كانت القراءات المحايثة والتحليلات المواكبة لما يعتلج في كيان الأمة من مخاض متسارع للأحداث من أجل الخروج من شرنقة الفساد والارتهان للآخر، مسبوقة بأكثر من إنذار، على أن الأوضاع مرشحة للانفجار. وكان لا بد للدورة الحضارية من أن تعرج على عالمنا العربي، فتمخضت الأوضاع عن ميلاد مد ثوري انتشر في جسم الأمة انتشار النار في الهشيم، ففوجىء الجميع بتزامن الثورات وتفاعلها وتصميمها على صناعة التغيير وانتزاع مشعله من أنظمةٍ كل ما أفلحت فيه هو توطين حداثة مخطأة أو مجهضة أو ممسوخة. الثورات العربية.. دواعيها وتجلياتها بقدر ما تأخر هذا المد الثوري الذي يجتاح العالم العربي آنئذ، بقدر ما وجه تفجره صدمة كهربائية لحالة اليأس المطبق التي كادت تبدد أمل المثقفين والشعوب في حصول التغيير في ظل انسداد الآفاق وترسب طبقات من ثقافة التخويف والتدجين الممنهج لكبح جماح الإنسان العربي والحيلولة دون استعادته لحريته وإرادته وحقوقه والامتنان عليه بإصلاح بطيء ومغشوش. ولما فاض كيل الفساد ونفد مخزون الصبر على الظلم والاستبداد، انتفضت حالة الوعي المتشكلة من كمونها، متمردة على كل المواضعات الصورية والشعارات الزائفة المتملقة والتدابير التنموية الترقيعية التي تغذي منظومة الفساد وتكرس ديمومتها، رغم إساءاتها التي لا تخطئها العين لكل مقدرات الأمة، كالنفس والنسل والعقل والمال. وما يثير الانتباه انبثاق هذا الوعي الجماهيري من مكامنه وصدوره عن استراتيجية واضحة المعالم رغم كل ما قيل عن عفوية الحدث الثوري الممتد في أركان الوطن العربي، بدءا من الأطروحة الموحدة: «تغيير منظومة الفساد»، مرورا بتطور مسارات الثورات المتفاعلة في مطالبها وتدبيرها للأحداث وحيثياتها ووسائل النضال وأساليبه وتمدد المكان والزمان وإكراهاته، وانتهاء بالنقاش النظري الذي يستبق مرحلة إدارة التغيير. هكذا أثمر المشهد السياسي العربي ثورات حضارية غير مستنسخة هدفها واحد هو: استعادة الشعوب لدورها في قيادة التغيير الديمقراطي وتحقيق الحداثة الفعلية. وما تحقق منها إلى الآن في مصر وتونس ثورات بيضاء مضمخة بدم الشهداء الذين آمنوا بأن الثمن غال ولكن الحرية أغلى. وما تزال الثورات في يومياتها تؤكد سلميتها رغم شراسة الأنظمة وعنادها وتحايلها بتوظيف شماعة المؤامرة تارة والطائفية تارة أخرى، ومن ثم قيادة حرب قذرة على شعوبها في ليبيا وسوريا بشكل سافر، ثم المزاوجة بين القتل وسياسة مسخ التغيير في اليمن. ولعل ما جعل مشجب المؤامرة باهتا وهجينا موقف الغرب نفسه المتردد الذي فوجئ لانفجار الثورات وسرعة انتشارها، فوقف مندهشا أمام تسارع أحداث الثورة التونسية. ودفعا للحرج، اختار أخيرا الاصطفاف المبدئي إلى جانب ثورات الشعوب إرضاء لرأيه العام، فأسهم في الضغط على النظام المصري الذي أطاحت به الثورة، كما أقدم على تشكيل تحالف دولي عبر هيئة الأممالمتحدة، وبمشاركة عربية، لحماية المدنيين في ليبيا من حرب إبادة محققة قادها النظام ضد الشعب، بعد تردد واضح سبقه ترتيب المصالح والتحالفات، وتدرج في تمرير الموافق، وتملص سلس لا يخفي نفاقه أمام أنظمة متهالكة وظفها ردحا من الزمن، فما كان له إلا أن يقلب لها ظهر