لميكن عبد الرحيم بوعبيد يخطيء أبدا مواعيده مع التاريخ? منذ أن مشى بوعي الفتى فوق تربة المغرب الرازح تحت نير الاستعمار ، إلى أن ودع الدنيا، رجلا مضمخا بالسيرة الكبيرة لصناع قرننا المغربي المعاصر? كان دائما يضبط وقته على إيقاع الفعل الوطني من أجل حرية البلاد ، ثم الوعي الديمقراطي بضرورة سموها الى مستوى أعلى وأعلى? ويبدو أن الفقيد الكبير ما زال يحافظ على هاته العادة و على الدقة في أن تعود ذكراه في اللحظة المضبوطة التي نحتاج اليه فيها ، اللحظة التي يعود فيها عبد الرحيم /الفكرة والمسار النضالي? عبد الرحيم بوعبيد يبدو كبيرا ميتا مثلما كان كبيرا حيا، لأنه لسبب بسيط لا يموت أبدا ، ولأن الروح التي اشتغل بها عبد الرحيم من أجل ان يكون الوطن لجميع المغاربة وفوق الجميع ، تظل تحفظ من تاريخ بلاده الثري جدلية استمرار القيم والمثل والاسلوب? ولا شك أن المناضلين الاتحاديين وعموم الديمقراطيين واليساريين في بلادنا سيحفظون للرجل شموخه الوطني واستماتته في حب بلاده ، ليس كقيم فقط، بل كنتيجة مادية لمزاوجة التاريخ بالعقل وتثوير الفكرة بالتفاني فيها، واستدراج الحلم الخلاق الى مدارج الواقع المتحرك، في انسجام نادر بين المبدأ و احتمالات الواقع الممكنة? لقد كان عبد الرحيم يدرك أن التاريخ لا يمكن أن يحنط في مقولات عامة، كما كان يدرك أيضا أن السياسة ليست معرضا مفتوحا لاساليب المكر والخداع ، بل هي أساسا ، في سموها العالي اخلاق? وكان المجال، في مغرب ما بعد الاستقلال، يتسع كثيرا كثيرا حتى تبدو السياسة فنا لبيع الاوهام ، ومع ذلك لم يضق أمل عبد الرحيم? كان يدرك أن الحركة الديمقراطية في البلاد لا يمكن أن تقوم بدون أن «نغامر» بانتاج القيم الديمقراطية? ولأنه كان دائما الى جانب الفقراء والمحرومين وكل القوى المحبة للتغيير والعاملة من أجله ، فقد كان يدرك أن لقرارها قوة صناعة المستقبل? ولم يكن يخشى ارتفاعها الى امتلاك قدرها وتسيير أمورها? علمنا عبد الرحيم، ولا شك أن الوطن ليس منحة من أحد ، وأنه صناعة محلية بامتياز ،للجميع فيه نفس الحق? ولهذا كان الفقيد الكبير يعمل من أجل أن يظل القرار الاتحادي من صميم استقلالية القرار الوطني والشعبي? وسيظل الاتحاديون يستحضرون الاستماتة القوية للفقيد في الحفاظ على استقلالية قرار الاتحاد? وهي الاستماتة التي جعلته في امتحان دائم بلغ احيانا كثيرة درجة استعمال العنف في حقه وحق إخوته بدون مراعاة للتاريخ الوطني للمغربي الكبير فيه? وما من شك أن ذهننا يذهب أولا الى المحاكمة التاريخية له ولرفاقه في المكتب السياسي آنذاك، في سنة 1981 بعد البلاغ الشهير حول الموقف من قبول المغرب للاستفتاء في نيروبي? لم يكن عبد الرحيم يتنازل في الحق الوطني وإن كان يدرك أن الموقف الموحد المبني على الثقة في الذات هو الذي يمكن المغرب من الصمود وتحصين وحدته الترابية? وإذا كان عبد الرحيم يربط دوما قوة الحق الوطني بقوة الشرط الديمقراطي ، فذلك لإيمانه العميق بأن هذا الاسمنت هو الكفيل بأن يكون الارضية الصلبة لكل انطلاق نحو التقدم والتنمية وتكريس كرامة المواطن والخروج من دائرة الفقر والتدني? فعبد الرحيم كان يدرك أنه لا يمكن أن نجعل الناس سعداء بالرغم من أنفهم ، لا لشيء الا لأننا نفكر مكانهم ونعيش مكانهم مدعين الدفاع عنهم? إن الوصاية في النقد السياسي الذي بناه عبد الرحيم هي أدهى درجات واساليب إلغاء الارادة الشعبية، ولهذا بالضبط نطمئن الى حكمه ووصيته الأخيرة وهي ترفع عاليا إيمانه بحكمة التاريخ ومصيره العام? هذه الحكمة ظلت تعني أن المغرب لا يمكن أن يجرب في نفسه ، في كل مرحلة من المراحل اعطابا جديدة باسم تحديد «جدول اعمال» المستقبل! ولم يكن القرار الاتحادي المستقل، سواء في الجانب المتعلق بالقضية الوطنية المقدسة أو في تحديد مراتب التطور السياسي أو في تقدير المرحلة خدمة للمغرب ، لم يكن يعادله سوى حرصه على وحدة الصف الوطني واستلهام المحطات الوطنية الكبرى في بناء هويتنا المغربية المشتركة? ولا يمكن لأحد أن يشك في أن عبد الرحيم ومعه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عملا بكل قوة من أجل تجديد التعاقد وتفعيله المستمر بين الملكية المغربية وبين القوى الوطنية والشعبية في بلادنا? ولا يمكن أيضا إلا أن نعيد مرة أخرى أن الحاجة الى عبد الرحيم هي الحاجة الى كل الآباء المؤسسين لهوية الاتحاد وهوية الصمود والفعل الوطنيين? ومن هنا يكون عبد الرحيم العزيز على موعد دائم معنا ومع تاريخنا الخاص والعام?