عبر كثير من المثقفين العرب عن وقع المفاجأة أمام الانتفاضات العربية التي لم يتوقعوا حدوثها، من حيث سرعة انجازها وتوقيتها بالرغم أن تاريخ الثورات يؤكد بالملموس أنها لا تخضع دائما للحتمية الآلية. والدليل على ذلك أن مؤسس التفكير الجدلي كارل ماركس كان يتوقع أن تحدث الثورة الشيوعية الأولى في بلد مثل انجلترا. لامتلاكها لطبقة بورجوازية متنورة، وتنظيم عمالي قوي، لكن مكر التاريخ شاء أن يخيب توقعه، حيث حدثت هذه الثورة في بلد فلاحي هو روسيا القيصرية التي كانت آنذاك تفتقر لهذه الشروط الموضوعية. إن عامل المصادفة الذي توحي به هذه الثورات هو نتاج تضاريس تاريخية من الإحباط والفساد وعلاقات التسلط والهزائم الفجائعية. التي بقيت في حالة كمون إلى أن توافر لها فتيل الاشتعال، تشبه بركان فيزوف الذي لا يعرف الايطاليون متى يستيقظ. قد يكون سببه مجرد حادث عارض كما حدث مع واقعة البوعزيزي، أو قد يكون سلوكا مترددا في الاستجابة الآنية كما يحدث اليوم في سوريا، أو استبدادا طال أمده لعقود مقترنا بحرمان الشعب من أبسط الشروط الدنيا لبناء الدولة الحديثة كما يحدث في ليبيا أو تجييشا للصراع القبلي والمقايضة بالخطر الإرهابي، ضمانا لعدم المتابعة والمحاكمة العادلة كما يطالب بذلك حاكم اليمن السعيد. تمثل ثورة 25 يناير في ميدان التحرير، منعطفا متميزا في مسار الحراك العربي، بالرغم من عدم اقتناعنا بوجود مفاضلة معيارية بين الثورات، لقد كان لثورة تونس شرف السبق التمهيدي، الذي صارت على منواله باقي الانتفاضات العربية اللاحقة، من حيث أسلوب العمل والنتائج التي تمخضت عنها وأدت إلى رحيل حاكم تونس القوي. لكن التجربة المصرية في التغيير والثورة، تمثل المختبر التاريخي لما سيؤول إليه مستقبل الشعوب العربية في الألفية الثالثة، نظرا لوضعها الجيو سياسي ورصيدها الريادي في النهضة والتقدم، ولوجود نخبة ثقافية عريضة لها تجربة غنية في ديمقراطية التعدد الحزبي، تعود إلى أكثر من قرن من الزمن وتمرين في ممارسة الإصلاحات الدستورية، انطلق منذ العقدين الأولين من القرن الماضي. سر القوة في الثورات العربية الجديدة، أنها لم تقم بتوكيل خارجي، ولهذا السبب تعذر على نظام مبارك وبقية الأنظمة العسكرية أن يتهموها بخدمة أجندة أجنبية، لقد اشتركت الثورات العربية في توظيفها لقاموس حضاري يتسلح بالدعوة المسالمة إلى التغيير والديمقراطية والوعي المدني التواق إلى الحرية والكرامة. إنها ثورة تفتقر إلى قيادة رائدة أو طبقة طليعية على شاكلة الثورات التقليدية، لأن شباب الفايسبوك لا يؤمرون بتوجيه عمودي بل يعتمدون في حراكهم على التشعب الأفقي المتفاعل مع بقية المتحاورين كأنداد. كما أنها ليست بشرقية أو غربية يكاد نورها يضيء جميع البلدان العربية، تؤرخ لجيل جديد من الثورات الإنسانية وتفند كل التحليلات المكررة لعلماء الاقتصاد السياسي وأدبيات الثوريين التقليديين، القائلين بعدم حرق المراحل، وضرورة التدرج المعتمد على تراكم التجربة ونضج الظرف التاريخي. لقد انطلقت هذه الثورة بأصوات شبابية، لكنها تحولت إلى ثورة شعبية، لأن جيل الشباب يتقاطع مع مختلف الطبقات وينصهر داخل كل الفئات الاجتماعية. هناك أسئلة عديدة تطرحها الثورة العربية الجديدة، قد يتطلب منا كمثقفين أن ننتظر زمنا طويلا لاستيعابها وإدراكها، لكن أهم ما في هذه الحوارات مع المثقفين المغاربة أن نقترب قدر الإمكان من جذوتها وسخونتها، في محاولة لفهم ما جرى ويجري حاليا. { يتعدد حاليا توصيف هذا الحراك الجماهيري، هل يتعلق الأمر بحركة إصلاحية أم بثورة شعبية أم أنها مجرد ثورة عابرة؟ نعم هناك إشكال حقيقي في التوصيف، لأنه يحيل مباشرة على المفهمة والسؤال الإبستمولوجي، خاصة وأنه على صعيد سوسيولوجيا (التغير الإجتماعي) هناك فرق بين (الإصلاح والثورة،) فالإصلاح هو إدخال تعديلات وتحسينات عبر مطالب وأمنيات، على النظام السياسي القائم، دون استبدال أو تغيير، أما الثورة، فهي تغيير جوهري يصيب البنيات والهياكل وكذا المؤسسات على مستوى الرؤيات والممارسات، والتلفيظات. ولعلنا نجد في هذا الحراك الجماهيري على مستوى الوطن العربي ككل هذين المستويين معا، فهناك حديث عن مقدمات ثورة خاصة في تونس ومصر(إسقاط الأنظمة)، وعندما أقول مقدمات فذلك أن الثورة تعني تجاوز الإسقاط إلى التغيير العميق، كما أن هناك حديثا عن إصلاح، وهو حالة المغرب، ذلك أن المطالب والتمنيات لا تخرج عن حزام الإصلاح سواء على مستوى النظام، أو مستوى بنيات النظام، فهناك إقرار بالنظام الملكي، فقط ينبغي تحيينه وتحسينه وتطويره إلى عتبة نظام ملكي برلماني، ثم في ضرب الفساد وإقرار حق الشغل، وحق التعبير وممارسة الديمقراطية كنشيد فعلي. وفي المجمل، فإن هذا الحراك، يدخل فيما أسميته سابقا بثورة الراقدين، وهذا التوصيف ممكن، بالنظر إلى إمكانية توظيف مفهوم الرقود، نسبة إلى الجنين الراقد، والذي يظل بدون تحرك في بطن أمه وقتا طويلا، إلى لحظة الوضع... { بدأت ثورة تونس بقصيدة «إرادة الحياة» لأبي القاسم الشابي إلى أي مدى يمكن القول إن الشعر مازال يمثل ديوان العرب؟ إن الأمر يتعلق بإنشاد من أجل الترديد والتعبئة في المسيرات والمظاهرات، ولن يكون إلا الإنشاد الشعري إذا كان معبرا وواضحا، وقابلا للإيقاع والإنشاد... وبالفعل كانت قصيدة الشابي خطابا سبوعيا في تلك المسيرات والمظاهرات والتجمعات، التي اختارت الشابي دون غيره، فكان من الممكن أن تختار محمود درويش من فلسطين، وله مقاطع دالة وقوية وصالحة للإنشاد الجماعي، وكان من الممكن أن تختار مثلا فؤاد زكريا أو علال الفاسي بالجوار...إن اختيار الشابي، هو ميساج على أن (لثورة تونسية: شعارات وأهازيج وإنشادا). ولقد أثر هذا الميساج وانتشر في المغرب من خلال أغاني الراي مثلا، والسؤال المضمر هنا ما علاقة الشعر بالإنشاد؟ فهل شعر الحداثة قادر على الحضور الجماهيري؟ في الساحات والشوارع والطرقات المشتعلة، المتمردة، العاصية...؟؟ وهل يعني هذا إعادة النظر في وظيفة الشعر؟ في إعادة هواء الإيديولوجيا إلى جسمه وروحه؟ بعيدا عن التركيز على الجمالية والشعرية؟ إنه سؤال تعيده هذه الثورات إلى المطارحة والبحث، لكن في مقابل حضور الشعر، فلقد حضر النثر بقوة، حضر بجمالية حضر كعناوين لنصوص متحركة في الواقع، لحناجر صارخة، ولجموع هاتفة، لننصت إلى هذه العناوين حقا في رواية الثورات العربية هنا والآن عبر ثلاثة مستويات: 1 - اللازمة المتكررة والمتصاعدة: جمعة الغضب، جمعة الحشود، جمعة الزحف، جمعة الصمود، جمعة الحرية، جمعة الرحيل.. 