر جارية عند هذه النقطة، ثم تتوقف لمساحة بسيطة جدا في الجزء المقابل للسوق المركزي عند بقايا فندق «لينكولن». دينامية بالنسبة لجزء، وتعثر بالنسبة لباقي الأجزاء، لم تمنع الأصوات الساخطة من الوضع الذي آل إليه هذا الشارع من الاستمرار في الارتفاع، فهي لم تعييها الأيام التي قضاها عمال الشركة هناك، بقدر ما أعيا أصحابها حالة الفوضى، والأتربة، وكثرة الضجيج، والعرقلة، وركود الحركة التجارية، ولم تعد لهم من أمنية سوى أن يمسوا ويصبحوا فلا يجدوا أمامهم حجرة واحدة، ولا «تلا» رمليا، أو عاملا بصدريته الخضراء او البرتقالية، بقدر ما يتوقون لرؤية الحركة الاعتيادية والروح التجارية تعود إلى الشارع المعلمة، الذي وإن تبدلت أحواله، إلا أنه بالنسبة لعدد ممن التقتهم «الاتحاد الاشتراكي» بعين المكان، أهون من هذا المنقلب الذي انقلب إليه؟ محلات أغلقت، وأخرى وإن هي فتحت أبوابها فذلك كعدمه، في حين عوضت أكسسوارات التزيين التي ظلت تؤثث محلات هذا الشارع، القطع الكارطونية وأخرى عبارة عن عشب بلاستيكي بسطت أمام أبوابها، من أجل استعمالها كموطئ قدم لزبائن محتملين من أجل ولوج هذه المحلات، من أجل محاولة تفادي اتساخ الأحذية والملابس أو تقليص نسبتها على الأقل، وحتى لايتم نقل ما يوجد بالخارج إلى الداخل وإن هي ولجتها بالفعل دونما استئذان، في حين «تسلح» أصحاب المحلات أنفسهم أو بعض العمال بمكنسات يدوية وكميات من الماء لرشه على الأرضية وكنس الأتربة التي تعج بها ! شارع محمد الخامس.. الوجه الآخر تعطيل حركة السير والجولان بشارع محمد الخامس من أجل تهيئته وإعداده لاحتضان سكة «الترامواي» ومحطته، جعل هذا الشارع يلبس لباسا آخر، إذ أغرت المساحات الفارغة منه تجارا غير التجار الأصليين الذين نزحوا إلى هناك من أماكن متفرقة، البعض منهم ألف المارة رؤيتهم بممر الأمير مولاي عبد الله أو بجنبات السوق الكبير، في حين كان هناك أغراب ليسوا فقط من المغاربة وإنما حتى من الأفارقة من دول جنوب الصحراء، الذين استهوتهم «الفرّاشة» بدورهم وفضلوا بسط سلعهم وعرضها على المارة من أجل البيع. عطور، حقائب جلدية، أحذية، ربطات عنق، ألبسة رياضية وغيرها، مستلزمات الهواتف النقالة، مناديل ورقية وسجائر، والتسابيح الافريقية، وأعواد الأرك ... وما دون ذلك، هي بعض من السلع المعروضة للبيع بشارع محمد الخامس، التي أصبحت تنافس العلامات التجارية العالمية للملابس التي كانت إلى وقت قريب تميز واجهات معظم المحلات التجارية هناك، إلا أن الحال أصبح غير الحال، وانقلبت الأمور رأسا على عقب، يقول «محمد» صاحب أحد المحلات التجارية، الذي أضاف قائلا ونبرة الأسى والحسرة تكسو كلماته/تعابيره، «أصبحنا نفتح أبواب المحلات صباحا ونغلقها مساء فقط لنتأكد أننا مازلنا أحياء»، حياة تراها «سعاد» بتفاصيل جامدة، ترهن الجميع في وضع الانتظارية! الباعة المتجولون ليسوا لوحدهم من يساهمون في تأثيث الشارع، فهناك