«اقترح على الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي حاليا-م) المشاركة في الحكومة في شهر مارس 1965. أجبنا حينذاك أننا نريد رئاستها حتى نتمكن من تحمل المسؤولية الكاملة في إدارة الشأن العام». هذا ما كشفه القائد الاتحادي الراحل سي عبد الرحيم بوعبيد في حوار لم ينشر قيد حياته. وبالفعل، فالحوار الذي نقترح ترجمته على القراء، أجرته «ماروك أنفورماسيون» مع الفقيد الوطني الكبير سنة 1966، لكنه لم يعرف طريقه للنشر نظرا لمنع العنوان المذكور من طرف السلطات في شهر ماي من نفس السنة. وقد رسم سي عبد الرحيم، ضمن هذا الحوار، لوحة بانورامية لأوضاع مغرب ما بعد أحداث مارس 1965 سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، مثلما شرح مطالب الاتحاديين في مجال الإصلاح الدستوري والمؤسساتي والإداري. يومية «او فيت» عثرت على نص الحوار ونشرت مقتطفات طويلة منه في عددها المؤرخ ب 13 / 15 يناير الجاري، وقد اعتمدنا عليه في هذه الترجمة. } هل اقترحت عليكم المشاركة في الحكومة بعد أحداث مارس 1965؟ بالفعل، اقترح هذا على الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي حاليا-م) في شهر مارس 1965. أجبنا حينذاك أننا نريد رئاسة الحكومة حتى نتمكن من تحمل المسؤولية الكاملة في إدارة الشأن العام. لكن المكونات الأخرى للمعارضة لم تتصل بنا، في ذلك الوقت، لنتفاوض جميعا حول إنشاء حكومة تحالف لم يكن الاتحاد سيتمسك ضمنها بالوزارة الأولى بالضرورة. } خلال مفاوضاتكم مع القصر، هل بالإمكان الإفصاح لنا عن الشروط الأخرى التي وضعتموها للمشاركة في الحكومة؟ طرحنا أولا مبدأ مراجعة الدستور الحالي (دستور 1962 -م)، وهو المبدأ الذي وافق عليه الملك. وتمسكنا، في المستوى الثاني، بضرورة إدانة الظروف التي أحاطت بالانتخابات وإقامة البرلمان (برلمان 1963 -م)، وهو ما حصل. أما بالنسبة للجانب الاجتماعي والاقتصادي، فقد اقترحنا برنامجا مستمدا من بعض الأفكار الرامية إلى تحسين توزيع الناتج الوطني، من دون أن نذهب إلى حد اقتراح تصورنا الاشتراكي. هكذا، عرفت الأفكار التي اقترحناها ضمن مذكرتنا الثانية للملك بداية تطبيقها، باستثناء طلبنا بتكوين حكومة يسارية يسيرها الاتحاد الوطني والاتحاد المغربي للشغل. وبالطبع، فإن مذكرتنا تضمنت نقطا تفصيلية أخرى. يبقى أن تجربة من ذلك القبيل كانت تبدو لنا ممكنة في تلك الحقبة. وبالمقابل، فإنه لم يعد يبدو لنا ممكنا المشاركة ضمن تشكيلة حكومية تخلط في صفوفها هيئات سياسية مختلفة. هذا ما لن يوافق عليه أطرنا ومناضلونا لأنهم لا زالوا يتذكرون جميعا تجربة سنوات 1958- 1960، حين كانت حكومة عبد الله إبراهيم هدفا دائما للتخريب المتعمد من طرف بعض الوزراء. } يبدو أن الشرخ القائم بين الشعب والحاكمين يولد تدريجيا نوعا من اللامبالاة في صفوف مختلف فئات الساكنة. هل تعتقد أن الاتحاد الوطني، وهو في صفوف المعارضة، يتحمل جزءا من المسؤولية في هذا الوضع؟ لا أعتقد أن اللامبالاة موجودة. إنه وضع تتمناه الأجهزة القمعية أكثر من غيرها. ليس هنالك انشغال لهذه الأجهزة غير «تهشيمنا» لأننا نمثل تجسيدا لتطلعات فئات واسعة من الشعب. حين يشهد الشعب ويتأكد من أن اللغة الممارسة في البلاد تأخذ أكثر منحى المواجهة وأن الديمقراطية اختفت تماما (انظروا إلى أحداث مارس 1965 التي لم يتم أثناءها التردد في إطلاق النار على الأطفال)، فإن هذا يؤدي بالضرورة إلى تولد نوع من اللامبالاة لدى البعض، ذلك أن هؤلاء يتساءلون إن كان بإمكان اليسار الاستمرار