2 - لازمة الفعل: ارحل، ارحل يا جمال مع بابا 3 - لازمة التقرير: الشعب يريد إسقاط النظام، الشعب يريد إسقاط الفساد، الشعب يريد إسقاط الاستبداد. وفي المجمل، فإن السؤال الذي ينبغي طرحه إضافة إلى هذا هو دور بعض الركائز وقوتها في التأثير الجماهيري، وعلى رأسها الغرافيتيا Graffiti التي نشطت إلى حد بعيد في التعبير والتبليغ والتثوير والإبلاغ. قبل ثورة الياسمين في تونس، كان يتم الحديث عن قمة عربية للثقافة، كيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية بعد هذا الحراك الديمقراطي، الذي يعم جميع الأقطار العربية؟ - لقد كانت الثقافة العربية دائما محمولة على أكتاف المثقفين، ولم يكن للدول ولا للمؤسسات دور في حضورها وإنتاجها أو إشعاعها، لقد اعتبرت دائما الثقافة كشيء تفصيلي إضافي، ليس له شأن ولا قيمة، وأستطيع أن أزعم أن هذه الثورات، أو هذه الاحتجاجات، لم تحمل شعارا واحدا ولا عنوانا واحدا يهم المشروع الثقافي والشأن الثقافي، وهنا مكمن ضعف واضح فيها، بل أكثر من ذلك على الصعيد المغربي، رفعت حركة 20 فبراير، ضرورة إلغاء «مهرجان موازين» معللة رفض هذا المهرجان من زاوية الخسارات الإقتصادية، دون مراعاة أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولا مراعاة للقيمة الجمالية والثقافية والفنية ، والترفيهية للمهرجانات كفعل ثقافي، مع النقود(جمع نقد) اللازمة لبعضها إذا لم تكن لها أهداف ثقافية حقيقية...وبعيدا عن استبداد معكوس وحتى لا نكون عدميين، فسننتظر مآل الثقافة، بعد ثورات تونس ومصر، وإلى أي حد ستتحسن الأحوال والأوضاع الثقافية في البلدين.. { حدثت هذه الثروات في زمن تقلص فيه المد الثوري بمرجعياته الكبرى المؤطرة له، كيف تقرؤون هذه المفارقة؟ لقد انتهى زمن المرجعيات الكبرى، منذ عقد زمني على الأقل، لم يعد التفكير رهين هذه المرجعيات، حيث ظل التفكير البشري يتيما حقا، يبحث عن مفهمة جديدة وتأطيرات نظرية جديدة، بل وأنساق واجتهادات.. واليوم أعتقد بأن هذه الثروات هي إعلان عن ميلاد جديد لمفاهيم وأدوات وأفكار وأنماط تحليل جديدة حيث ينبغي التأسيس لها فعلا؛ ولقد بدأ يتململ هذا التأسيس داخل الأوساط الثقافية. { تتسم هذه الثروات بالتلقائية و«العفوية» وهذا يؤكد غياب المثقفين. كيف تفسر هذا الغياب في التأطير وتشكيل الوعي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المجتمعات العربية؟ إن السؤال ينطلق أيضا من المرجعيات الكبرى، التي ذكرت، والمقصود هو غياب المثقف الثوري بلغة ماركس وأنجلس أو المثقف الملتزم بلغة سارتر أو المثقف العضوي بلغة غرامشي..حيث كان المثقف يلعب دور المغير الفاعل والعملي، إلا أن الوضع قد تغير، ربما منذ عقد من الزمن أو أكثر، عندما كان الحديث عن موت المثقف كصاحب قضية، ليحل محله المثقف بالمعنى النخبوي المنتج للثروات الرمزية، بل وأصبحت أطروحة أخرى هي أطروحة المثقف المتشاكس، الذي ليست له مهمة ممارسة النقد(المعارضة) بل ممارسة الميتا- نقد، أي يخضع كل الخطابات والممارسات لمحك السؤال والنقد، انطلاقا من زعزعة مقولات التقديس والحقائق اليقينية، فكل شيء خاضع للنقد، بما في ذلك الثورات المتحدث عنها الآن، لأنه إذا نظرنا إليها من منظار السكونية والتقديس، فإنها ستشكل حقائق يقينية قد يصعب زعزعة أركانها فيما بعد...