المجن لما ثارت عليها الشعوب التواقة إلى الحرية والكرامة. وما تزال الثورات تفاجئ الرأي العام الدولي وتربك حساباته بتمددها وتصاعد نضالاتها، فقد أدهش الشباب العربي العالم بسلميته واستعداده للفداء، لأنه آمن بأن الحرية أغلى وأغلى في كل الساحات.. في تونس ومصر وسوريا وليبيا وفي اليمن. لقد وضعت هذه الثورات مجموعة من المفاهيم المأخوذة عن وشايات الأنظمة على المحك، مثل مقولات الإرهاب نسبة إلى «القاعدة» والمؤامرة على جبهة الممانعة للكيان الإسرائيلي. ولكن تصميم الشباب العربي على الاحتجاج السلمي فوت كل الفرص على الالتفاف على ثوراته باعتبارها أزمات أو مؤامرات، وأفشل كل المساعي الرامية إلى إشعال فتيل الحروب الأهلية والطائفية. ومع ذلك، يبقى موقف المجتمع الدولي متأخرا متوجسا من ممارسة دوره في نبذ عنف الأنظمة غير المشروع، وعندما يحس بالحرج يدين العنف المبالغ فيه لمواجهة المتظاهرين، ولم يشرع في تحجيمه وتطويقه في ليبيا إلا لحاجة في نفس يعقوب، كما بدا نفاقه واضحا في مواقفه من الثورة اليمنية السلمية، أما فظاعات النظام السوري فمهما تفنن في الإدانة وفرض العقوبات فإن تدخله لردع الفاشية هناك رهين بمصلحة إسرائيل. غير أن موقف ذوي القربى المتأخر في الجامعة العربية وتواطؤ جبهة دعم المقاومة مع النظام في سوريا أكثر خزيا وذلا وعدمية. هكذا، تجاوزت قوة إرادة التغيير، التي تدفع جماهير المحتجين في كل الساحات، ديمقراطية اللحظة الأخيرة وأربكت حسابات الأنظمة الأكثر شراسة وجعلتها تترنح وهي تصارع مصيرها المحتوم، وقلما فكر نظام في التقاط دروس المرحلة الأخيرة باحتواء مطالب المحتجين وإفساح المجال للشعوب لتقود التغيير الديمقراطي الجذري، بعيدا عن الاصطدامات الدامية. وما الاستجابة للمطالب المادية المحضة إلا اختزال لتلك الثورات متعددة الأبعاد، في مجرد أحداث عابرة خلفتها امتدادات الأزمة الاقتصادية العالمية، وهي التي انفجرت في بؤرتها الأولى من أجل كرامة مسحوقة انبعثت من تحت رماد القهر والاستبداد.في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى الصنف الثاني من الثورات تلك التي حورت شعار التغيير في المغرب والجزائر والأردن والبحرين وغيرها، ومنها حركة 20 فبراير المغربية التي لم تفت الشباب فيها فرصة الاحتجاج على الانحراف المبكر عن مسار التغيير الديمقراطي، واستفحال الفساد، والتردد في تحقيق المكتسبات والمزاوجة بين ثقافتين سياسيتين متناقضتين والمد والجزر في توطين الحريات. لكل ذلك وغيره، انتفض المحتجون مطالبين بإسقاط الفساد في سياق شروط وفرتها أجواء التغيير الذي جادت به المرحلة وضنت به الأنظمة على شعوبها. ورغم ذلك، كان النظام في المغرب نموذجيا في التقاط أهم دروس المرحلة، وكان مهيأ للتجاوب مع المتغيرات بفعل انخراطه الجزئي في مرحلة الانتقال الديمقراطي، لذلك تخلت الأجهزة الأمنية غالبا عن قمع المتظاهرين رغم تجاسرهم على رفع شعارات جريئة في وجه رموز الفساد. شكل هذا التميز في فهم متغيرات المرحلة مفارقة حاول بها المغرب حماية استقراره بفتحه ورش إصلاحات سياسية حقيقية رغم ما يكتنفها من قرارات فوقية وأساليب المتدخلين من هنا وهناك