يتأسس تقويم الكتاب المدرسي في هذه الدراسة على مرجعية أساس هي ( الاختيارات والتوجهات)،وتعود مسوغات اعتماد هذه المرجعية إلى اعتبارات موضوعية أهمها أن هذه المرجعية موحدة لمقاربات مؤلفي الكتب المدرسية من حيث أسس ومنطلقات تعليم اللغة وتعلمها ،لا من حيث إبداع المقاربات البيداغوجية وما ينتج عن هذه المقاربات من طرائق التي يبقى المجال فيها مفتوحا لإبداع المؤلفين وتميز طريقتهم عن طرائق منافسيهم في سوق الكتاب المدرسي.أما الاعتبار الثاني الذي لا يقل أهمية عن الاعتبار الأول ،فهو الأسس النظرية والتطبيقية التي تتطلبها المقاربة التواصلية في تأليف الكتب المدرسية الخاصة بتعلم اللغات.إن تقويمنا هنا ينطلق من كتب اللغة العربية المستعملة في السلك الثانوي –الإعدادي ،السنة الأولى نموذجا،وفي هذا المنطلق يسعى التقويم إلى افتحاص بيداغوجي –ديداكتيكي لواقع الكفاية التواصلية التي وضعتها (الاختيارات والتوجهات) على رأس قائمة التعاقد البيداغوجي في هذا السلك . تعد المقاربة التواصلية في مجال تعليم اللغات استراتيجية نوعية.وتفسر الدراسات والأبحاث العلمية هذه الخاصية النوعية بجملة من الاعتبارات ،أهمها الاعتبار المؤسساتي ،ويذهب الباحثون إلى أن هذا الاعتبار ذو طبيعة داخلية تعود إلى ديداكتيك اللغة الذي كان قادرا على منح مصداقية للمعارف من خلال ابتكار الأشكال الديداكتيكية الملائمة لتعلم اللغات.ويرتبط هذا الجانب بالمستوى العلمي في هذه المقاربة،وهو المستوى الذي تجاوز الطرائق والمادة البراغماتية-التداولية .أما العامل الثاني فذو طبيعة مركبة،ومن خلال هذا العامل نعاين غنى المقاربة التواصلية التي تبقى مسالكها ذات طبيعة مستقلة ،وتساعدها هذه الطبيعة المستقلة في كونها تعدنا بالشيء الكثير في مجال تعليم اللغات وتعلمها.ومما تعدنا به في هذا المجال المرتبط بالكتاب المدرسي ؛أنها تسير في اتجاه يروم تحقيق التلاؤم ،وأشكال التعليم ،كما أنها تستجيب لشروط الوضعيات التربوية .وما يلاحظه الباحثون هو أن المقاربة التواصلية لم تقدم نفسها في سوق تعليم اللغات وتعلمها ،وفي سوق ديداكتيك اللغات تحديدا ،باعتبارها طريقة تعليمية ،ولكنها طرحت نفسها في هذا الحقل باعتبارها تفكيرا تقنيا وسياسيا همه الأساسي تحديد المقاصد وأشكال الأهداف التي يتوخاها تعلم اللغات . يتأكد هذا الاتجاه من خلال النص المؤسس للباحث (وليكنس).اعتمادا على هذه المرجعية نلاحظ أن المقترحات المقدمة لا تشير إلى الطابع المنهجي إلا بشكل محدود جدا.ويضاف إلى هذا ،أن المجلس الأوروبي سبق وأن عبر عن حاجته إلى توجيه التفكير المنهجي والاستراتيجيات المنهاجية اعتمادا على وثيقة نوعية تتضمن ممارسات تعليمية تواصلية،ومع ذلك فإن المقاربة التواصلية لم تدخل إلى حيز التطبيق إلا عندما بدأت تلك الخطوات الانتقالية التي احتفظت في ثناياها ببعض الممارسات القديمة .ونشير هنا إلى أن بداية تطبيق المقاربة التواصلية ارتبط بمجال الوضعيات الكتابية .كما اقترن هذا التطبيق بتلك الحاجة الاجتماعية التي بدأت عملية نموها تتضاعف بشكل مطرد خاصة في القطاعات المهنية التي ازداد طلبها على تعليم اللغات وتعلمها.إن سياق العولمة يفسر بوضوح هذه الحاجة ،كما يفسر تلك الحاجة الماسة إلى الكفاية اللغوية المرتبطة بالرأسمال المهني . كانت انتظارات مستعملي هذه اللغة أو تلك تتجسد في أن يسعفهم تعلم اللغات في اكتساب مهارات عملية مباشرة ،وبتوظيف ما تعلموه بسرعة ووفق إيقاعات ملائمة للتدبير الجيد لرأسمالهم الزمني .