الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله في الأشهر الأخيرة، قمت بزيارة أربع من حواضر المغرب، ألقيت في كل منها خطابا أو خطابين، لقد دشنت مدرسة بمراكش، واثنتين بفاس، وأخرى بالبيضاء، واثنتين بسلا، ووجدت لدى السكان في هذه المدن الخمس الفهم وحرارة الحماس، ما يملأ القلب سروراً، و النفس حبوراً، وإن زيارتي لمدينتكم الجميلة في ركاب صاحب الجلالة أعزه الله، ومشاهدتي لتلك المظاهرات العجيبة التي قابلتم بها الموكب الملكي جعلت لطنجة في ضميري مكانا خاصا ونزلا رفيعا فإليكم شكري وتهنئتي. أيها السادة: تمر الأمم والشعوب في حياتها بأطوار متباينة، وتقطع مراحل مختلفة، وتشعر بإحساسات متناقضة، فالأمة في عصر هرمها وسقوطها تعيش مفككة الأجزاء، متضعضعة الأطراف، مبلبلة الأفكار، يعمل كل فرد منها لمصلحته الخاصة، وربحه العاجل، وكأن ليس بينه وبين أبناء وطنه صلة روحية، أو رابطة اجتماعية، أو أخوة قومية، أما كتاب الأمة ومفكروها فيطلقون العنان لخيالهم عله يجد بين طيات ماضي البلاد المجيد، مفخرة رفيعة يتغنون بنشيدها في معركة حاسمة يخفون بانتصار أجدادهم فيها عجزهم الممل وهوانهم المخجل. أما حاضر البلاد ومستقبلها، أما مصلحة الأمة وسعادتها، أما العمل والجد والتضحية في سبيل استرداد مفاخرها، واسترجاع مجدها، فتلك مشاكل يتركون للغير عبء إيجاد حلول لها، ومسائل يقنعون أنفسهم بأنهم ليسوا مطالبين بالإجابة عنها. هذه مميزات الأمة في طور كبوتها وهرمها الى أن تضع حدا لخمولها فتدخل في طور جديد، طور النهضة والانبعاث، ورحلة الترميم والتجديد، وزمن الإبداع والتشييد. فعصر النهضة شباب الأمة: فيه تبني مجدها بنفسها، وفيه تؤسس عزها بعملها، وفيه تنظر الى حاضرها بعزم، وإلى مستقبلها بتفاؤل، تعيش بين الأمم مرفوعة الرأس، ممتلئة ثقة واستعداداً، لا تفكر في ماضيها إلا بقدر ما تستفيد من تجارب سلفها الصالح العامل. ففي أي طور يا ترى يحيا مغربنا العزيز المفدى؟ ألازال مكتوف الأيدي يهوي في قعر الظلام في بصره غشاوة؟ ألم يشرع يسترد شعوره ويستجمع قوته وينادي أبناءه ويوحد جبهته؟ ان المنصف لا يسعه إلا أن يسجل تلك العلامات الواضحة، والأمارات الباهرة، الدالة على انقلاب أساسي في أفكار الأمة المغربية وفي أعمالها ومشاعرها. لقد انقضى ذلك العهد البغيض الذي كان فيه يعمل كل مغربي لنفسه، لا يهمه إلا عيشه، فالمغربي اليوم، عظيما كان أو حقيراً، كبيراً أو صغيراً، مستعد للتضحية بماله وهنائه، بل وحياته في سبيل حق المغاربة وسعادتهم، وعزهم وفخارهم. ثم إن مجموع الأمة قد برهن على استعداد كامل وتسابق الى العمل فريد، ومن أراد الدليل على ذلك، فليجل الطرف في عشرات المدارس التي ارتفعت جدرانها بسرعة فائقة في حواضر المغرب وبواديه، هي أعمال مغربية والأموال المنفقة عليها مغربية بالأهداف التي تسعى لتحقيقها. فهل بعد هذا نوسم بأننا قوم كسالى خاملون بالأوهام والخرافات متشبثون؟ لقد فتحت التجربة عيون المغاربة، وأنارت المعرفة أذهانهم، وامتلكت المدنية الحقة قلوبهم وألبابهم، فلا حاجز يقف في طريق نهضتهم، ولا صاد يعوقهم عن إدراك بغيتهم، ولا صعوبة تردهم عن سعيهم، بل هم إلى النجاح سائرون، وإلى قمة المجد صاعدون، وعلى أمنيتهم محصلون، ضمنوا الظفر باجتماع شروطه الثلاثة: العقيدة الثابتة، والهدف الجلي، والقائد الخبير المسموع الكلمة تجتمع عليه الأمة. فالاسلام عقيدتنا لا نبغي بها بديلا وحق الوطن هدفنا نضحي في سبيله بالعزيز والغال، وملك المغرب قائدنا تحت قيادته نسير، وبهديه نهتدي، وبأمره نأتمر، وحول عرشه نلتف، ذلك العرش الذي هو للأمة المغربية رمز وحدتها وقوتها وعزتها. لقد كان الملوك الجالسون على أريكته من أول القادة، داعين الأمة العربية الى التسلح بسلاح المعرفة، وإلى اتخاذ الوسائل العصرية للدفاع عن كيانها وضمان سيادتها. ففي أوائل القرن الماضي وأواخره، ومن بين الشعوب الاسلامية التي كات مازالت تتيه في بيداء الجهالة، نهض رجلان عظيمان ورئيسان جليلان وسياسيان محنكان يهيبان برعاياهما إلى العمل، ويهيئان لهم النهوض ويعبدان طريق الازدهار. ينفخان فيهم روح الحياة والعزم والنضال. لقد كان محمد علي الكبير خديوي مصر ومصلحها العظيم ومولاي الحسن ملك المغرب ورائده العبقري، من المؤسسين السابقين لصرح النهضة العتيد، ومن الأفذاذ النوابغ الذين هيأوا شعوبهم للدخول في معترك العالم العصري، مزودين بما يضمن لهم نجاحاً مشرفاً ومركزاً ممتازاً. لقد عمل مولاي الحسن بكل عزم على نقل تلك الشعلة التي انبثقت في الشرق. نعم لم يكن هذا المجدد العظيم جاوز العشرين من عمره عندما خارت قوى خديوي مصر الكبير سنة 1849 ،لكنه لمن ينتظر جلوسه على عرش اجداده لرمي البذور الاولى للنهضة. فله ولاشك يرجع الفضل في ارسال تلك البعثات الى مصر على عهد أبيه لأخذ العلوم العصرية التي ازدهرت بها، وبمجرد ما ولي الامر وضع برنامجا واسع النطاق. وخصص الاموال اللازمة للاصلاح العصري الشامل الذي ناضل في تحقيقه بمملكته، مجتهدا لنفسه تارة، ومقتبسا اخرى من الشرق والغرب اللذين كانا منهلا سائغا للمغاربة الواردين عليهما. إن الطلبة الذين أرسلهم مولاي الحسن الى أوربا كانوا رواد هذه الامة المغربية في ميدان المدنية العصرية، ولقد ضربوا بسهمهم في تأسيس مآثر هذا العصر السعيد التي ظلت قائمة الآن شاهد عدل على الجميل الفائق الذي أسبغه هذا الملك الجليل على وطنه، وإن طنجة وأبناءها الاحرار مازالوا ولا شك يتناقلون أخبار تلك الزيارات التفقدية التي كان يقوم بها العاهل المغربي العظيم في سبيل الاحتفاظ بوحدة التراب المغربي، وتنوير الاذهان المغربية وإثبات الامن والنظام في اطراف البلاد، وإذا كانت جهود مولاي الحسن لأسباب خارجية ومقاومات داخلية لم تتابع وتغذ حتى توتي الثمرة المبتغاة، فلقد قدر للقطر الشقيق والوطن الثاني لكل العرب بمصر العزيزة ان تتزعم عن جدارة واستحقاق قافلة الامم العربية، وتتولى مهمة قيادتها الى هدفها الاسمى وغايتها القصوى. ازدهرت النهضة في بلاد الكنانة وشملت كل مناحي الحياة. فهناك نهضة دينية ونهضة صناعية كما ان هناك نهضة علمية ونهضة اقتصادية قطعت أشواطا هامة ولكن فوائدها لا تقتصر على سكان وادي النيل بل تتعدى حدود الوطن الضيق الى أرجاء الوطن الكبير وطن العروبة والاسلام الذي يجمع في وحدة متراص ة البنيات ورابطة متينة العرى أقطار الشام والعراق والحجاز واليمن وبلاد المغرب العربي، فليس جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، رجال الاصلاح الديني في مصر فحسب بل هم أئمة الاسلام في مشارق الارض ومغاربها، يجد المسلمون في رسائلهم ومقالاتهم ومؤلفاتهم قبسا يحلون به مشاكلهم وإرشادا