طنجة تتأهب لأمطار رعدية غزيرة ضمن نشرة إنذارية برتقالية    تساقطات ثلجية وأمطار قوية محليا رعدية مرتقبة الأحد والاثنين بعدد من أقاليم المغرب    نشرة انذارية…تساقطات ثلجية وأمطار قوية محليا رعدية مرتقبة الأحد والاثنين بعدد من أقاليم المملكة    توقيف ثلاثة مواطنين صينيين يشتبه في تورطهم في قضية تتعلق بالمس بنظم المعالجة الآلية للمعطيات الرقمية    توقيف 3 صينيين متورطين في المس بالمعطيات الرقمية وقرصنة المكالمات الهاتفية    ريال مدريد يتعثر أمام إسبانيول ويخسر صدارة الدوري الإسباني مؤقتًا    ترامب يعلن عن قصف أمريكي ل"داعش" في الصومال    ريدوان يخرج عن صمته بخصوص أغنية "مغربي مغربي" ويكشف عن مشروع جديد للمنتخب    "بوحمرون".. الصحة العالمية تحذر من الخطورة المتزايدة للمرض    الولايات المتحدة.. السلطات تعلن السيطرة كليا على حرائق لوس أنجليس    أولياء التلاميذ يؤكدون دعمهم للصرامة في محاربة ظاهرة 'بوحمرون' بالمدارس    CDT تقر إضرابا وطنيا عاما احتجاجا على قانون الإضراب ودمج CNOPS في CNSS    هذا هو برنامج دور المجموعات لكأس إفريقيا 2025 بالمغرب    الشراكة المغربية الأوروبية : تعزيز التعاون لمواجهة التحديات المشتركة    تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج فاقت 117 مليار درهم خلال 2024    مقترح قانون يفرض منع استيراد الطماطم المغربية بفرنسا    حجز أزيد من 700 كيلوغرام من اللحوم الفاسدة بطنجة    توقعات احوال الطقس ليوم الاحد.. أمطار وثلوج    اعتبارا من الإثنين.. الآباء ملزمون بالتوجه لتقليح أبنائهم    انعقاد الاجتماع الثاني والستين للمجلس التنفيذي لمنظمة المدن العربية بطنجة    مؤسسة طنجة الكبرى تحتفي بالكاتب عبد السلام الفتوح وإصداره الجديد    شركة "غوغل" تطلق أسرع نماذجها للذكاء الاصطناعي    البرلمان الألماني يرفض مشروع قانون يسعى لتقييد الهجرة    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. أرقام صادمة وهذه هي المناطق الأكثر تضرراً    BDS: مقاطعة السلع الإسرائيلية ناجحة    إسرائيل تطلق 183 سجينا فلسطينيا    ثمن المحروقات في محطات الوقود بالحسيمة بعد زيادة جديد في الاسعار    رحيل "أيوب الريمي الجميل" .. الصحافي والإنسان في زمن الإسفاف    الانتقال إلى دوري قطر يفرح زياش    زكرياء الزمراني:تتويج المنتخب المغربي لكرة المضرب ببطولة إفريقيا للناشئين بالقاهرة ثمرة مجهودات جبارة    مسلم يصدر جديده الفني "براني"    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    تنس المغرب يثبت في كأس ديفيس    بنعبد الله يدين قرارات الإدارة السورية الجديدة ويرفض عقاب ترامب لكوبا    "تأخر الترقية" يخرج أساتذة "الزنزانة 10" للاحتجاج أمام مقر وزارة التربية    لمن تعود مسؤولية تفشي بوحمرون!    