وتعد هذه الانتظارات مسوغات ابتكار الطرائق الواقعية والعملية التي تختزل تلك المسافة التي نعاينها بين الأساليب التعليمية الخاصة بالمدارس،وأساليب الاكتساب الطبيعي للغات واستعمالها. تتجسد هذه الواقعية-العملية من خلال ما يأتي: -التنظيم والبرمجة اللغوية بتجميع وتصنيف الأساليب المباشرة التي تستعمل في مبادلات لغوية حقيقية ( تصنيف أفعال الخطاب من حيث الدلالة والتداول،أو تصنيفها إلى عمليات تلفظية مبنية على إبداء رأي أو وجهة نظرالمتكلم. -استعمال مقولات الفهم من طرف المتعلمين،لأن هذه المقولات تعود إلى تجربة المتعلمين التواصلية مثل: التعبير عن تظلم أو شكوى،التعبير عن شكر،الاعتذار،تقديم اقتراحات... -تفادي الروابط القوية بين أساليب التعليم والاستعمال اللغوي المستهدف. لم تفقد هذه التصورات أهميتها في الوقت الحاضر،ولا زالت تحتفظ بجدواها في إعداد الكتب المدرسية وما يرافقها من دلائل خاصة بالمدرسين،ويعد حضورها القوي هذا في سوق تعليم اللغات وتعلمها من مسوغات اعتبار المقاربة التواصلية إطارا مرجعيا لإعداد الطرائق التعليمية .ومن هذا الإطار تأخذ المقاربة التواصلية اعتباراتها بكونها استراتيجية نوعية تمكنها من التميز عن الطرائق التقليدية العادية .( باستثناء بعض الإجراءات القليلة مثل معالجة وتصحيح الأخطاء الفونيتيكية).إن تعلم اللغة في المقاربة التواصلية لا يعني تعلم اللغة من أجل اللغة،فالمقاربة التواصلية مؤسسة على الكفايات المتعددة ؛الكفايات التفاعلية ،الكفايات ذات الطبيعة الصورية،الكفايات الثقافية ...،تستهدف اللغة في المقاربة التواصلية في خصوصيتها وفي أفقيتها ،والأمر نفسه يصدق على الاستراتيجيات الخاصة: المحادثة،بناء تصميم لإنتاج نص مكتوب .إن كل كفاية من هذه الكفايات تقوم باختيار الدعامات والخطوات المنهجية ،و شكل الإنتاج وأساليب التقويم ... يقتضي وضع التصورات الخاصة بتعليم اللغة وتعلمها بناء على نموذج الكفايات الفارقية،وضع منهجيات فارقية قابلة للتمفصل في ما بينها. لقد وضعت المقاربة التواصلية المبنية على الكفايات منظورات مفتوحة منذ خروج هذه المقاربة إلى حيز الوجود،لكن هذه المنظورات لم تتأسس على أرضية النظرية (الكلية)،ورغم حماية نفسها من الوقوع في مخاطر هذه الكلية ،فإنها لم تسلم من المسالك المتشعبة لمفهوم الوحدة البيداغوجية ،الأمر الذي سيفضي إلى هشاشة هندسة هذه الوحدات في الكتب المدرسية التي استعارت هذا التصور دون أي حسم علمي ومنهجي في العديد من القضايا والمشكلات الخاصة باللغة العربية ومكونها الثقافي في حقل التربية والتعليم . لم يبتعد التعلم في المغرب منذ الاستقلال إلى الآن،عن هيمنة الطريقة الواحدة في تعليم اللغة-الثقافة وتعلمها،واهذا بقي ديداكتيك المواد عموما ،وديداكتيك اللغة العربية خاصة،عاجزا عن تجاوز ضيق وتحجر وعقم الطريقة الواحدة .وإذا كانت الكتب المدرسية قد كرست جمود البحث والتفكير في مسألة الطرائق،فإن تكسير هذا التحجر يمكن أن يجد مخرجا له في مفهوم المقاربات المتعددة ،غير أن هذا المخرج يحتاج إلى تكوين علمي غير مرتجل،تكوين يبتعد عن سياق الاستعجال وخطاباته ذات الطبيعة الفلكية . يعد مفهوم المقاربات مرادفا عمليا لمفهوم الطرائق وتنوعها ؛وما يسوغ جدوى هذا المفهوم وأهميته التربوية والبيداغوجية والديداكتيكية هو تنوع المتعلمين واختلاف خصائصهم النفسية وتباين عاداتهم وطرائق تفكيرهم،وما يسوغ جدة هذا المفهوم أيضا ،تباين ممارسات المدرسين واختلاف تكوينهم ومستوياتهم ....