من هنا فدور المثقف حاضر بطريقة أخرى، مغايرة، فليس من الضروري أن يحضر في المظاهرات ويسير في المسيرات كما كان يفعل سارتر وبورديو..في فرنسا، فالمثقف له هذا الدور الميتا-نقدي الذي ينبغي أن يفعل اكثر، علما بأنه له تجليات في الواقع الثقافي والجمالي والفني والصحفي.. وتأسيسا على هذا المنطق، فهذه الثورات ليست عفوية ولا تلقائية، بل هي مؤطرة بظلال هذا المثقف المتشاكس، الذي برز في صورة شباب واع أطر ثورات بعيدا عن المثقف العضوي أو المثقف المعارض، بل جعل هؤلاء جميعا تحت معطفه، ويركبون في مركبته. { دأب الكثير من الأطروحات النيوكولونيالية على ترويج الفكرة القائلة بأن الشعوب العربية لها القابلية للاستبداد والعبودية، كيف تنظر إلى مثل هذه المواقف ذات الحمولة الإستشراقية؟ إنها فكرة استشراقية، كما تفضلت، ذلك الاستشراق الذي يعتبرنا من جنس آري، جنس واطئ وناقص تفكير وعقل، وجنس خاضع، تابع ينبغي ممارسة الوصاية عليه من أجل استعماره، من أجل تركيعه، حيث يلاحظ المتتبع، كيف رحل الاستعمار المباشر وترك أنظمة حامية لمصالحه ومطامحه ولو حكمت بالحديد والنار..إلا أن التاريخ يعطي درسا مغايرا لأنه لا يخضع لمنطق الإرادات الذاتية أو المسوغات القبلية ( بتسكين الباء)، فالشعوب لها كلمتها، من أي عرق كانت ومن أي لون ومن أي جنس، لأن هذه التصنيفات قبل علمية، بل لا علمية. { في انتظار أن تنضج الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن معتبرة إياه بارقة أمل حقيقي للقطع التام مع زمن القهر والخوف والإهانة الممنهجة التي طالما عانت منها الشعوب العربية، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيه لنظرية المؤامرة يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار العرب والمسلمين قاطبة، كيف تنظر من جهتك إلى الرؤيتين ؟ في الواقع لا يمكن الأخذ لا بالرؤية الأولى ولا الثانية، لأنهما ليستا صحيحتين بشكل مطلق، كما أنهما ليستا خاطئتين بشكل مطلق، فقد يمكن الأخذ بهما في نسبيتهما التركيبية والمركبة والمتراكبة، وهكذا فلا يمكن إبداء حماسة أكثر من اللازم تجاه إسقاط الأنظمة التي تعتبر الخطوة الأولى في الثورة، فهذه الخطوة قد ترتد إلى الوراء أو إلى إعادة إنتاج الماضي في صورة أخرى، إذا لم تتبعها خطوات جوهرية في تفكيك البنيات القائمة وإعادة بنائها وفق استراتيجيات الحراك الإجتماعي الذي قامت من أجله كما أنه لا داعي لنظرية المؤامرة بشكل مطلق، حيث أن نجاح هذه الثورات ما كان لينجح لولا مؤازرة المناخ الكوني اليوم، والذي تعنونه حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية، فلولا هذا المناخ لأطلقت الأنظمة الرصاص بدون هوادة كما كانت تفعل فيما مضى، يوم كانت تهيمن على العالم رؤيتان وقطبان، بل يمكن القول بأن القطبية الكونية الأحادية اليوم هي بصدد استكمال بنائها، بهذه الثورات الأفقية في مجمل البلدان،خصوصا العالم العربي، حتى تستكمل السمفونية الحقوقية والديمقراطية بالكامل في العالم عموديا وأفقيا، في الغرب وفي الشرق..