المغرب التطواني يتمكن من رفع المنع ويؤهل ستة لاعبين تعاقد معهم في الانتقالات الشتوية    توضيح رئيس جماعة النكور بخصوص فتح مسلك طرقي بدوار حندون    لقجع: منذ لحظة إجراء القرعة بدأنا بالفعل في خوض غمار "الكان" ولدينا فرصة لتقييم جاهزيتنا التنظيمية    العصبة الوطنية تفرج عن البرمجة الخاصة بالجولتين المقبلتين من البطولة الاحترافية    الولايات المتحدة الأمريكية.. تحطم طائرة صغيرة على متنها 6 ركاب    بنك المغرب : الدرهم يستقر أمام الأورو و الدولار    المغرب يتجه إلى مراجعة سقف فائض الطاقة الكهربائية في ضوء تحلية مياه البحر    القاطي يعيد إحياء تاريخ الأندلس والمقاومة الريفية في عملين سينمائيين    انتحار موظف يعمل بالسجن المحلي العرجات 2 باستعمال سلاحه الوظيفي    السعودية تتجه لرفع حجم تمويلها الزراعي إلى ملياري دولار هذا العام    الإعلان عن تقدم هام في التقنيات العلاجية لسرطانات البروستات والمثانة والكلي    غزة... "القسام" تسلم أسيرين إسرائيليين للصليب الأحمر بالدفعة الرابعة للصفقة    محاضرة بأكاديمية المملكة تُبعد نقص الذكاء عن "أطفال صعوبات التعلم"    حركة "إم 23" المدعومة من رواندا تزحف نحو العاصمة الكونغولية كينشاسا    هواوي المغرب تُتوَّج مجددًا بلقب "أفضل المشغلين" لعام 2025    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    الممثلة امال التمار تتعرض لحادث سير وتنقل إلى المستشفى بمراكش    الفنانة دنيا بطمة تغادر السجن    نتفليكس تطرح الموسم الثالث من مسلسل "لعبة الحبار" في 27 يونيو    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من تونس إلى سورية، مرورا بليبيا، مصر، الأردن واليمن..
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 11 - 11 - 2011

كل جديد مقلق.. وسبب القلق، آت من الإلتباس الذي يحيط به كغلالة تحجب حقيقته الكاملة.
عربيا وإسلاميا، اليوم، تقود الآلية الديمقراطية النزيهة والشفافة، التي بدأت تجد لها ترجمة مادية في الواقع السياسي لعدد من المجتمعات العربية، إلى انتصار التيارات السياسية الدينية ذات الخطاب الإسلامي، بسبب إفشال مشاريع فكرية وسياسية وطنية أخرى على مدى عقود، مما جعل الكثير من أسئلة التوجس والقلق تثار هنا وهناك، حول هذه النتيجة التي يفرزها الخيار الديمقراطي. وهو توجس يكاد يكون طبيعيا، لأن الأمر غير مسبوق، ولم يكن واردا في الحسبان حتى نهاية السنة الماضية. فلا الأمر كان واردا في تونس، ولا كان متخيلا في ليبيا، ولا كان منتظرا في مصر، والبقية آتية.
الحقيقة، أن ما غفلت عنه الكثير من القراءات السياسية والسوسيو- تاريخية، هو أن منطق الشعوب، شبيه كثيرا بمنطق الماء، فهو يفلح دوما في أن يصنع طريقه. ومسار الحياة البشرية، شبيه كثيرا بالماء، يكون أحيانا ساكنا، لكنه لا يكون متوقفا ولا جامدا قط. والتطورات التي تصنعها الشعوب العربية، منذ أحد عشر شهرا حتى الآن، تقدم مادة غنية للقراءة والتأمل في هذا المنجز البشري عربيا وإسلاميا، الذي بدأ يتحول بفضل التراكم المتحقق فيه، إلى مرجع كوني غير مسبوق. ولربما، أن من حظنا الجميل كأجيال اليوم، أننا نعايش لحظات يصنع فيها التاريخ، بشكل يجسد انعطافة تاريخية وجودية كبرى، لتجمع بشري يوسم بين باقي التجمعات البشرية ب «العرب والمسلمين». وهذا لوحده كاف للإغراء بولوج مغامرة الفهم: فهم أسباب ما يحدث ونتائجه، وأيضا تجاوز أسباب القلق التي يحدثها كل جديد في الفعل البشري، بمعناه السياسي.