وإذا كان التنظير التربوي لايشغل بال المدرسين الذين يواجهون كل يوم مشكلات ملموسة ،فإن تنوع المقاربات سيمكنهم من تصحيح العلاقة بين النظري والتطبيقي (العملي)،كما ستمكنهم المقاربات المتعددة من التحرر من هيمنة طريقة الكتاب المدرسي التي لا تراعي التركيب غير المتجانس للمتعلمين .إن وضع اللوائح الخاصة بالمتعلمين لا يخضع لأي اعتبار تربوي مدروس ،فتجميع المتعلمين يتحكم فيه المعيار العددي (الأرقام) ،والأمر نفسه يصدق على استعمالات زمن التعلم وتوزيع الحصص والمواد وانتشار وإعادة انتشار المدرسين ،كل هذه القضايا، وغيرها كثير،تبدد الجهود وتعصف بنجاعة التعلم . من المؤكد أن الخطاب التعليمي،الفلكي أو السماوي ،يعاني من أزمة خاصة هي أزمة ابتعاده عن حقيقة مشكلات التعلم. في سياق هشاشة مشروعات التكوين ،يصعب الانتقال من وضعية هيمنة الطريقة الواحدة إلى تعدد المقاربات.وإذا ما تم تجاوز مشكلات التكوين ،فإنه لا غنى عن المرجعيات النظرية القابلة للتطبيق،ذلك أن هذه المرجعيات بإمكانها أن تفرز لنا ما يعد ضروريا للتفكير في إشكالية الطرائق والمقاربات وإغناء الممارسات .بهذا الاطار يمكن للمدرس أن يعثر على تلك العناصر المغذية لتطوير ممارسته في اتجاه تعدد المقاربات ،لكن لا شيء يقترح هنا في غياب إشراك المدرسين في بناء التدريس على أساس تعدد المقاربات،فإشراكهم يمكننا من وضع الأدوات الملائمة لمختلف الوضعيات التعليمية-التعلمية.إن مشاركتهم في بناء المفهوم،وابتكار الأدوات،وتحليلها يمكننا أيضا من تجاوز مشكلات أخرى مثل شكهم في جدوى الإصلاح ،وفي ذلك (اللامعنى) الذي يسقطونه على كل خطاب تعليمي يحوم حول التعليم ويقول كل شيء إلا شيئا واحدا وهو التعلم.ولهذه الأسباب لم يفطن الخطاب التعليمي ( الفلكي)إلى تلك الحقيقة التي أفرزها سياق التحولات والمتمثلة في نهاية زمن الإيديولوجيا،وحلول زمن الحقيقة الذي يقتضي حل المشكلات بدل التحليق بعيدا عنها. إن ظاهرة الشك تؤخذ هنا باعتبارها سببا من أسباب فقدان الممارسين الفعليين لمؤشرات الارتكاز الضرورية لتطوير الممارسات واتخاذ المبادرات البيداغوجية –الديداكتيكية. إن ما يقدم للمدرسين اليوم من (تكوين) يبدو فاقدا لترابطه وتماسكه وجدواه في زمن لم يعد يقبل الارتجال وإن البحث العلمي الذي يتأسس على تلبية حاجيات المدرسين يمكنه أن يقدم دعما للمدرسين في جوانب كثيرة ،أبرزها؛الدراسة التحليلية المقارنة لطرائق المدرسين في تعليم اللغة-الثقافة ،استثمار نتائج هذه الدراسة التحليلية المقارنة في تحديد وإبراز الأسس النظرية المتحكمة فيها ،وتوضيح أهدافها ،وما توظفه هذه الممارسات من وسائل ،والنتائج التي تحققها،اقتراح مخططات البحث والتكوين بإشراك المفتشين والمدرسين والباحثين في مقاربة الصعوبات ،وحل المشكلات التي تفرزها ممارسات المدرسين داخل الفصول .يمكن أن تساهم مثل هذه المقترحات في وضعنا داخل المشكلات الحقيقية للتعلم ،كما يمكنها أن تمنحنا تلك البصيرة التي تمكننا من تسليط الضوء على مشكلاتنا التعليمية التي يحاول الخطاب التعليمي –الفلكي- أن يبعدنا عنها . * باحث تربوي.