يعتمد عدد من الدول، وحتى الديمقراطية منها، على سلوك سياسة الغموض والتعتيم، فيما يتعلق بأجهزتها الأمنية، ملتجئة إلى التكتم وحتى التضليل أو وضع كل أجهزتها الأمنية في مصاف الأسرار والمحظورات البعيدة عن أنظار العامة، دون رقيب أو حسيب . إلا أن الأمر مختلف نسبياً في بلجيكا. فقد أصدر جهاز «أمن الدولة» البلجيكي هذا الأسبوع (وهو جهاز المخابرات المدنية)، تقريره عن نشاطه سنة 2010 تحضيراً لاستكماله بتقرير عن 2011 منتظر صدوره في يونيو المقبل. وهو ثالث تقرير سنوي يصدره هذا الجهاز، في سياق الشفافية التي يسير عليها منذ سنة 2008 معبراً عن تأكيد رغبته في الانفتاح على العموم في ظل القانون واحترام الحريات اثناء ممارسة الجهاز لمهامه في جمع المعلومات وتحليلها «لحماية الدولة والمواطن والنظام العام». وإذا كان واقع هذا الانفتاح وهذه الشفافية، لا ينطبق على «القسم العام للاستخبارات والأمن» (وهو جهازعسكري)، لعدة اعتبارات، فإن الرأي العام البلجيكي لا يجد حرجاً كبيراً في هذا النقص الأخير، ذلك أن كلا الجهازين يخضعان لمراقبة خارجية صارمة. فهناك لجنة قضائية مستقلة «لجنة R » تتابع أنشطة «أمن الدولة» بما في ذلك ملفاتها المندرجة تحت شعار «سري جدّاً»، ولجنة متابعة برلمانية لا تجد حرجاً في مساءلته ومحاسبته في سياق احترام أجهزة الأمن والاستخبارات للحقوق الأساسية من طرف، وتأمين التنسيق بينها. تقرير 2010 الصادر عن جهاز «أمن الدولة» البلجيكي، (وهو الثالث من نوعه) لم يشر إلى خطر هدد بلجيكا بسبب مرورها من فترة غياب حكومي دامت 540 يوماً، ولا إلى وجود أخطار الخلاف اللغوي السياسي المنذر بانشطارالمملكة البلجيكية واستقلال إقليم الفلاندر عنها. كما أن جهاز «أمن الدولة» (ويدخل في صلاحيات وزير العدل) لم يركز في تقريره على تأثره هيكلياً بسبب تعرضه لصعوبات إدارية ولوجيستيكية في ظل هذا الجو المتأزم. لا يتضمن التقرير سرّاً، وإذا كان قد أخفى أو التفّ على عدد من المعطيات بحكم مقتضيات أسرار الدولة، فهو لم يبخل على القارئ والمتتبع بتفاصيل مختلف الأنشطة والمهام التي قام بها جهاز أمن الدولة المدني، داخل البلاد (وحتى خارجها) في إطار«حماية أمن المواطنين البلجيكيين» أينما كانوا. وفي ممارسة مهمته «الوقائية»، لم يتخلف «أمن الدولة» عن تتبع التطورات التي يعيشها المجتمع البلجيكي ومحاولة مواجهة مختلف الظواهر المستجدة وإيجاد حلول لإشكالياتها وتعقيداتها «لصالح المملكة البلجيكية وسكانها». في هذا الإطار، كشف التقرير عن عدد من العناصر التي يعتبرها أخطاراً تهدد أمن الدولة، ومجرد قراءة سريعة للتقرير، تفيد أن أجهزة الأمن الداخلي البلجيكي تتخوف من تنامي أنشطة الحركات الإسلامية المتطرفة وتوجه أصابع الاتهام إلى نشاط التيار الإسلامي السلفي، جاعلة إياه في قمة الأخطار التي تشكلها الحركات الأصولية الدينية بشكل عام، على استقرار البلاد، لاعتماده على عدد كبير من الوعاظ والدعاة المنتشرين في كل أنحاء بلجيكا، ومن مختلف الجنسيات. ويعرّف التقرير السلفية بكونها «تياراً إسلامياً رجعياً يهدف إلى التحكم في حياة الأفراد والمجتمع، من خلال قواعد متشددة ... ضد النظام القانوني والديمقراطي.. وضد اندماج المسلمين في المجتمع الغربي» وفي تحليل سياسي اجتماعي، يخلص التقرير إلى أن التطور الذي تعرفه هذه التيارات في الفترة الأخيرة، من شأنه أن يهدد اندماج الجاليات المسلمة في المجتمع البلجيكي وأن يعكر جو التعايش بين مختلف الجاليات التي تعيش في بلجيكا. فهناك الدعاة المسلمون المتوافدون على البلاد من مختلف بقاع العالم، والذين يحومون حول الجالية المسلمة ويغرقونها بخطاب متطرف لم تعرفه قبل. كما أن هناك مواقع إلكترونية