منذ البداية، لابد أن نسجل، أنه من غير المنطقي ولا المعقول، أن نسجن أنفسنا في رؤية تعتقد أن تمة منطقا للتكرار في تاريخ الشعوب، لأنه منطق غير سليم البثة. فقط، لأن حياة البشرية هي أساسا متوالية لتراكم تجارب، تتحول إلى أثر في التاريخ، يمتلك ألق أن يصبح مرجعا لكل الناس. والتاريخ، بهذا المعنى، ليس خطيا، وليس تكرارا لنسخ جاهزة، بل إنه متوالية اجتهادات إنسانية، يحكمها منطق اللحظة ومنطق المكان، ومنطق المصلحة التي تحرك هذه الحاجة البشرية هنا والآن. بالتالي، فإن ما يحدث في بلاد العرب هذه الشهور، ولا يزال، وسيتواصل أقله لعقد قادم من الزمن، هو نتيجة لتحول مجتمعي يخص العرب في ذواتهم، أي في منطقهم التاريخي الداخلي الخاص، وكذا في علاقتهم بمحيطهم العالمي. وعنوان هذا التحول الأكبر، أننا تجمعات بشرية، بدأت تخرج من شرنقة أمرين هائلين، هما:
أ - مغادرة منطق العلاقات التي تنتجها البداوة، نحو منطق متطلبات شروط التمدن. وهنا علينا الإنتباه أن كل الشعوب التي تنتقل فيها نسب ساكنة المدن، كي تصبح هي الغالبة، يحدث فيها حراك مطلبي ملحاح على مستوى الخدمات الواجب أن يوفرها نظام المدينة. مثلما تبرز فيها عالية أسئلة القيم والهوية، في ما يشبه القلق الذي يحدثه التجاذب بين الخوف من الإنسلاخ من الخصوصية الحضارية، والرغبة في التصالح مع العصر وامتلاك أسباب الحداثة.
ب ? أن حلم التغيير والإصلاح، لم يعد بسبب من ذلك التحول المجتمعي، حلم نخب مهما تعددت وتباينت مرجعياتها الفكرية ومنطلقاتها المصلحية، بل أصبح حلم أفراد مجتمع بكامله. هنا يتحول مشروع التغيير والإصلاح، من مشروع نخبة إلى مشروع مجتمع. وهنا ربما يكمن معنى «الثورة»
لكن، حتى والتاريخ متوالية من التجارب الإنسانية، فإن ذلك لا يعني قط إلغاءه من كل قراءة للواقع. بل إنه يتحول هنا، بالتحديد، إلى مرآة حاسمة لفهم الفعل الإنساني في بعده التاريخي، من خلال تأمل تجارب شعوب سابقة. وهنا، فإننا عربيا، ملزمون (بالمعنى العلمي للكلمة) أن نتأمل تجارب مماثلة حدتث في تجارب مجتمعية من قبل، يعنينا منها التحول الذي سجل في أروبا وآسيا، كي يسهل علينا فهم ما يجري، واستحلاب معنى له، أكثر حجية وواقعية، يساعدنا في تجاوز لحظة القلق من هذا الجديد الذي ندخله مثل من يدخل في الماء.
الدرس الألماني بأروبا مفيد..
إن لحظة التحول التاريخية التي عاشتها المجتمعات الأروبية، هي تلك التي ولد فيها نظام جديد للمدينة، بالتجمعات السكانية الكبرى حول الموانئ النهرية بكبريات المدن الألمانية خلال نهاية القرن 15. وكان ذلك الميلاد نتيجة طبيعية للتحول في النظام العالمي آنذاك، الذي بدأت ترجمته العملية سنة 1492، من خلال حدوث أمرين حاسمين كبيرين. أولا اكتشاف العالم الجديد من قبل كريستوف كولومبس، والنجاح في صناعة سفن جديدة، عرفت تاريخيا بالسفن الشراعية الكبرى، التي سمحت بالإبحار بعيدا في يم المحيطات، ونجحت في رسم خرائط جديدة للتجارة العالمية حينها، حولت طريق الحرير القديمة من البر إلى البحر. وثانيا أنها السنة التي سقطت فيها الأندلس نهائيا وفقد العرب المسلمون مضيق جبل طارق، مثلما فقدوا دور الوسيط التجاري الحاسم، برا (طريق الحرير)، الذي ظلوا يلعبونه لقرون بين شرق العالم وغربه آنذاك.
