في كل مرة يفاجئنا الباحث المغربي عبد الرحمن الملحوني بعمل يحمل من الطرافة ما يجعل قراءته متعة حقيقية و مغامرة مغرية. آخر هذه الأعمال الجزء الأول و الثاني من كتابه الصادر سنة 2011 في 400 صفحة بعنوان «حكم الإسلام في سماع السماع وآلات الغناء: زبدة آراء فيما اختلفت فيه المتصوفة و الفقهاء حول الإسلام في سماع السماع وآلات الغناء، جولة في فقه الغناء والموسيقى« . و يتضمن فصول مثيرة في معالجة الإشكال المعلن عنه في العنوان مستحضرا اجتهادات الفقهاء والمتصوفة و مستثمرا ميراث الذاكرة الشعبية . في هذا الحوار نقف مع الباحث عبد الرحمن الملحوني عند علاقة الملحون بالسماع و موقف بعض أعلام الثقافة الإسلامية من فوائد الإنصات للموسيقى والسماع. - موضوع طريف ذاك الذي اخترته لكتابك الأخير: حكم الإسلام في سماع السماع وآلات الغناء. ماهي دواعي اختيار مجال فقه الغناء والموسيقى في هذه اللحظة بالضبط ؟ - من اهتماماتهم، وأحاديث مجالسهم ومنتدياتهم الخاصة . وخلال عقد من الزمن مضى شاهدنا داخل بعض المدن العربية اغتيالات ومواقف عنيفة، من جراء الاختلافات الفقهية الواقعة في هذا الموضوع بالذات، وفي غيره من الموضوعات الدينية الساخنة. وشكل فن العزف والغناء أحد مجالات هذا النقاش، حيث تعالت أصوات المسلمين في كل زمان ومكان، في استحياء تارة و بجرأة مسؤولة تارة أخرى : هل الاستماع إلى الأصوات المطربة، والآلات الموسيقية المنغومة حرام؟ وما حكم الشريعة في الطيبات من المسموعات التي أخرجت للناس؟ لهذا حاولت في تأليف هذا الكتاب إبراز دور الفقهاء و رجال التصوف في هذا الموضوع استجابة لمئات الأصوات التي ترتفع اليوم هنا و هناك، و بهذه المناسبة أو تلك . سؤال : تعتمد كذلك في هذا العمل إضافة إلى المتون الفقهية بمختلف مشاربها، ما تسميه بالذاكرة الصوفية .. * نعم . كان هذا البحث يأخذ زاده المعرفي أثناء الإنجاز، مرة من ساحة الفقه و مجالس المتصوفة، ومرة من ميراث الذاكرة الشعبية وما كانت تختزنه العامة في الصدور من معارف ومعلومات، وهذا ما كنت ألجأ إليه وأنا أضع الهوامش لكثير من الأفكار والآراء التي ترد في كل فصل من هذا العمل، لأغني الموضوع، مساهمة في بيان ما كانت تزخر به الثقافة الشعبية، وبخاصة فيما كان يتعلق بالممارسات اليومية للمنتسبين للطرق الصوفية. وعند العاملين أيضا بأوامر الشيخ، والعرفاء, كذا التعرف على الإمكان الحضاري الذي كانت تمتلكه مجالس الطرقية، والتي كانت تؤهل المنتسبين إليها .. - هل يمكن اعتبار الملحون كأحد فنون السماع؟ - فن الملحون على الطريقة التقليدية القديمة لا يؤدى بواسطة بعض الآلات الموسيقية الوترية، ولا بغيرها، وإنما كان يعتمد المنشد على «التوسيد»، وهو ضبط الإيقاع بالكف قبل ظهور آلة « التعريجة« و في بعض الأحيان ، بآلة «الدف«. وفي السماع يعتمد على ما كانت تجري عليه الألحان في الموسيقى الأندلسية، سواء بسواء. ويبدو ذلك أساسا في الأصول الموسيقية التي كان يجري عليها المنشد، سواء كان في حضرة أهل الملحون، أو كان منشدا في محافل «السماع «. بمعنى أن الاتفاق بين الملحون و السماع حاصل في استعمال المقامات الموسيقية المتعددة في طرب الآلة ، و هي نفسها المعتمدة في فن السماع لأن ما كانت تجري عليه الإنشادات في طرب الآلة هي نفسها ما كانت تجري عليه في السماع .. - هذا عن مجال الاتفاق بينهما، وماذا عن مكامن الاختلاف ؟ - الاختلاف بين الملحون والسماع حاصل أيضا في طرائق الأداء، ومناسبات الإنشاد، فقد يكون الإنشاد في الأول، وهو فن الملحون، بإحضار بعض الآلات الموسيقية مثل التعريجة و الكمان وآلة العود وغيرها . وفي غيابها كان المنشدون يعتمدون كما قلنا التوسيد . كما أن شيخ الملحون يتمتع بكامل الحرية في الإنشاد واختيار موضوع الإنشاد الذي قد يكون «عشاقيا» (أي الغزل كقصائد : فاطمة، والخلخال، والديجور ..)، أو من الموضوعات التي تصف مجالس الأنس كما هو حال قصائد التراجم ( مثل الحراز وقصيدة «خصام الباهيات« و«الحجام» ..)، أو من «الخمريات ( كقصيدة «الساقي» و«الخمارة» و«الكاس» ..) أو من الربيعيات وهي القصائد التي تتغنى بالربيع ( كقصيدة العرصة والربيعية والرياض ..) أو من المديح التي يمدح فيها شاعر الملحون الرسول (ص) أو العترة النبوية أو مدح الأولياء .. أو من الشوقيات التي تتضمن شوق الشاعر لزيارة مكة ، و التملي بطلعة قبر الرسول .. وقد تكون من الزهديات وهي مجموعة من الأشعار ترقق القلوب و تنشط الوجدان الديني للجماعة الشعبية العريضة و هذا اللون يلتقي فيه رجال الملحون مع المسمعين .. - وهل كان الإنشاد في الملحون يخضع لطقوس معينة؟ - الإنشاد في كل هذه المواضيع لم يكن يخضع لطقوس معروفة، ولا لأدبيات مألوفة، إلا إذا ارتبط هذا الإنشاد بإحدى المناسبات الدينية ، أو العائلية وهذا بخلاف ما تكون عليه الإنشادات في محافل السماع و منتديات الذاكرين وخاصة عندما يكون السماع بأحد المساجد أو بزوايا المتصوفة، أو بالأضرحة. وفي هذه الحالة فالإنشاد يرتبط بموضوعات دينية، لا تخرج عما يرقق النفوس و يهذبها، وينشط وجدانها ومشاعرها. - معنى ذلك أن ليس كل الموضوعات صالحة للإنشاد في كل مكان... - نعم ، فقد أنكر جمهور الفقهاء، والمتصوفة سماع شعر الغزل في الأمكنة المشار إليها، والمتضمن لوصف « الخمور» و«القدود» و«الثغور» و«مفاتن المرأة» مع ذكر الهوى و لواعج الأشواق، والمحبة والغرام والهجر والوصال والتجني والصدود والدلال مما تتهيج به النفس .. لهذا اشترطوا أن يكون «السماع «مقرونا بالمناسبة التي لا توحي للذاكر، إلا بما يلزم من الحشمة، وما يوجبه الوقار و الاحترام .. بخلاف ما تكون عليه محافل «فن القريحة« عند أهل الملحون، حيث تبيح للمنشد من الإنشادات ما لا تبيحه محافل السماع . - إذن، أين نجد الأصول الأولى لفن السماع؟ - تعود الأصول الأولى لهذا الفن إلى مرحلة فصل «العوام» عن الملاهي التي يجذب إليها الغناء المصحوب بالآلات الموسيقية، وتطورت هذه الأصول الفنية بفعل الزمان، وبعوامل اجتماعية معينة عند كل جيل من الأجيال، فمس بعضها اجتهادات « الملحنين « والمبدعين ، ومس بعضها الآخر، التأثيرات الفنية المختلفة التي أحدثها أهل السماع من جهة، وأهل الملحون من جهة أخرى، ولا سيما في المراحل الأولى حين كان منشدو الملحون يعتمدون في إنشاداتهم على فن السرادة . ويذكر أهل الملحون أن فن» السرادة» نشط نشاطا ملحوظا حين حرّم الفقهاء الإنشادات المصحوبة ببعض الآلات الموسيقية داخل المساجد، والأضرحة وزوايا المتصوفة ومع هذا، فقد كان منشدو قصائد الملحون ينشدون الألوان الدينية بهذه الأمكنة كقصائد « لخلوق « أي ميلاد الرسول (ص) و قصائد المعراج والتوسلات والزهديات والتصليات و غيرها .. - ربما أن الإنشاد في السماع مقيد أكثر من مثيله في الملحون؟ - الإنشاد في محافل أهل الملحون هو أكثر فسحة في مجال حرية المنشد في اختيار الموضوعات، والمكان. أما السماع فظل يتميز عنه بمميزات فنية منها كونه فن أصيل يرتكز على معطيات فنية موسيقية تقوم على مبدأ الشعر المُغنَّى والموقع توقيعا فنيا، له أصوله وجذوره اللحنية القديمة .كما أن جميع الإيقاعات الموسيقية فيه وكذا الطبوع والأنغام تجري بدون وجود آلة موسيقية، فيعتمد المنشد على ضبط الإيقاع، على ما كان يعرف بالتوسيد وهو الضرب بالكف، في مقابل ضبط الإيقاع بالتعريجة عند أهل الملحون القدامى. بل يسمح في فن السماع بكل الإيقاعات الموسيقية بداخل المساجد والزوايا والأضرحة ن شريطة كما تمت الإشارة إلى ذلك عدم إحضار الآلات الموسيقية. زد على ذلك لزوم الحشمة خلال الإنشاد ، حيث لا يجب أن تخرج موضوعاته الأدبية عن شعر الزهديات والشوقيات والتصليات وتنبيه الغُفاة من المريدين والأتباع الضالين .. - ربما القصد في ذلك ما يحدثه سماع الألحان الطيبة من اثر في النفس؟ - أورد هنا قولة للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي حيث قال في كتابه «شجون المشجون» : «إذا كان الذكر بنغمة لذيذة، فله في النفس أثره، كما للصورة الحسنة في النظر أثر» كما قال إسحاق الموصلي مبينا أثر السماع في النفس : «كان أبي حفصة يتغذى عند ابي، فإذا فرغ، قال: أطعموا آذانكم رحمكم الله وكان يعني بذلك إنشاد الشعر، أو الجمع بين الإنشاد و العزف على بعض الآلات الموسيقية أو الاستماع على القرآن مجودا، ومرتلا ترتيلا حسنا». ومن ذلك أيضا ماذكره الصوفي الزاهد الشيخ فتح الله بناني في رسالته حول «الطرب والسماع» حيث قال :» ذكروا للطرب فوائد حسية و معنوية، فمن الحسية أنه يسلي الهموم و الغموم و ينفِّس عن المرضى ويعين على تحمل أثقال الحس ..» كما قال في نفس السياق : «من لم يحركه العود، وأوتاره، والربيع وأزهاره فذاك فيه طبع من طباع الحمير» وتروى هذه القولة بصغة اخرى عن الإمام الغزالي حيث يقول: «من لم يحركه الربيع وأزهاره ولا العود وأوتاره، فهذا فاسد المزاج ليس له علاج».