يجددون بهم إيمانهم. كما أن شوقيا وحافظا هما شاعرا الأمة العربية جمعاء يطرب لقريضهما العرب أينما كانوا وأينما حلوا. أما كتاب مصر فلقد أصبحوا المثل الأعلى للأدباء والمتأدبين في العالم العربي بأجمعه. بما أنتجوه من مؤلفات وما أنجزوه من أبحاث وما أبدعوه من أساليب، غير أني شخصيا معجبة كامل الاعجاب بكتاب أصبح منذ اليوم الذي قرأته لأول مرة، رفيقي الوفي ومرشدي المخلص األا وهو كتاب حياة محمد للأستاذ هيكل. لقد أسدى هذا الأستاذ الكبير بما أبداه من عمق في التفكير وإصابة في التفسير وسعة في العلم الى قضية النهضة الدينية جميلا لن يبلى إذ طهر السيرة النبوية من تلك الخرافات التي دسها أعداء الاسلام بين طيات تاريخه قصد إخفاء نور الرسالة الوضاء فجزى الله الأستاذ عن عمله هذا خيرا وجزى مصر وأبناءها وبناتهاعنا نحن بنات المغرب اللائي يقدمن تحياتهن الى زعيمات النهضة النسوية بمصر، والى طالبات جامعاتها ومدارسها، معربات عن تصميمهن على السير في الطريق التي سرن فيه، وعلى إحراز النصر الذي أحرزنه. فاقتداء بهن و تلبية لنداء ملك البلد، نهضت الفتيات المغربيات يساهمن بكل حزم وعزم في وضع أسس النهضة المغربية، وفي تبليغ الرسالة العلمية الى جميع طبقات الأمة، وادخال الثقافة والعرفان الى المنزل كي يغمره النور والنظام والهناء. لقد أقبلت الفتيات على المدارس التي خصصها سيدنا أعزه الله لتربيتهن وتهذيبهن وتثقيفهن يكرعن من مناهل العلم، يغذين سليقتهن العربية، ويجدن دراسة لغة الضاد وآدابها وتاريخها ويكببن على تعلم لغات الأمم الأخرى بقصد توسيع معلوماتهن واطلاعهن على عقليات مختلف الشعوب، وبعد انتهائي من خطابي هذا يسرني أن ألقي عليكم باثنين من اللغات التي وضعها سيدنا أيده الله ضمن برنامج تعلمنا، طالبة من شاباتنا أن يعملن على الفكرة ونشر الدعوة بالأخص في تلك الجماعات التي أنشأنها بمختلف المدن قصد التحرر من أوهام الخرافات وأغلال الجهالة. لقد سجلت كل من هذه الجماعات أعمالا مشكورة أنجزت مشاريع محمودة، غير أني أخص اليوم بالذكر جمعية نساء تطوان النشطة لأشكرها على جهودها الموفقة وعلى نضالها القوي، وأبلغها تحبيذ وسرور سيدنا بتلك الروح الوثابة وذلك الايمان الراسخ وتلك العاطفة الثابتة التي بثنتها في برقية طلبن مني أن ارفعها الى صاحب الجلالة أعزه الله، وسيدنا ينتظر من جميع نساء المغرب ان يواظبن على الجد في التعلم والاجتهاد في الرقي، إذ هن خير مقياس على نهضتنا وحضارتنا، وأفضل ضامن لتوالي صعودنا وارتفاعنا، وأكبر عامل على تحقيق ذلك البرنامج الإصلاحي الملكي الذي سيمكن المغرب بفضل جهود ملكه الهمام من قطع المراحل قطعا حتى يقف اليوم في العهد المحمدي كما كان في العهد الحسني في أول الأمم العربية بجانب القطر الشقيق مصر التي اتخذناها مثالا لما نريد أن تكون عليه بلادنا. إن ملكنا سيجعل من القرويين أزهر المغرب ومن نخبة المثقفين رجال الجامعة المغربية ومن المغاربة أجمعين، إخوانا صافية قلوبهم طاهرة نفوسهم. إن أملنا في النجاح السريع قوي ورجاؤنا في التفوق شديد، إذ أن أمة غنيها كريم، مصلحها مصيب، ومفكرها مخلص وجمهورها حي متحمس، جمعت كلمتها ووحدت صفوفها وراء ملكها العبقري وقائدها الفذ، لا يمكن أن ترضى بغير السماك منزلا فليحيى ملك المغرب ولتحيى الأمة المغربية ولتحيى النهضة.