كانت النتيجة، هي تحول دور الموانئ الأروبية الكبرى، إلى دور تجاري وسيط، غير مسبوق، سمح بنقل ثروات العالم (الذهب من إفريقيا والعالم الجديد. المنتجات الفلاحية المتنوعة التي لا تنتجها الأراضي الفلاحية الأروبية الباردة. أنواع جديدة من الثروة الحيوانية. ثم المعادن بمختلف أنواعها)، عبر موانئ غاليسيا ولشبونة وبرشلونة ومارسيليا وصقلية وجنوة والبندقية وأمستردام، إلى باقي السوق الأروبية. ولأن درس الجغرافية حاسم في كل قراءة للتاريخ وللفعل السياسي، فإن موقع المدن الألمانية (لم تتأسس ألمانيا بعد حينها كدولة)، قد جعلها طبيعيا، تتحول إلى وسيط تجاري بين غرب أروبا بموانئه الكبرى الجديدة، وشرقها الممتد حتى موسكو. فكان أن بدأت تتشكل أنوية مدن جديدة، تقدم خدمات مغايرة غير مسبوقة للفرد الأروبي، في هذه المدن الوسيطة تجاريا. سواء منها تلك التي تكونت حول موانئ بحرية أو تلك التي تكونت حول موانئ نهرية. والنخبة التي أفرزتها تلك الأنوية الجديدة للمدن، هي نخبة تجارية محضة في البدايات، ما لبثت أن تحولت إلى تيار مجتمعي جديد، تطور تأطيريا وفكريا وسياسيا وانتظم اقتصاديا، ليعرف في ما بعد بالبورجوازية.
إن الثورة الكبرى، التي أنتجتها البورجوازية الأروبية، وفي البداية منها البورجوازية الألمانية، هو أنها بلورت شكلا جديدا لنظام المدينة غير مسبوق في تاريخ البشرية. ميزته الكبرى، أنه أسقط الأسوار عن المدن وجعلها مفتوحة أمام العالم، كل العالم، أي كل الأفراد. وثانيا، أنه نظم بها شكلا جديدا للخدمات العمومية، غير مسبوق بتلك الدقة والتنظيم في تجارب البشرية السابقة. وأن تنظيم تلك الخدمات العمومية، كانت الغاية منه تشجيع دورة الإنتاج، بالشكل الذي يحقق حرية الفرد/ الإنسان، الحر في ذاته والذي لا سبيل له لولوج نظام الخدمات العمومية الجديدة ذاك، سوى من خلال بيع قوة عضلية (البناؤون. رجال الأمن. منظفوا القاذورات والأزقة. عمال المعامل ... إلخ) أو ذهنية (الأطباء، المهندسون، رجال التعليم، رجال القضاء... إلخ)، تسمح له بالحصول على أجر، يسهل له استهلاك كل خدمات المدينة الجديدة.
هذا المشروع السياسي، الذي تحركه مصلحة اقتصادية أنتجها النظام العالمي الجديد آنذاك، بعد 1492، كان لا بد له من آلية إقناعية عمومية. وشاء القدر التاريخي، أن تكون من الخدمات العمومية، التي أنتجها نظام المدينة الجديد ذاك، خدمة تنظيم انتقال المعلومة والخبر، أي: «الصحافة». فكان أن تحولت تلك الوريقات التي ولدت يتيمة تضم في البداية فقط أخبارا اقتصادية تحتاجها شريحة التجار بالمدن، إلى أداة عمومية حاسمة للإقناع وصناعة الرأي العام، بسبب ما وفرته الإكتشافات العلمية من إمكانية على مستوى المطبعة (مطبعة الألماني يوهانس غوتنبرغ)، وكذا الورق الجديد (مصنع الألماني شترونر) والمداد. لقد سمحت تلك الآلية التواصلية العمومية الجديدة، بأن تكون حمالة أفكار ومجالا لتطارح الرؤى، وأداة سحرية حاسمة لتأطير الفرد الأروبي المديني الجديد. بل، أصبحت بفضل تراكم نتائج خدمة التعليم كخدمة من الخدمات العمومية ضمن نظام المدينة الجديد، في تلك المجتمعات الأروبية، مجالا لترسيخ صورة جديدة للفرد الأروبي المنتمي للمدينة. وذلك هو ما تريده البورجوازية. أي أن تتسع هوامش المدن بالأفراد الجدد، الذين يتوفر فيهم شرط الحرية الفردية، أي الحرية في القرار، والحرية في المبادرة، والحرية في الإستهلاك. أي أننا هنا بإزاء نموذج جديد للوجود غير مسبوق.