المتسولون الذين يقتعدون الأرض، وأيضا المشردون الذين تتكوم أجسادهم في أنحاء متفرقة من جنبات الشارع، في حين لم يخل الشارع من أطفال صغار، يركضون هنا وهناك وسط الأتربة، وعمال الشركة والمعدات، وبين الباعة المتجولين، يلهون ويمرحون في شغب طفولي غير عابئين أو مستوعبين لما يدور حولهم، بينما كانت رائحة البن تفوح في المكان، تصدر عن إناء قصديري/«مقراج» يحمله شخص ويطوف به وسط المارة والباعة، عارضا بيع الكأس البلاستيكي بدرهم واحد، «قهوة» تغري رائحتها الممزوجة ب «الزعتر» جموع المتواجدين بشارع محمد الخامس، الذين لايتوانى بعضهم عن طلب كأس منها مرفوقة بلفافة سيجارة وإن كانت هذه الأخيرة ضارة، علها تساهم في تدفئة جوفهم، في انتظار أن تدفأ جيوبهم بدراهم تعينهم على متطلبات الحياة اليومية؟ خلو الشارع من حركة المرور بالسيارات و«الدراجات»، جعل بعض أرباب المقاهي يحاولون استغلال هذا الوضع من أجل الدفع بعدد أكبر من الطاولات صوب الملك العمومي، عبر بسطها لأمتار متقدمة في محاولة لجلب زبناء إضافيين، بما أن الفضاء الممتد أمامهم هو غير مستغل وإن كان يخلو من أية مسحة جمالية، لعل ذلك يسهم في الرفع من قيمة «الروسيطة» اليومية للمقهى التي تضررت بما فيه الكفاية من أشغال «الترامواي» التي كان لها تبعاتها السلبية المادية والمعنوية. عمال الشركة .. الحكاية الأخرى السواعد التي تشيّد مسار «الترامواي» وتقوم بكافة الأشغال حتى تصبح وسيلة النقل البيضاوية هاته جاهزة في الوقت المحدد الذي سبق وأن أعلنته الشركة، هي لعمال من مختلف الأعمار، ينحدرون من مناطق متفرقة من المغرب، من سلا، القنيطرة، ومن شمال وجنوب المملكة، استقروا خلال هذه المدة بالعاصمة الاقتصادية حيث اكترت لهم الشركة محلات للسكن بمنطقة عين السبع وذلك منذ 14 يناير من السنة الفارطة، منهم العازب ومنهم المتزوج، ومنهم من يعول أطفال وإخوة ووالدين ... وآخرون. ينطلق عملهم من الساعة السابعة والنصف صباحا إلى غاية الخامسة والنصف مساء، يتقاضى منهم «لمعلم البناي» 13 درهما كمقابل عن العمل للساعة الواحدة، بينما المساعد أو «المتعلم» يتقاضى 234 ريال، أي بفارق يبلغ 130 فرنكا. ويأخذون وقتا للراحة لتناول الغذاء الذي يقتنونه من «باب مراكش» أو من جنبات «مارشي سنطرال»، وهي الوجبة التي يكون لها تأثيرها على الأجرة اليومية، إلا أنه ومع ذلك فالعمال لايبدون أي امتعاض بهذا الصدد، باستثناء ذلك المرتبط بوسيلة النقل التي تقلهم صباح مساء، والتي يقول بعضهم بأنها تفتقر للمواصفات الآدمية لنقل بني البشر، فهي لاتصلح لنقل أي كائن حي كيفما كان نوعه، علما بأنها لاتعكس السعر المكتراة به لنقل ما بين 15 و 20 عامل يوميا ، والانتقادات الموجهة إلى ظروف الاشتغال ووسائل العمل؟ حديث العصرنة والبدونة، في ترامواي «محمد الخامس» المعدات سواء منها الثقيلة أو الخفيفة المستعملة في أشغال «الترامواي» بشارع محمد الخامس تغري بالتأمل بدافع الفضول لمعرفة الوسائل المعتمد عليها في إنجاز هذا المشروع الضخم، وهو ما يقف عند تفاصيله المارة، الذين قد تتغير الصورة لديهم، عندما يعاينون بأن الشركة التي تشرف على أكبر مشروع في العاصمة الاقتصادية، هي تزاوج بين العصرنة والبدونة في معدات الاشتغال، ولاتجد حرجا من أن تجاور الآليات الحديثة والعصرية أخرى بدائية، قد تكون استعملت فجر التاريخ، ومن بينها ما عاينته «الاتحاد الاشتراكي» من محاولة عاملين، في غفلة منهما، تشغيل آلة حديثة هي من معدات البناء وإعداد الرصيف، وذلك باستعمال قطعة خشبية مربوطة بقنب بلاستيكي، ظلا يتناوبان فيما بينهما عليها لعل احدهما يتمكن من تشغيل تلك الآلة، إلا أن مجهوداتهما ذهبت سدى، مما أدى إلى نرفزتهما، معتبرين أن في الأمر ضياع للوقت والجهد، قبل أن يقررا معا تركها أرضا واستبدال ساعة بأخرى! سؤال الجودة والمعايير في أكسسوارات «الترامواي»؟ إلى جانب القطع الحجرية التي ترافق خطوط سكة «الترامواي»، فإن قطعا أخرى تم تصفيفها من أجل إعداد جانبي الرصيف، إلا أن الملاحظ أن بعض هذه القطع وعند التأمل فيها بدقة ومعاينتها يتضح أنها رخام صرف، سيمنح الشارع وجنباته المتانة والصلابة المطلوبة في مشروع يجب أن يتسم بالديمومة والاستمرارية لسنوات ليست بالهينة، في حين أن قطعا أخرى هي «جنيسة» للرخامية من حيث الشكل، لكنها بعيدة كل البعد عن الرخام وصلابته، وهي التي تم تأثيث الرصيف بها، الأمر الذي يطرح معه أكثر من سؤال حول الجودة والمعايير المتوفرة في هذه المواد المستعملة من أجل «تبليط» أرضية الشارع، التي يتضح وبشكل جلي أنها لن تدوم طويلا وستكون عرضة للكسر والتلف في أولى مراحل عمرها؟ الشارع/«المقبرة» .. أشغال إنجاز خط «الترامواي» حولت شارع محمد الخامس وجنباته إلى شبه مقبرة لمختلف أنواع النفايات، سواء تلك التي تتشكل من القمامة المنزلية أو غيرها من المخلفات والبقايا، أما المسامير، والأسلاك الحديدية، والأنابيب البلاستيكية والقطع الخشبية فقد أضحت تؤثث ماتبقى من أرصفة المكان، شاهدة على «غزوات» معدات الشركة وعمالها، في مشهد زاد من تشويه المكان وأضاف إليه قبحا من نوع آخر؟ احتضان الشارع لمجموعة من الحفر بعدد من النقاط على امتداد مساحته، وتسييجها بألواح حديدية لم تمنع أطفال المنطقة من أن يجعلوا منها فضاء للعب والمرح، ينطّون ويقفزون بين جنبات هذه الحفر ووسط أكوام «الردم»، يمرقون هرولة على الألواح الخشبية التي تربط هذه الجهة بتلك، غير عابئين بالأخطار المحتملة التي ينطوي عليها لهوهم والتي قد تؤدي إلى مالاتحمد عقباه، سيما في ظل غياب أية حراسة وذلك خلال فترة المساء بعد انصرام وقت العمل، مما يجعل من المكان عنوانا للخطر، الذي لم يسلم منه حتى عمال الشركة أنفسهم الذين مايزالون يحتفظون بتفاصيل الحادثة التي تعرض لها أحد زملائهم في وقت سابق، والتي أدت إلى بتر قدمه نتيجة للحظة من اللاانتباه