لا أرتاح كثيرا لهذا لنوع من الشهادات، فهي تختصر وتبتصر وتعمم. ولكن حالة نجيب محفوظ تشكل عندي استثناء، فأنا مُنتج من منتجاته. لقد قرأت رواياته صغيرا واستوعبتني عوالمه لفترة طويلة لم تخلصني منها سوى تجارب روائية لاحقة داخل الوطن وخارجه. وقد لا يكون هو أحسن الروائيين ولا أمهرهم، ولكنه استطاع بحسه الفني ووعيه الفلسفي وارتباطه العميق بالحياة إعادة صياغة التجربة الإنسانية استنادا إلى قدرة فائقة في النمذجة. والنمذجة ليست أطروحة سابقة، بل هي بناء يتم من خلال الفعل السردي ذاته. لذلك فهي تمتد عنده إلى كل شيء ممثل في الرواية بدءا بالشخصيات وانتهاء بالفضاءات الموصوفة وانتهاء بالزمنية المقتطعة. لم يكن يصور ما يمثل أمام العين والوجدان بشكل مباشر(الاستنساخ)، بل كان يلتقط «المميز» و»الثابت» و»الأصيل» ليصوغ نموذجا لحياة تصنف في حد فاصل بين الإحالات المشخصة، كما تبنيها الرواية فعلا، وبين سلسلة من النماذج «العليا» هي ما ستحتفظ به الذاكرة الثقافية باعتباره نمطا في «الحياة» أو»سلوكا» قابلا للتقويم والتقدير اللاحق. فنحن لا نستعيد من خلال العوالم التي تصورها رواياته مفاهيم تصطف معادلا مجردا لما يشخص في الرواية. فلم تكن المعاني تسبقه إلى التمثيل، بل كان يلتقط شظايا هذه المعاني في تفاصيل الحارات والأزقة الوسخة وفي الفيلات الفاخرة أيضا. إنها في الحدث ومن خلاله تبنى وفيها تموت أيضا. لذلك، فالنمذجة في الرواية تبنى عنده استنادا إلى المشخص، لا استنادا إلى حكم «معرفي» يحصر الواقع في ما يمكن أن تقوله هذه المعرفة. إن التمثيل السردي عنده احتفاء بالحياة لا بالمفاهيم، واحتمالية الفرجة أقوى تأثيرا دائما من يقينية المفاهيم.