إن المثير تاريخيا، في تلك التجربة البشرية والمجتمعية بأروبا، أنها بفضل ما توفره المطبعة الجديدة من تعميم للمعرفة (كتبا وجرائد ومجلات)، وبفضل ما يوفره نظام المدينة من خدمات عمومية، في القلب منها التعليم. فقد كان لا بد من آلية سياسية للتغيير العام، وإسقاط الأسلوب السياسي التدبيري الذي كان سائدا حينها، والذي ليس سوى النظام الإقطاعي المتحالف مع الكنيسة الكاثوليكية، التي ميزتها أنها اشتطت بالدين، كي تحوله إلى «سجل تجاري» للربح المادي، بلغت به حدا من الشعوذة والدروشة والخرافة غارق في التخلف (صكوك الغفران، والرهبنة التي تحاول عبثا تحويل البشر إلى ملائكة). ولم تكن تلك الآلية السياسية الأولية، البكر، سوى حركة إصلاح دينية بألمانيا، هي الحركة البروتيستانتية بزعامة مارثن لوثر. بسبب أن الخطاب الديني في الذهنية العمومية الأروبية حينها، وسؤال القيم، كان مؤثرا وحاسما. فكانت أول الطريق للتغيير والإصلاح، هي حركة سياسية دينية. وأكدت، تلك التطورات، ذلك المعطى التاريخي المثير بين المال والدين (وليس علاقة السياسة بالدين)، لأن ما هم حينها البورجوازية الألمانية هو ربح التغيير المرتجى في واقع الأفراد، التي هي في حاجة إليهم، أحرارا وسادة قرارهم، منخرطين في دورة الإنتاج الإقتصادية الجديدة، لنظام المدينة.
لقد تواصل، هذا المد والجزر بين المال والدين في أروبا لقرون، وظل الخطاب الديني حاضرا في كل التطورات المجتمعية بالغرب عموما، كمجال للصراع بين المصالح المتراكبة في المجتمع. كان في البداية صراعا بين البروتستانيتة والكاثوليكية التي جددت ذاتها وأنسنت خطابها وصلحت من سلوكياتها. وتفرع ذلك الصراع ليشتط أحيانا نحو فرق متطرفة بهذا الشكل أو ذاك، حتى اليوم (ضمنها الفريق الكنسي المتشدد الذي كان ينتمي إليه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الإبن. وكذا الفريق الكنسي المتشدد الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء الإسباني الأسبق اليميني أثنار. بل لا يزال في إسبانيا هذا التيار الديني قويا ومؤثرا جدا، من خلال آليته التنظيمية والتواصلية والمالية). مثلما سمح، بعد صراعات ممتدة في الزمن، وكثيرا ما كانت دموية رهيبة، إلى فطنة بلورة شكل تدبيري عمومي، للدولة المدنية، تتأسس على منهجية تدبيرية ديمقراطية، تسمح بتداول سلمي للسلطة بين النخب التي تفرزها طبيعيا المصالح المتباينة في المجتمع. ومن بين أشكال تنظيم تلك النخب، كان واضحا بروز تنظيمات سياسية غربية، ذات نزوع ليبرالية، اقتصاديا وفكريا وسلوكيا، ظلت تحكم عبر الآلية الإنتخابية الديمقراطية لسنوات بأروبا، هي الأحزاب « الديمقراطية المسيحية»، وذلك إلى حدود سقوط جدار برلين سنة 1989. وليس مستغربا أن عددا من النخب السياسية الجديدة بأروبا تحقق وجودها السياسي اليوم، من خلال خطاب سياسي متطرف ينبني على إيديولوجيا دينية متشددة (كل خطاب اليمين المتطرف في أروبا يغرف من هذه البئر).
هل نحن أمام وضع عالمي جديد للعرب والمسلمين؟
عربيا وإسلاميا، نحن أمام متوالية للتغيير المجتمعي، لها قيمة التحول التاريخي، أقله منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي. وهذا التحول يجد مرتكزه، في انتقال أغلب المجتمعات العربية والإسلامية، من مجتمعات ذات نسب سكانية بدوية عالية، إلى نسبة سكان مدينية أكثر. ومعنى هذا، أن متطلبات هذه المجتمعات خدماتيا تتغير، بل وأن أفق انتظارها في معنى الوجود يتحول. هنا تولد مطالب المواطنة، وليس مطالب الرعية. أي أن الحراك المجتمعي يوجهه منطق المطالبة بالإنصاف. والإنصاف هنا، هو الحق العمومي في استهلاك كل خدمات المدينة الضرورية، المحققة للكرامة، من سكن وتعليم وصحة وشغل وإعلام ونقل وطرق وأجر محترم وماء شروب وكهرباء وأمن غدائي وتثقيف وترفيه وبيئة سليمة ومناطق خضراء... إلخ.