إنه يمكن أن نلمح بكثير من التحفظ بأن هذه الثورات لم ترفع شعارا واحدا ضد إسرائيل، لقد مارست هذه الثورات لغة: الصمت نقمة في الداخل، والصمت حكمة في الخارج، ربما من أجل استبعاد كل استعداء من الآخر، قد يفرمل الثورة ويجهضها وبالتالي كان التركيز، كل التركيز على العدو القريب، ومن هنا فهذه الثورات لم ترفع أي شعار ضد إسرائيل، وفي المقابل هل يعني هذا بأن إسرائيل راضية على هذه الثورات؟ مادامت الدول العربية بدأت تعزف على سمفونية الديمقراطية وحقوق الإنسان..بعيدا عن الاستبداد الذي يقوم في كثير من الحالات على ترويج محاربة إسرائيل بإسم القطرية أو القومية أو الإسلامية، أو ماشئت من التعليبات النظرية والتحنيطات المقولاتية المعروفة. *عند الحديث عن العدوى الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يتم الحديث عن ( الاستثناء المغربي) ما هي معالم هذا الاستثناء إن وجدت ؟ 8- لست أدري من روج لسمفونية الاستثناء المغربي، وكأن المغرب مستثنى من الأفعال الإرهابية كما كان يروج لها بكثافة قبل 16 ماي بالدار البيضاء وكما يروج الآن لهذه المقولة، والحال أن الموجة عامة وعارمة، لكنها تتميز وتتفرد عن الأوضاع والأقطار، وهذا التميز هو التوصيف الممكن وليس الاستثناء، بدليل حركة الشارع القوية منذ 20 فبراير بزعامة حركة تحمل نفس التاريخ وهي حركة/ حركات تحمل شعارات قوية، ولقد حققت الكثير من المطالب المرفوعة في المسيرات والساحات، إن هذا التميز، جعل هذه الحركة ذات مطالب إصلاحية، بالنظر إلى إيقاعات النظام السياسي، منذ العهد الجديد من خلال جبر الضرر لضحايا ومناضلي مرحلة تاريخية اتسمت بالعنف والجلد والإيلام وبالنظر إلى الإنجاز المغربي في مدونة الأسرة، وما تحقق للمرأة المغربية من مكتسبات جديدة، فضلا عن إيقاع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والأوراش التي عرفها المغرب، والإنجازات العمرانية والمواصلات..التي عرفها المغرب وفضلا كذلك عن الحدس السياسي الذي جعل ملك المغرب يمارس سياسة القرب ويكثف من حضوره السياسي في مختلف المناطق والمدن والجهات...لعل هذه الوقائع هي التي جعلت سقف المطالب له سمة إصلاحية، حيث لم ترفع مطالب جذرية، كما فعلت الحركة الماركسية في السبعينيات عندما كانت تنادي بثورة شعبية و جمهورية مغربية ديمقراطية وشعبية، في إطار التصورات التي كانت تعتبر الملكيات عنوانا للرجعيات، والجمهوريات عنوانا للتقدميات، وهكذا لم ترفع ذلك الشعار الجذري على صيغة فعل الأمر « ارحل» . إنها حركة 20 فبراير أقصد تدعو إلى ملكية برلمانية، ولعل هذا المطلب هو أقصى مطالبها ليس غير. * هل تعتقد أن الإصلاحات الدستورية التي تنهجها بلادنا، ستؤهل المغرب، إلى الانتقال إلى الديمقراطية التي طال أمدها؟ -على حسب نوعية الإصلاحات، هل هي شاملة لبنية الدستور أم فقط لبعض بنوده، هل هي رؤية ديمقراطية بالكامل أم هي رؤية ديمقراطية بالتقسيط؟ أو جرعة زائدة عما هو كائن وموجود؟ هل هناك نية عميقة وإرادة حقيقية للانتقال نحو ديمقراطية حقة وحقيقية، أم أن الحسابات التكتيكية والمناورات السياسية واردة، خاصة في هذه الظرفية الدقيقة، وهذا المناخ المفعم بالحركة والدينامية والاحتجاج الجدي والفعلي.. * من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاجا لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التسريع بثورة ثقافية؟ -إن السؤال يطرح إشكالية السابق واللاحق ما بين الوعي والواقع، هل الواقع هو الذي يحدد الوعي ونوعيته، أم أن الوعي هو الذي يؤثر في الواقع من أجل تبديله..حيث يبدو المشهد الاحتجاجي المغربي بل والعربي بأنه مشهد لا تحضر فيه الثقافة أو بصريح العبارة لا يحضر فيه المثقفون باعتبارهم منتجي الوعي وحاملي هذا الوعي..إلا أن الملاحظ العميق يمكن أن يسجل حضور ثقافة مضمرة في المشهد الاحتجاجي، ثقافة جديدة لا تراكمية، ولا تطور متصل أدى إليها بل هي ثقافة ذات قطيعة أي تطور منفصل في صيرورة التاريخ؟ وهذه الثقافة تتميز في المجمل - إضافة لما قلته سابقا- بالملامح الآتية: 1- ثقافة جماهيرية فيها انتقال من المفترض والرقمي إلى الواقع المادي، بكل حمولات هذا الانتقال من جدة، وجديد وجدية. 2- ثقافة تنظيمية على غير منوال، ليس عبر القنوات التنظيمية الكلاسيكية من قيادات وأجهزة تنظيمية ولسان حال ورقي ( جريدة) ومجتمع مدني مواز( من جمعيات ونقابات). 3- ثقافة احتجاجية بدون زعيم تنظيمي، أو كاريزما على منوال الثورات المعروفة في التاريخ، ثقافة احتجاجية جماعية، ذات قيادات أفقية حركية وميدانية. 4- ثقافة احتجاجية بعيدة عن الطموحات الجارفة والفردانية لأصحابها تريد أن تغرس ثقافة جديدة في الأنفس من أجل استئصال الثقافة الزبونية، أو ثقافة البيع في المزاد السياسي، أو ثقافة اقتسام الحلوى، أو ثقافة التواطؤ، وفي المجمل ثقافة الريع السياسي. هذه بعض الملامح التي ينبغي تعميق النظر والمطارحة فيها، لعلها الثورة الثقافية المشار إليها في السؤال، ثورة ثقافية بحمولة غير كلاسية، على مستوى المضمون والنظر والقراءة، تجعل السابق واللاحق غير ذي جدوى، وتطرح الآنية أو ذات الوقت أو الجدلية كمفاتيح أو منطلقات للقراءة... *يقول بعض الباحثين، إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي؟ - فعلا لقد تكاثرت الحركات الإسلامية بعناوين مختلفة، وذات حمولات مختلفة، من معتدلة ومتطرفة، وسنية وشيعية ووهابية إلخ ، في إطار ما سمي بالصحوة الإسلامية، والتي ملأت المناخ السياسي العربي، وأصبحت بديلا بارزا في هذا المناخ، سواء عبر قدرتها على تجييش الناس من خلال إشعال فتيل الإيمان وترجمته في الواقع، أو عبر ممارسة خطاب التكفير كمدخل إلى ممارسة العنف سواء بالنسبة للعدو القريب ( الأنظمة القائمة) أو العدو البعيد ( أمريكا والغرب)، ولقد سال مداد كثير في هذا المنحى، بل ومازال لم يجف بعد، حيث من المؤكد أنه سيبدأ في مرحلة الإنزواء والنكوص..بعد هذه الثورات السلمية، والتي أعطت نتائج ملموسة خاصة في تونس ومصر، حيث تبين للناس بأن الجماهير قادرة على التغيير بواسطة الالتفاف والحناجر؟ ! ومن هنا فإن الإسلام السياسي الراديكالي ستسحب كثير من أسلحته التي كان يلوح بها وعلى رأسها سلاح التغيير. * إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة الشباب إلى إشعالها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي، والابتعاد عن الشأن العام؟ - لقد كان دائما الشباب هم المبادرون وهم الفاعلون في كل الثورات والتحولات الوطنية والكونية..