مقدمة خارج الموضوع في مكان أخر قيد الإعداد، وفي محاورة مع محمد حبيب طالب، أي الطالبي [وهو الإسم الذي مازال ساري المفعول لدى بعض رفاق الأمس واليوم أيضا ] تحدثت عنه بالعبارات التالية : «... باستحضار اسم الطالبي يقفز إلى ذهني ووجداني تاريخ حافل بالتقدم المضطرب الخطوات، إن صح التعبير، ومفعم بالتوترات المشتركة، المشدودة بقوة إلى - وضمن مسيرة من النضال السري والعلني الوحدوي و الانشقاقي- ففي غمرة هذه المسيرة كان قد استبد بنا الحلم بمجتمع خال من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. وظل هذا الحلم الجميل يراودنا إلى اليوم، وحتى عندما تحول من حلم يريد اقتحام السماء (ماركس وكمونة باريس ) إلى أحلام يقظة، لم يتخل عن الحلم القديم, بل فقط راح يثبت الأقدام فوق الأرض، وإجراء عملية نقدية بهدف تحويل الحلم إلى يقظة واعية ، ومحاولة الإمساك بجوهر العناصر المؤثرة فعلا في صيرورة الواقع الموضوعي للمجتمع والدولة والنخب دون إكراه إيديولوجي مسبق. ورغم ذلك ففي حلم اليقظة هذا تكاد تبدو لوحة هذا الواقع غامضة من شدة وضوحها، وخصوصا فيما ستؤول إليه التطورات في مستقبل الأيام و السنوات وحتى العقود .... والجميع يعترف، وأنا منهم، أن الطالبي كان من القادة المتميزين في تجربة الحركة الماركسية اللينينية وامتداداتها في العمل الشرعي ..... وقد كان لي الشرف في لحظة ما وأنا في السجن المركزي في بداية سنة 1978 وهو في المنفى في فرنسا، أن نلتقي معا في موقف مشترك وهو ضرورة الانتقال إلى العمل الشرعي العلني لأسباب كثيرة ليس هنا مجال لشرحها. واتفق مع الطالبي في قناعته المتجددة بصواب الماركسية كمنهجية عقلانية وواقعية لتحليل الوقائع والأفكار والممارسات. ...» [انتهى هذا الجزء من المقدمة ] ... داخل الموضوع هذه المقدمة المذكورة أعلاه، هي خارج الموضوع ولكني حشرتها بمناسبة إطلاعي على ما كتبه الطالبي عن الثورات العربية* وخصوصا موقفه من الانتفاضة السورية، هذا الموقف الذي أدى به إلى السقوط في «دوخة مضادة» في مقابل العنوان الذي وضعه لمقالاته يقول: «لم أجد التعبير المناسب للحالة الفكرية السياسية التي تمر منها الثورات العربية سوى بحملها على وصف «الدوخة» لما يكتنفه هذا التعبير من ضبابية وحيرة وتخبط في الرؤية والمزاج والفعل ...» في البداية لابد من الاعتراف بأن الطالبي بدل جهدا ومجهودا أكبر في مناقشة قضايا مثل تقديس العفوية، ومفهوم الثورة وملابسات التآمر على سوريا بالخصوص..... الخ, ولكنه بالغ أحيانا في تضخيم أدوار و تحجيم أخرى. ففي نقده لآراء اعتبرها تقديس العفوية بالغ في التأثر المستقل للتراكم التاريخي ونضال الأحزاب التقليدية والحركة المستقلة للجماهير التي هي أيضا عفوية بمعنى ما, وذهب إلى هذا القول بأن « إغفال شبه تام لدور الجماهير الشعبية العريضة , والتي لولاها لما كانت هناك ثورة في الأصل «. يسوق هذه التقسيمات من اجل هدف واحد تحجيم الدور الهائل لحركة الشباب ووسائط الاتصال الاجتماعية التي اعتمدت عليها في تفجير ومواصلة الثورة في تونس ومصر. وهل سيطرة الأحزاب التقليدية «المنظمة» على المشهد السياسي فيما بعد يدفع المرء إلى الاستخفاف بالإنجاز الكبير الذي حققه الشباب ؟ ألم تحرر هذه الحركة الثورية والمجتمع من مكبوتاته وأطلقت العفريت الإسلامي، إذا صح التعبير، الذي كان محجوزا في قمقم الأنظمة و الغرب الذي يذكرنا الطالبي دائما بعبقريته الفائقة في التآمر علينا وخصوصا على ممثلي ما يسمى بالمقاومة والممانعة. ولنطرح السؤال التالي لماذا لم يكن في مقدور الأحزاب التقليدية «المنظمة» (والتراكم النضالي المستقل للجماهير) أن تقود التطور وتحقق ذلك بقوتها المستقلة عن مبادرات الشباب ؟ ألم تشكل حركة الشباب بالوسائل الحديثة القوة الرئيسية في صلب الحركة والثورة ؟ جريدة الاتحاد الاشتراكي , الاعداد : 02 نوفمبر2011 و 12و13 ديسمبر 2011 قد تكون التطورات التاريخية الراهنة قد عدلت حتى من معادلات الشروط الموضوعية لقيام الثورة، فلم تعد الثورة في جدول أعمال الأحزاب بشكل عام دون وصف التقليدية خصوصا إذا كانت حركة ولو سلمية, لكنها مستعدة للمواجهة هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن هذا التعديل في الشروط القائمة قد بين عدم قدرة النظام على الحكم كما كان يمارسه سابقا، حيث أصبح التدخل الخارجي جزءا من العملية، سواء بشكل «ناعم» كما يقول الطالبي أو بشكل عنيف، وبغض النظر عن تقييمنا السياسي والإيديولوجي لهذا العنصر، ففي تونس ومصر لم يحدث انشقاق داخل الجيش, بل انحياز إلى الثورة وتحت الضغط الخارجي، وفي ليبيا لأول مرة يتعاطف معظم الناس مع التدخل الخارجي، ويرفض البعض الآخر إما لمصلحة مع النظام وإما لموقف تقليدي من التدخل الإمبريالي ؟ هذا التضخيم والتحجيم دفع الطالبي إلى المبالغة في اعتبار ما حدث كله مجرد حركة عفوية، لأنه لم يندرج ضمن حركة تقودها الأحزاب التقليدية؟ ألم ينجح الشباب، عكس الأحزاب، في تنظيم انفسهم من البداية للتحضير والقيام بالثورة ؟ وربما سيصبح هذا الأسلوب في ذيل هذه المرحلة التاريخية وفي شروط الدول العربية الإسلامية على الخصوص، أسلوبا جديدا للحفز والضغط من أجل التغير باستمرار، حتى بعد أن تخمد الثورة التي تقدس العفوية حسب تقييم الطالبي وتحولها الأحزاب التقليدية باستمرار إلى سلطة تستمد شرعيتها، الأخلاقية على الأقل، من الثورة نفسها. يعتبر الطالبي أن كلمة مثل «الحراك، الانتفاضة، الثورة، ....» تبرر الحكم على من ذكرها (وإن لم يذكر لنا أصحاب هده الآراء). بالسقوط في «دوخة» لأنه استعمل هذه العبارة بشكل تقديري، وبالتالي فهي مجرد حشو في النقاش, يبرر الحديث عن مفهوم الثورة بالمعنى الكلاسيكي، والتي طواها التاريخ في هذه المرحلة ولم تعد في جدول أعمال أية حركة سياسية أي الثورة التي تتحقق بقيادة حزب له برنامج وخط سياسي, كما حدث سابقا في روسيا عبر صراع طبقي خلال الحرب العالمية، وفي الصين والفيتنام عبر صراع وطني وطبقي في مواجهة التدخل الأجنبي، الياباني في الأولى والأمريكي في الثانية، والنوع الثاني من الثورات هي انتفاضات تتحول إلى ثورة ثم امتداد زمني غير «ثوري» منذ الثورة الفرنسية التي اعتبرت قاطرة الثورات الديمقراطية في العالم، والتي عرفت فيما بعد الإمبراطوريات وعودة الملكية ثم كمونة باريس التي أدت بعد فشلها إلى قيام الجمهورية الثالثة، ولكن على مدى ما يقرب من القرن (التاسع عشر) تحقق تقدم في البنية الإنتاجية، الإصلاح الزراعي في الإمبراطورية الأولى والتطور الصناعي في الإمبراطورية الثانية. ويطرح السؤال «هل الليبرالية اليوم وفي زمن العولمة هي غير الليبرالية في طبقتها الأولى ؟» وهو سؤال أجاب عنه المفكر المغربي عبد الله العروي بشكل واضح في كتابه العرب والفكر التاريخي. هذه المبالغات السابقة لا تقلل من الأهمية «النظرية» لهذه المقدمات التي عالج بها الطالبي ما دعاه بمرض الدوخة العربية وإن لم يذكر لنا نموذجا ممن أصيبوا بهذه الدوخة، وربما أصابته العدوى فتعرض لدوخة مضادة عندما ناقش ملابسات الانتفاضة السورية، فسيطرت عليه نزعة تكييف الوقائع والمواقف لصالح الدفاع عن النظام السوري الذي يتعرض لهجوم من جميع الأطراف و «عبر تسليح وتمويل ميليشيات مسلحة إضافة للضغط الشرس الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي.» ثم ينتقد السلوك المحافظ للجيش المصري، كأن سلوك الجيش السوري سلوكا تقدميا، ويريد من القارئ أن ينتبه للمؤامرات المحاكة من طرف أمريكا وإسرائيل لتقسيم الدول العربية [والإيحاء بأن سوريا قد تتعرض لنفس المصير] ويأتي بمثال جنوب السودان، وجنوب اليمن، فالأول كان يتوفر على أهم مقومات الانفصال وهو الدين [المسيحية والوثنية] بغض النظر عن أخطاء النظام السوداني ونحن نعرف أسباب انفصال تيمور الشرقية عن اندونيسيا، أما الثاني فكان يشكل دولة مستقلة عند استقلاله عن بريطانيا، والحل الديمقراطي في اليمن هو إقامة حكم ذاتي في الجنوب. إذا كان سكان الجنوب يصرون على ذلك. فما هي حجج التآمر، ومن كل الأطراف، على سوريا. هل من أجل تحقيق «اختراق إستراتيجي يقلب موازين القوى في المنطقة العربية والمصرية على الخصوص ...» ؟ كما يقول الطالبي، وهل الإطاحة بالنظام السوري من طرف شعبه وبالمساعدة الخارجية أيضا كما حدث في تونس ومصر بشكل «ناعم» ومع ليبيا بشكل عنيف، يعتبر اختراقا إستراتيجيا يقلب موازين القوى ؟ ومع من ؟ هل مع أمريكا وإسرائيل ؟ كيف يمكن للقارئ العادي مثلي أن يتصور ذلك ؟ لماذا يمنح النظام السوري كل هذه القوة (أبفضل المقاومة والممانعة ؟) وهو عاجز كل العجز عن تحرير أراضيه الوطنية المحتلة، وهي مسألة وطنية و «قطرية» أولا وقبل كل شيء، هل ينتظر أن تعود مصر [قلب العروبة الفعلي والتاريخي] إلى الصراع من أجل النظام السوري لتحرير أراضيه ؟ لأن النظام السوري لم يكن قادرا في أي وقت من الأوقات الفارطة على محاربة إسرائيل بقدراته المستقلة «المقاومة والممانعة» ودون مصر ؟ ويتكرر الحديث عن الاختراق مرة أخرى، وإنكار دفاع الآخرين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا لأن ما يضمره الغرب «من خفايا تستهدف إحداث خرق إستراتيجي في هذه الجبهة الممانعة والمقاومة ...» التي لا يتعب الطالبي وحزب الله اللبناني في ترديدها صباح مساء من أجل رمي اليهود في البحر كما رددها الفلسطينيون والعرب من قبل دون إحراز أي تقدم يذكر, بل كنا ننتقل بدون وعي من هزيمة إلى أخرى بفضل هذا التفكير العاطفي الذي لا يعتمد على «العقل والمصلحة وميزان القوى» كما أكد ذلك المفكر العروي بعد هزيمة 67 في حوار مع جريدة العلم نشر بالترجمة العربية الأولى للإيديولوجية العربية المعاصرة سنة 1970. لنرى الآن بشكل مباشر دوخة الطالبي الواضحة في دفاعه المستميت عن النظام السوري (وليس عن القطر السوري). وسقوطه المدوي في مغالطات فاقعة حول موقف الجامعة العربية وتركيا و استفراض الإعلام «المعادي» بالنظام السوري ...إلخ. ينتقد الطالبي موقف الجامعة العربية فيقول ما يلي : «ولقد اضطلعت الجامعة، التي لم يسجل لها تاريخ عقود الردة أي موقف مماثل في كل القضايا العربية المصيرية بالدور الريادي في تنفيذ وتحريك هذا المخطط وإضفاء المشروعية العربية الصورية عليه ليتيم توسيعه وتدويله إن أمكن، ولقد قامت الجامعة العربية بهذا الدور المشبوه في غفلة من الزمن ...» ثم يعود في مكان آخر إلى نفس الموضوع قائلا :»..... وتعويضا عن الخسارة والفشل الجسيمين لامريكا في العراق، وعلى أن يتم الانقضاض [لاحظ كلمة مثل الانقضاض والشراسة] على سوريا فورا وقبل أن تستقر الثورات العربية على حال ..... ولعل هذا ما يفسر «سر» الاستعجال المحموم والشراسة غير المعهودة للجامعة العربية، ولحلفائها ضد سوريا وفي هذا التوقيت الملتبس والملغوم ...» ماهو المقصود - أولا - باختراق استراتيجي يقلب موازين القوى بالجمع وليس المفرد ؟ والحديث هنا دائما عن سوريا، قد يكون الطالبي فضل عبارة موازين القوى العامة لأنه ليس من صالح كل «الفدلكة» التي دمجها الطالبي في دفاعه المستميت عن سوريا المقاومة والممانعة، لأن ميزان القوى يرجع دائما مع الأسف الشديد لصالح إسرائيل وأمريكا كأمر واقع، وتغيير ميزان القوى لن يتم عن طريق ترديد أنشودة المقاومة والممانعة، وان المسألة بعد غياب مصر من المواجهة واستعادة ترابها الوطني، أصبحت المسألة مسألة وطنية بالدرجة الأولى, سواء بالنسبة لسوريا أو فلسطين أو لبنان.