وإذا ما تأملنا ما حدث ويحدث منذ نهاية التسعينات من القرن الماضي في العالمين العربي والإسلامي، سنجد أنه تراكم للحراك الذي تنتجه هذه المطالب المدينية الجديدة. أي الواقع الجديد للفرد العربي المسلم. (وهذا أمر سبقت إليه أيضا عدد من الشعوب الأسيوية، منذ عقود، مثل اليابان والصين وكوريا والهند وعدد من دول أرخبيلات البلاد الهندو صينية، مثل ماليزيا وسنغافورة وتايلاند وأندونيسيا. التي كان التحرك فيها يتم مطلبيا من أجل تنظيم جديد للخدمات العمومية أكثر إنصافا وعدلا، من خلال آلية ثقافية لها مرجعية محلية). ويكفي هنا تأمل تطور واقع حال المجتمعين الإيراني والتركي، منذ الثورة الخمينية بطهران، للتيقن من ذلك. وأن ذلك التحول، ميزته أن روحه العمومية هي روح مطلبية مدينية، لكن خطابه النخبوي ديني. وبعد أن استنفذ ذلك الخطاب دوره، عادت المجتمعات هناك لتصنع مصيرها من خلال منطق للصراع، عمومي جديد، ينتصر لقيم المواطنة في معناها المديني الكوني، ضدا على الإقصاء الذي تمارسه نخبة سياسية متحصنه بوهم امتلاك النموذج الأليق بأبناء البلد. وللحقيقة، فإن تركيا قد استفادت كثيرا من الدرس الإيراني، وانتصرت بقرار تاريخي للتحول الذي يعزز من الدولة المدنية الديمقراطية، وليس الدولة الدينية المتشددة المنغلقة (كما حدث في إيران وحدث في أفغانستان ويحدث في السعودية). مثلما ان التجربة الباكستانية مهمة في هذا الباب، كونها تعيش صراع نخبة منذ أكثر من ثلاثين عاما، بين مشروع مدني وآخر ديني، وانتهت اليوم مجتمعيا إلى أن الحل هو الدولة المدنية، الضامنة للخدمات العمومية، المنظمة للتداول على السلطة عبر صناديق الإقتراع.
إن فوز حزب النهضة بتونس ديمقراطيا، وصعود نخبة جديدة في طرابلس تعلن اعتمادها المرجعية الإسلامية في التشريع (لم يكن أمامها أي مشروع مجتمعي آخر، وهنا الجريمة الكبرى لنظام القدافي)، وانتظار وصول جماعة الإخوان المسلمين في مصر إلى قيادة الحكومة، وقوة التيار الإسلامي المعتدل في اليمن، وقوة الحركة الإسلامية في سوريا، والحضور الوازن للتيار الإسلامي السياسي في الأردن، كلها مؤشرات عن تحول تاريخي، طبيعي في العالمين العربي الإسلامي، يجعلنا نغامر بالقول إننا أمام بداية لتحقق أحزاب «ديمقراطية إسلامية» أفرزها واقع التدافع المصلحي في بلداننا العربية والإسلامية. وأنها مرحلة عادية للوصول إلى الدولة الحديثة، المحققة للشروط الكاملة لنظام المدينة، بما يقتضيه من أسلوب تدبيري عمومي يوفر حق الخدمات العمومية بالإنصاف الأكبر بين كل أبناء البلد الواحد. مثلما بدأنا ننتقل من مشروع النخب، التي كانت تتحكم في الجيش والأمن والمخابرات والإقتصاد، إلى مشروع المجتمعات المدينية، التي يصبح فيها عمل مؤسسات الأمن عملا عموميا للبلد كله وليس لنخبة منه فقط. بمعنى أن التحول اليوم يتم سياسيا عبر آلية الإنتخاب الحر الديمقراطي، وليس عبر آلية الرقابة الأمنية لنخبة من النخب تأي عموما عبر الإنقلابات العسكرية.