لنعد إلى قراءة التاريخ والواقع، لنعد إلى قراءة أعمار الموقعين على وثيقة الاستقلال، لنعد إلى قراءة أعمار رواد الحركة الوطنية إبان تأسيسها، لنعد إلى قراءة انتفاضة 23 مارس 1965، لنعد إلى قراءة تركيبات اليسار الماركسي اللينيني وفئاته العمرية، لنعد إلى إحصاء المعتقلين السياسيين، وكم كانت أعمارهم في تاريخ اعتقالهم، لقد كان معنا في المعتقل، درب مولاي الشريف من كانوا يافعين ( قاصرين) في حدود 16 سنة، ولقد كنت أنا معتقلا في السن العشرين... لقد كان الشباب دائما في الريادة والمقدمة ..وهذا أمر طبيعي، لأن الشباب هم حاضر الأمة ومستقبلها إلا أن الحركات الاحتجاجية اليوم أخذت هذا التوصيف الكمي، وهو توصيف ذكي، لأن التوصيفات الكيفية أو العناوين الموضوعاتية، عادة ما تعكس توجها أو رؤية أو لمسة أو خطا ما.. والحال أن هذه الحركات أرادت أن تستوعب الكل، وهذا التوصيف الكمي، يدخل أيضا في إطار الملامح التي تحدثت عنها فيما يخص ثقافة هذه الحركات الاحتجاجية من الماء إلى الماء. صحيح كانت هناك نعوت وتقييمات لحال شبابنا العربي، ومن هذه النعوت، اعتبار هذا الجيل، بأنه جيل تلفزي، وفيما بعد جيل رقمي، وجيل لا مسيس، وجيل استلذاذ الحياة في بعدها الترفيهي أو الدوني أو ماشابه ذلك. ولقد وقفت دراسات سوسيولوجية مثلا في المغرب، على هاته الأبعاد، يمكن أن نذكر دراسات حول الشباب كدراسة بول باسكون حول (ما يقوله 296 شابا قرويا) المنشور سنة 1971، ودراسة المكي بنطاهر( الشباب العربي في البحث عن هويته) وهو كتاب بالفرنسية صدر عن دار الكلام بالرباط سنة 1989، فضلا عن مجموعة من الدراسات والكتب الجامعية..إلى غير ذلك من الأبحاث والدراسات التي استفسرت ثم حللت ثم ركبت مجموعة من الخلاصات ورد بعضها في السؤال؛ والحال أن هذا المنحى طغى على المتن السوسيولوجي والإنساني عامة، في غياب المطارحة الجدلية، و التي تبين أن الشباب يمكن أن يقبل على الحياة واستلذاذها، وفي ذات الوقت قد يقبل على الفعل السياسي، وعلى التغيير في الوقت المناسب بعدما يستنفد كل لحظات الترقب، من اللامبالاة إلى النفور من العمل السياسي، إلى التعبير عن السخط بمقاطعة الانتخابات أو التصويت بأوراق ملغاة يعبر فيها عن رأيه ( كنت أتمنى أن توضع أوراق انتخابات 2007 الملغاة رهن إشارة الباحثين من أجل تفريغها ثم ترتيبها وتحليلها وتركيب خلاصات حقيقية حول حال الشباب وتطلعاته) إلى أن يعبر بطريقة احتجاجية وفعلية، ألم أقل بأنها ثورة الراقدين؟ الذين مهما رقدوا، إلا و يتحول هذا الرقاد إلى انفجار حتما، فتاريخ المغرب مثلا، ولو في مرحلة الحديد والنار، ومن خلال الانتفاضات التي وقعت، كانت تبين وقوع هذه الانتفاضات بمعدل كل سبع سنوات. إن المزاوجة بين الإقبال على استلذاذ الحياة كمعطى واضح ومباشر، والتسيس الخفي أو المضمر ( لا يظهر كما بينا بشكل واضح ومباشر) يمكن قراءته بشكل أكثر بروزا لدى شباب لبنان، فاللبنانيون يقبلون على الحياة، وعلى الاستلذاذ والترفيه بكثافة وكثرة، وفي ذات الوقت نجد نفس الاقبال على التسيس بل والمقاومة عبر حمل السلاح، ولا يقوى على حمل السلاح إلا الشباب..فهذه الجدلية تبين كيف أن كثيرا من الأبحاث والتحليلات لا ترى إلا نصف الكأس، لا ترى إلا الظاهر، بينما لا علم إلا بما هو خفي كما قال باشلار يوما.