وتطبيق مبادئه يوما عن طريق النهج الديمقراطي. إن العمل النفسي الذي تقوم به قوى القمع يعتمد كثيرا على بزوغ مثل هذه العقلية. والقمع، الذي يتخلله بين الفينة والأخرى انفتاح نسبي، يهدف بالضبط إلى إرهاق الشعب وامتحان مناضلينا. وتتمنى هذه القوى، بفعل هذا، الاستمرار في الحكم لمدة عشر سنوات أو عشرين سنة بدون معارضة، مستلهمين التجارب الإسبانية والبرتغالية حيث تعرض كل رد فعل ضد السلطة للاجتثاث تقريبا. } تم الحديث مؤخرا عن احتمال تشكيل حكومة من حزب الاستقلال والاتحاد المغربي للشغل. إلى أي حد لا يعتبر تحالف من هذا القبيل مدخلا لعزل الاتحاد الوطني؟ لا، بل إننا قلنا للاستقلال بأننا قد نضمن لهم مساندتنا في حالة تمكنهم من تشكيل حكومة بمعية الاتحاد المغربي للشغل على أساس برنامج مقبول. نحن في وضع جد مريح. } باستحضار التجارب السابقة، هل تعتقد موضوعيا أنه بالإمكان الاستمرار في الرهان على التناقضات القائمة في أوساط الحركة الوطنية؟ أم تظن، بالمقابل، أن الوعي الشعبي والضغوط الممارسة من طرف القواعد تحد كثيرا من هامش التحرك والتسوية المتاح للأحزاب السياسية؟ أعتقد بالفعل أن هامش التحرك أصبح محدودا، وذلك رغم أن مخيلة البعض تزخر بالخصوبة. لنقل إن الأمور صارت تتسم بالوضوح اليوم، وإن الاختيارات غدت أكثر بساطة: إما سنعود إلى شكل من أشكال الديمقراطية وإما سنصل إلى حكومة عسكرية. وللأسف، فنحن نمضي في هذا الاتجاه الأخير مع تعيين عدد من أطر الجيش في مسؤوليات حكومية. } هل تعتقد، بالنظر إلى الواقع الحالي، أنه من الممكن فصل السلط بين السلطة التشريعية والتنفيذية؟ يتعلق الأمر في هذا الموضوع باختيار يجب الإقدام عليه؛ فإما ستظل الملكية إقطاعية مع كل النتائج المحتملة لاختيار من هذا القبيل؛ وإما ستتكيف مع العالم المعاصر. ومن جهة أخرى، فنحن لا نطالب بملكية على النمط الإنجليزي أو الاسكندنافي، إننا جد بعيدين عن هذه النماذج لكنه من اللازم إقامة نظام جدي. من الواجب، قبل أي شيء آخر، أن تكون هناك حكومة تستطيع تحمل مسؤولياتها أمام الرأي العام الداخلي والدولي. ويجب أيضا احترام نوع من التراتبية في القيم. يجب احترام الوظيفة العمومية. والواقع أنه لم تبق اليوم هناك إدارة، ولم تبق هناك جدية في تسيير الشؤون العمومية. لن يكون على رئيس الدولة التدخل إلا في حالات استثنائية وحول قضايا تهم المصلحة العليا. وعبر هذا، ستستمر الملكية في تجسيد استمرارية مؤسساتنا ودوام تاريخنا وتقاليدنا، وتضطلع بدور تفوق أهميته بكثير ما تستطيع القيام به مجرد رئاسة دولة. } كيف يمكن إجراء مثل هذا التغيير؟ إذا كان الشعب يمثل قوة ما، فليس بإمكانه التنظيم بعفوية. يجب أن تقود الأطر، بالضرورة، كل عملية تطور، أطر منبثقون من الشعب يستطيعون فهم مشاكله. المحزن أننا نعاين، في هذا البلد، استقالة للأطر. هناك عناصر تتمتع بكفاءة عالية، لكنه يبدو للأسف كأنها استقالت بسبب هيمنة الذاتية والنزوعات المفرطة عليها. كيف تريدون، في ظل مثل هذه الشروط، أن يتطور الشعب بمفرده، خاصة وهو يسجل أن بعض النخب، التي كان يؤمن بها سابقا، قد أصبحت مجرد كراكيز عديمة الشكل لا هم لها سوى تحقيق امتيازات شخصية. (...) } ماذا لو طلب منك تشخيص حصيلة موجزة للوضع الحالي في المغرب؟ إذا أعددنا حصيلة، فإننا سنلاحظ، للأسف، أنها غير مطابقة لا لفكرة ولا لمضمون الاستقلال كما كنا نتصوره إبان كفاحنا ضد الحماية. على المستوى السياسي، وخاصة فيما يتعلق بالمؤسسات، فالحصيلة كارثية تقريبا. الملك قال هذا بنفسه في مارس 1965. لقد اعترف أن تجربة الدستور، هذا الدستور الممنوح دون مشاركة الشعب، لم تكن مقنعة. كما اعترف العاهل أن التجربة البرلمانية، كما مورست، لم تخلق إلا شللا شبه تام في البلاد. لقد وعد الملك بمراجعة هذا الدستور، لكنه ليس من الممكن تصور هذا الإصلاح الدستوري خارج منحى الدمقرطة، ومن ثمة المشاركة الشعبية. أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فالوضعية اخطر، وتدني أوضاع المغاربة ظل معطى ثابتا طوال السنين الأخيرة. أجل معطى ثابت، لكن ليس بالنسبة للجميع، ذلك أنه بينما يستمر مستوى عيش 12 مليون مغربي في التدني، نجد بالمقابل أن ثروة بضع مئات من آلاف مواطنينا تراكمت. هكذا إذن، فقد تعمق التمايز، وأصبحنا أمام فئتين اجتماعيتين منفصلتين تماما: تلك التي تتحمل مجموع وزر نفقات الدولة وأخطائها وارتجالها من جهة، ومن جهة أخرى تلك التي تستفيد من هذه الوضعية. ومن المميز ملاحظة أن الدخل الفردي للأغلبية الساحقة من المغاربة الذين يعيشون في كنف اقتصاد كفاف، تلك الأغلبية التي كان من اللازم تحديدا إدماجها في القطاع العصري، (أن هذا الدخل) تدهور بشكل ملموس. هي ذي المعالم الكبرى للوضع الحالي. } ما الوسائل التي تقترحونها لتجاوز المأزق؟ ليس ثمة وسيلة سحرية. وفي الواقع، فاللازم هو تمتيع البلاد، أولا وقبل أي شيء آخر، بحكومة مسؤولة وجدية تتوفر على سياسة متناسقة. ومن اللازم أيضا التوفر على إدارة قادرة على تنفيذ أكثر المخططات تواضعا. إن مشكلة الدول المتخلفة لا تكمن أساسا في البحث على الاستثمارات، بل هي، أولا، التوفر على حكومة وإدارة واعيتين بمسؤولياتهما. لم ننتقد خصومنا السياسيين على أساس دعوتهم إلى اعتماد الليبرالية الاقتصادية كسبيل وحيد يمكن البلاد من التخلص من التخلف. لكن ما كان من حقنا مطالبتهم به، هو أن يكونوا جديين، أن يكونوا قادرين على تطبيق سياسة مستلهمة من الليبرالية الاقتصادية، متميزة بالاستمرارية، بجدية وبواسطة إدارة بمقدورها الحفاظ على هذا التصور. وفي الحقيقة، وبالرجوع إلى استمرارية أفكارهم، فقد كانوا ينتقلون من الليبرالية الاقتصادية إلى ما يشبه الليبرالية، ثم إلى نمط من الاشتراكية. (...) } ما هي في نظرك التشكيلة الحكومية النموذجية التي بإمكانها «الالتصاق» إلى أقصى حد بالواقع المغربي؟ يبدو لي أن الحكومة التي يمكنها «الالتصاق» إلى أقصى حد بالواقع المغربي هي الحكومة الأكثر تمثيلية: حكومة منبثقة من الانتخابات. (...) أعتقد بصدق أن البلاد لن تعيش انقسامات حادة بعد تنظيم انتخابات نزيهة نسبيا. سيوجد تياران كبيران، وربما تيار ثالث على أكبر تقدير. وفي كل الأحوال، فأنا متأكد من انبثاق تيار أغلبي يمثله اليسار التقدمي. وسينال هذا التيار الأغلبية، بكل تأكيد، حتى في البوادي، لكن شرط أن يتمتع الفلاحون بحرية التصويت. (...) } على المستوى الاجتماعي، هل بالإمكان تصور تعدد نقابي في المغرب، أم أنه من الأفضل، في رأيك، وجود مركزية واحدة؟ يمكن، من الناحية المبدئية، ألا يكون المرء متفقا مع وجود مركزية واحدة، ذلك أن التخوف من تدجينها وارد. لكنه من غير المقبول أن يتم اللجوء إلى فبركة نقابات كما اتفق، نقابات لا وجود لها أو يقتصر وجودها على مكتب وخط هاتفي. نحن متأكدون أن هناك وحدة عميقة قائمة على مستوى الطبقة العاملة. السؤال الوحيد المطروح، وهو سؤال يتعلق بمشكل نقابي ذي صبغة داخلية، هو ضرورة أن تستلهم المركزية الموجودة الطرق الديمقراطية لتعيين ممثلي العمال. هذا في اعتقادي هو المشكل المطروح الآن.