التي عرضتها عن طريق إحدى الآليات للتلف. «الترامواي» مسار طرقي بميزانية استثنائية تبلغ كلفة إنجاز خط «الترامواي» 640 مليار سنتيم موزعة على عدة جهات، إذ ستساهم الدولة بمبلغ 1.2 مليار درهم (120 مليار سنتيم)، والمديرية العامة للجماعات المحلية بوزارة الداخلية 1.5 مليار درهم (150 مليار سنتيم)، مجلس المدينة وشركاء آخرون 900 مليون درهم (90 مليار سنتيم)، بينما سيساهم صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ب 400 مليون درهم (40 مليار سنتيم)، على أن تعبأ 2.4 ملايير درهم (240 مليار سنتيم)، من خلال قروض مضمونة من طرف الدولة والجماعات المحلية. وسيمتد خط «الترامواي» على مسافة 30 كيلومتر، تتوقف خلالها عرباته ب 47 محطة، ومن المفروض أن تدوم مدة الرحلة 50 دقيقة من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوصول، بسرعة تقدر بحوالي 20 كلومترا في الساعة، ووفقا للبطاقة التقنية للمشروع، فإن حمولته ستتسع ل 250 ألف راكب خلال «رحلاته» اليومية، التي من المنتظر أن تبتدئ في الساعة الخامسة والنصف صباحا إلى غاية العاشرة ليلا، خلال أيام الأسبوع، وتمتد إلى غاية العاشرة والنصف ليلا عند نهايته، وستنطلق عربات «الترامواي» من منطقة سيدي مومن، مرورا بشارع عقبة، ويوسف بن تاشفين، والحي المحمدي، ومحطة البيضاء للمسافرين، فشوارع محمد الخامس، والحسن الثاني، وعبد المومن، ومكة، وصولا إلى مدارة الكليات، إلى جانب خط فرعي يمر عبر أنوال وعمر الخيام والقطب أنفا والحي الحسني. حياة معلقة إلى حين تتواصل أشغال خط «الترامواي» بكافة تفاصيلها الدقيقة بمختلف شوارع العاصمة الاقتصادية في انتظار وصول الموعد النهائي الذي حدد سلفا في 12 دجنبر 2012 كموعد لانتهاء الأشغال وحتى يكون جاهزا لاستقبال المواطنين/الركاب، وهو الموعد الذي يتساءل بخصوصه عدد من المواطنين وكذا التجار والمهنيين، مخافة أن تتجاوز محنتهم هذا السقف الزمني، في الوقت الذي أكّد فيه مصدر من الشركة المكلفة بإنجاز المشروع على أن الأشغال هي في مرحلتها الأخيرة، وبأن قاعدة الخط الحديدي تم وضعها حاليا على 90 في المائة من مجموع الخط، مبرزا أن الأشغال الرئيسية الجارية حاليا تهم تجهيز مفترقات الطرق، والتجديد الحضري، وتزيين المدينة، مضيفا بأن أشغال التهيئة الحضرية تشمل على الخصوص إعادة تصميم الطرق، وتجديد وتوسيع الأرصفة، وزرع النباتات، وتجديد الإنارة العمومية بصورة عامة، وكذا تجديد شبكات التطهير، وهي الأشغال التي تمتد على طول خط «الترامواي»» أي مايعادل 90 هكتارا من مساحة العاصمة الاقتصادية التي ستتم إعادة تهيئتها بالكامل. وفي انتظار تحقيق ذلك أو أن تؤكد قادم الأيام عكس هذه التصريحات/المتمنيات، فإن المحنة تظل قاسما مشتركا بالنسبة لعدد من المواطنين، سواء بشارع محمد الخامس «نموذجا» أو على صعيد عدد من شوارع المدينة، التي باتت «مشلولة» في انتظار عودة الحياة إليها.