تديرها هذه التيارات الأصولية المتطرفة وتتوجه بها إلى الجاليات المسلمة في اوربا وخاصة منها المتواجدة في بلجيكا، ولا تتردد في تحميل خطابها بشحن الكراهية والحقد والعنف، داعية إلى أسلمة بلجيكا باسم الغزو أو الجهاد أو الفتح الإسلامي، وإلى تدمير القيم التي ينبني عليها المجتمع البلجيكي وعلى رأسها الديمقراطية والتسامح الديني والفلسفي. ويذكر التقرير ضمن الأنشطة والوقائع التي يمكن أن تعتبر نماذج وأمثلة لهذا التوجه، موقع إلكترونيا لجمعية تدعى «الشريعة لبلجيكا» وظهور عناصر هذا التيار علناُ على الساحة العمومية آخر العام الماضي وتنظيمهم تجمعاً أمام القصر الملكي وساحة الأطوميوم، ينادي بسقوط وانهيار الدولة البلجيكية الكافرة. وضبط رشاش كلاشينكوف كان بحوزة أحد المتظاهرين. هذا التهديد الإسلامي نجده في صلب الأخطار التي تتوقع أجهزة الأمن تطورها، في اعتماد على الإمكانيات المادية والمعنوية التي يتوفر عليها عناصرها، وعلى ضعف وهشاشة الجمهور الذي تتوجه إليه سواء من الناحية الاقتصادية أو الروحية، إضافة إلى الظروف الدولية التي لا توفر بلجيكا بل تجعل منها قاعدة أمامية أو خلفية لحروب وصراعات معلنة أو خفية.ً فتداعيات الأوضاع بالصومال تجد مكاناً لها في بلجيكا حسب التقرير، والأمن البلجيكي متخوف من تأثير الجيل الجديد لحركة «الشباب» الإسلامية المتطرفة على مكونات الدياسبورا الصومالية في بلجيكا ودفع بعض أفرادها إلى التطرف الديني، على غرار ما يحصل في الولاياتالمتحدةالأمريكية، تحت تأثير الانتصارات التي تحققها هذه الميليشيات في الصومال..ولا بخفي «أمن الدولة» البلجيكي أنه يحمل محمل الجد التهديدات التي وجهتها منظمة «الشباب» مؤخراً بتوجيه ضربة إلى البوروندي وهو البلد الذي ترعاه بلجيكا منذ العهد الاستعماري. ويشير التقرير بهذا الصدد إلى أن شرق والونيا ببلجيكا يعرف اكتظاظاً باللاجئين الهاربين من الصومال ومن إريتيريا وجيبوتي، والمتوفرين على شبكات اتصال هائلة تجاوزت توقع السلطات البلجيكية. كما أن «المجاهدين الوهابيين في إمارة القوقاز» يمكن أن يجدوا لهم ملجأ ودعماً في بلجيكا، وذلك على ضوء الاعتقالات التي أجرتها الشرطة البلجيكية في 23 نوفمبر الأخير والتي أكدت قيام بعض العناصر بتوفير الدعم اللوجيستيكي للمجموعات المسلحة في شمال القوقاز. وقد ذكر تقرير أمن الدولة أن الشيشاني المدعو كوداييف وهو متجنس بالجنسية البلجيكية، متورط في عملية تفجير فندق في كوبنهاغن في سبتمبر الأخير، مما دفع المخابرات الروسية المعنية بالأمر، إلى النشاط على التراب البلجيكي، وهو ما لا تنظر إليه المخابرات البلجيكية بعين الرضى. عموماً، يبدو أن الهم الإسلامي يحتل مكانة كبرى في لائحة هموم جهاز أمن الدولة البلجيكي، حسب مختلف فصول تقرير 2010 أكثر مما أشارت إليه التقارير السابقة، رغم الهدوء السائد بعد الفترة المشحونة بالمداهمات والاعتقالات والمحاكمات والتي استهدفت الأوساط الإسلامية ببلجيكا في العقد الأخير من القرن الماضي. «فالتطرف الإسلامي لن يفقد أهميته في المستقبل... وتطلعات المتطرفين المسلمين وطموحهم الدسني المتصلب، يمارس تأثيراً سلبياً على اندماج المسلمين في المجتمع الغربي...