دون أن نسقط من اعتبارنا أمرين هامين: أ- أن مشروعية الدولة هي مشروعية حديثة في أغلب بلداننا العربية والإسلامية (عدا المغرب وتركيا). لأن أغلب الدول العربية هي وليدة ما بعد الإستعمار، وما بعد خريطة اتفاقية سايكس بيكو في بداية القرن العشرين. فكان طبيعيا بروز إشكال سياسي للشرعية في الحكم. واليوم حسمت الشعوب هذه القضية، حيث الحكم لصناديق الإقتراع، أي للدولة المدنية الديمقراطية. ب- أن الحاجة الدولية اليوم للبلاد العربية، بعد سقوط جدار برلين، وقع فيها تحول في المصالح. ليس فقط لأن تلك الدول الغنية في حاجة إلى أسواق مستقرة مستهلكة ومنخرطة في دروة الإنتاج الإقتصادي العالمي. أي منتجة للثروات ومستهلكة لها. بل، إنها بلغت تدبيريا، مرحلة حاسمة في تغيير شكل علاقاتها مع دول الجنوب، من خلال شكل التعامل مع مشكلة الهجرة. والأمر هنا يعني الدول الأروبية أكثر، المنضوية في الإتحاد الأروبي. فهي لم تعد قادرة على تحمل فاتورة التخلف التدبيري في دول الجنوب، وأنها في حاجة إلى وسيط، يكون صمام أمان لها في غربلة الهجرة إليها. ذلك ما فعلته واشنطن مع المكسيك ومع دول أمريكا الوسطى، وذلك ما تحاول القيام به اليوم أروبا مع كل دول جوارها المتوسطي جنوبا وشرقا. أي إنه مع تطوير نظام الخدمات العمومية في هذه البلدان المتوسطية، ونقل عدد من رؤوس الأموال إليها، كي تنجز مشاريع اقتصادية خدماتية وصناعية بكلفة مالية أقل، لم تعد أروبا في حاجة إليها كفاتورة اقتصادية، وتوفر لها منتجات دقيقة (الإلكترونيات ومجال الطيران ومجال المختبرات وإنتاج السيارات.. إلخ)، فإن هجرة اليد العاملة الكمية، القادمة من الجنوب الإفريقي ومن آسيا الهند الصينية، يجب أن تجد له مجالا لفرص العمل في هذه البلدان المتوسطية العربية الإسلامية كلها (عدا إسرائيل التي ينتظرها تحول كبير وحاسم)، وأن تصبح هذه الجغرافيات الجديدة، ليست معبرا نحو «جنة أروبا»، بل موطن استقرار. هنا تتحول الدولة المدنية عندنا، إلى منتجة ثروات، وإلى آلية لتوفير الخدمات المدينية المغرية بتحقيق شروط الكرامة والإستقرار. وهنا، أيضا، كما لو أننا سنعود إلى دورنا التاريخي القديم وسطاء جدد بين عالمين. في القديم، زمن طريق الحرير، كنا وسطاء بين الشرق والغرب، واليوم سنكون وسطاء بين الشمال والجنوب. وهذا مشروع تاريخي ضخم، قد يكون مشروعنا العربي الإسلامي الأكبر للقرن 21 كله.
إن ما حدث في تونس وفي ليبيا ومنتظر حدوثه في مصر، وعدد آخر من الجغرافيات العربية، ليس سوى المقدمة الأولية لترسيخ الدولة المدنية في بلداننا العربية، عبر الآلية الحاسمة لصناديق الإقتراع. وأن منطق التدافع سيتغير في القادم من السنوات، سيجعل الأجيال العربية تنخرط في منطق لإنتاج القيم، هي القيم الطبيعية لنظام المدينة. بمعنى آخر، إن ذات المجتمعات ستفرز منطقا آخر للصراع، لأن المعركة القادمة ليست فقط معركة حقوق خدماتية، بل معنى وجود. أي صراع قيم، لن يكون سوى منتصرا لقيم الحداثة. كم ترن في الذاكرة تلك الجملة التي أطلقها الملك الراحل الحسن الثاني بعد فوز إسلاميي جبهة الإنقاذ بالجزائر، حين أجاب صحفيا فرنسيا، أنه مع أن تحكم الجبهة عبر صناديق الإقتراع. كان ربما من موقعه كرجل دولة، يوقن أن ما سيلي ذلك مجتمعيا هو الدولة المدنية في أفق منظور.
(في ورقة قادمة: الخصوصية المغربية
القوية والراسخة)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.