لتحجيم مداخل التغيير واحتوائها، إما بسبب ثقافة سياسية هجينة وإما رغبة في حماية مصالح ضيقة. ومن مميزات حركة الشباب المغاربة الوعي السياسي الرفيع المتحرر، فقد أبدعوا أشكالا نضالية نوعية، منها، على سبيل المثال، الدعوة إلى تغيير الدستور والتنديد برموز الفساد السياسي ورفض الجمع بين السلطة والثروة والمطالبة بحل المؤسسات السياسية المغشوشة وإغلاق السجون سيئة السمعة والثورة على المهرجانات الماجنة وغيرها. وكانت الحركة في مستوى الحدث من خلال عمليات التنسيق والتواصل والتوثيق عبر توظيف الشبكة المعلوماتية. ولئن كانت أمكنة الاحتجاجات مدينية غالبا، فقد أبدع الشباب في تثوير المكان باقتحامهم للأحياء الشعبية المهشمة، ولا غبار على ذكاء الخطوة ما دامت ساكنة تلك الأحياء الأكثر إحساسا بضرورة التغيير. غير أن المراهنة على عامل الزمن، إضافة إلى تشتيت الانتباه بالدفع بإشاعة التصنيف السياسي التجزيئية وتكميم الأصوات الحرة والتضييق على حرية الصحافة المستقلة بسجن الصحفي رشيد نيني نموذجا وتغييبه عن الساحة الإعلامية في مرحلة ينتظر فيها أن يقدم المغرب نموذجه للانتقال الديمقراطي بمشروع الدستور الجديد، ثم التجييش السياسي والإعلامي المرافق لهذا الحدث السياسي الهام، كل هذه الترتيبات تبقى من أهم التحديات التي تواجهها الحركة الشبابية المغربية ونضالاتها من أجل تبيئة ديمقراطية حقيقية. أما المفارقة الثانية، فهي التنادي إلى استدعاء المغرب والأردن إلى نادي مجلس التعاون الخليجي للتحالف من أجل حماية استقرار الأنظمة الملكية والأميرية، رغم البعد الجغرافي والتباين الواضح في الثقافة السياسية. وإذا كانت الثروة والركون إلى دعة العيش وعدم تبلور أساسيات الوعي الديمقراطي أساس الاستقرار في الخليج، مدعومة بتشابك المصالح الاقتصادية الدولية لجعل هذه المنطقة محمية من التأثر بالمد الثوري الذي تم التحالف على قمعه في البحرين وإضماره مرحليا والمساهمة في تدبير تداعيات الثورة اليمنية للحيلولة دون نجاحها، فإن الرهان على الاستقرار في غير تلك المنطقة الثرية لا سبيل إلى تحقيقه إلا بإدارة التغيير الديمقراطي وقيادته. وعلى كل حال، تبقى مسألة تحليل التدخل الخارجي أو الأجنبي مسألة شائكة في واقع هاته الثورات التي بلورت ملفها المطلبي في ضوء معطيات سياسية متباينة. وإذا حاولنا فهم الموقف البيني العربي، فقلما نجد موقف مبدئيا موحدا، أما الموقف الغربي، سواء في ذلك قيادته لعملية الأوديسا في ليبيا أو هرعه إلى التنديد بعنف الأنظمة المتجبرة، فلا تخفى ازدواجيته ولا يكاد يغيب عن أذهاننا موقفه من القضية الفلسطينية ومجازر العدو الصهيوني ومأساة الشعبين العراقي والأفغاني، لتتأكد لنا تلك الصورة المجازية العضوية التي يصدر عنها الغرب في مواقفه، وتعني أن آلية حسم الصراع هي القوة خارج تحالفاته، وأن الموقف ابن المصلحة؛ وإن بدا أخلاقيا مبدئيا فهو لا يخلو من توظيف القيمة للتأثير سيميائيا على صورته المشوهة في تصور الإنسان العربي. ومن ثمة، فلا ضير لدى الغرب، في زمن الحداثة وما بعد الحداثة، من إدانة العنف وتطويقه بعنف أكبر ما لم يكن هو مصدره أو حلفاؤه من الصهاينة. يتبع...