وليس مستبعداً أن يقوم بعض هؤلاء مستقبلاً بالدعوة علانية إلى سلوك طريق العنف، وعدم التردد في ممارسته عملياً» إلى هذه الخلاصة، يضيف التقرير، تبرير ممارسة أجهزته للمراقبة المستمرة والمعمقة التي تجعله على اتصال دائم بأجهزة خارجية لها نفس الاهتمامات ونفس الهموم. وتجدر الإشارة إلى أن «أمن الدولة» يسلط أضواءه حتى على «اللجنة التنفيذية للمسلمين في بلجيكا»، وهي المؤسسة الرسمية المسؤولة لدى وزارة العدل البلجيكية لتدبير الشأن الإسلامي (التعليم - المساجد..) كاشفاً عن أوجه الخلل في هيكلتها ونشاطها: « فهناك قوى خارجية ومجموعة أصولية تدخلت في هيكلة الإسلام المؤسساتي لمحاولة فرض منظورها». وليس سراً ما أشار إليه التقرير بل خبراً من الأخبار التي تتناولها الصحف البلجيكية منذ سنوات، غير أنه لم يذكر المغرب وتركيا بالاسم، علماً بأن الهيآت الدبلوماسية المغربية والتركية لا تذخر جهداً للسيطرة على هذه المؤسسة والتأثير عليها خاصة من خلال فدراليات المساجد الكبرى الواقعة تحت إشرافها، لضبط وتأطير جالياتها تحت شعار الولاء للوطن الأم ومذاهب النظام السياسي القائم فيه. (وتشهد الهيأة هذا الأسبوع احتداد الصراع بين «هوائيات» الرباط وأنقرة وتيار «المجددين» الداعين إلى استقلالية الهيأة من جهة، وتفتحها على النساء والأقليات المسلمة من جهة أخرى. ) موضوعياً، يكاد تقرير جهاز الأمن بوازي بين الخطر الذي تشكله الحركات الإسلامية المتطرفة، والخطر الذي يشكله تطور التيار اليميني البلجيكي المتطرف، في ربط غير مباشر بينهما، كسبب ونتيجة. فالحركات السياسية اليمينية تجد في الأزمة الاقتصادية التي تعرفها البلاد، كما في الأنشطة الإسلامية الأصولية والمتطرفة، عناصر تعتمد عليها في سياستها القائمة على الإساءة إلى الإسلام والمسلمين، وحقلا خصباً لتطوير إيديولوجيتها العنصرية. على أن التطرف الإسلامي لم يكن وحده الخطر الديني الوحيد الذي أشار إليه تقرير أمن الدولة بأصبع الاتهام، فتنامي الدعوات المشبوهة بغطاء الإنجيلية هو الآخر محط اهتمام أجهزة الأمن البلجيكية، حيث أشار التقرير إلى نشاط طائفة «الكنيسة الكونية لملكوت الله» وطائفة «مون» و«شهود يهوفا» وانتشار فروعها في البلاد، ومجموعة «الأرض والشعب» وتيار «بلجيكا والمسيحية» ومجموعة «الدم والشرف» التي شكّلها النازيون الجدد... وكلها حركات تكفي معرفة اسمها وشعارها للتعرف على توجهاتها ومدلولها، وعلى أساليبها للاستقطاب والتأطير، للوصول إلى أهداف قد تكون مضرّّة بالأفراد والمجتمع على المدى القريب أو البعيد، ومن ثم تظهر مشروعية اهتمام أمن الدولة بها ومتابعتها عن كثب... والتدخل إذا اقتضى الحال، بوسائل خاصة تظل مشروعة، كالتسلل والتلغيم والتحكم غير المباشر فيها. كما لاحظ التقرير أيضاً تنامي المجموعات الدينية المنغلقة أو المفتوحة كالطوائف والزوايا وانتشار المشعوذين ودعاة التداوي بالسحر والوسائل غير القانونية والاعتماد على الخرافات، وكشف عن تتبع عناصر الأمن لعدد من هؤلاء. وعلى عكس التقارير السابقة، في باب الأخطار المهددة للأمن العام بشكل أو بآخر، لم يتضمن التقرير الأخير أي إشارة إلى الأحزاب السياسية اليمينية أو اليسارية، ما عدا تلميحاً إلى «حزب العمل» اليساري المتطرف، والذي سجل اختراقاً مشهوداً في الانتخابات الأخيرة، بسبب «خطابه القريب من هموم الناس وحياتهم اليومية»، أو تيارات القوضويين أو اليساريين المتطرفين الذين سجل التقرير تراجعهم عن أطروحاتهم ومراجعتهم لمواقفهم، باسم الواقعية والتطور والمردودية، إلى غير هذه الهموم الأمنية السياسية، تعرض التقرير إلى مهمات حفظ أمن ضيوف بلجيكا ممن زاروا البلاد سنة 2010، معدّداً إياها ومفصلاً لها، ذاكراً أن فترة عمل عناصر الأمن في هذا الإطار، بلغت 94404 ساعة، استغرقتها حماية 42 رئيس دولة و6 وزراء خارجية وحماية البعثات الدبلوماسية الدائمة. خلاصة القول أن «أمن الدولة» البلجيكي لا يرى في نشر تقريره السنوي أي عنصر يمس بالأمن الوطني، بل وسيلة لتحليل عمله ونشاطه بغية تحسين أدائه، خاصة وأن التقرير سيعرض للنقاش البرلماني، يغية الكشف عن الثغرات الأمنية، وتعزيز حريات الأفراد والمجتمع.. في ظل استقرار أمني.