بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه في مستهل هذا التقديم الوجيز نشكر هذه الجريدة الغراء التي نشرت لوالدنا في الأسبوع الماضي خطابه التاريخي الهام في الدورة الخامسة لمؤتمر العالم الإسلامي، الذي انعقد في بغداد مختتم 1381 م. وهذه الوثيقة النادرة التي سعينا إلى إخراجها ونفض الغبار عنها لقيت ترحابا كبيرا واستحسانا لدى كل مطلع عليها، مما حمسنا للمزيد من إخراج أمثالها، وارتأينا هذه المرة أن ننشر له نص مقابلة إذاعية عن رحلة أو جولة تفقدية قام بها أثناء توليه وزارة الأوقاف في أول حكومة بعد الاستقلال. هذه الرحلة انطلقت من العاصمة إلى درعة وتافيلالت وما إليهما، مرورا بالبيضاءوالجديدةوآسفي والصويرة، وقد وجدنا مسودتها مكتوبة بخطه، ولا ندري هل أذيعت هذه المقابلة الصحفية أم لا، وحتى وإن أذيعت فلها مزية كبرى لنشرها، لأهميتها أولا، ولكونها ثانيا تبين حرص كاتبها على تسجيل وتدوين كل مراحل حياته، ونحن الذين أطلقنا عليها هذا الاسم الرحلة الوزيرية، وهي من رحلاته التي لم تكن معروفة، فاقرأها أيها القارئ العزيز وترحم على صاحبها. لماذا نشر هذه الوثيقة التاريخية؟.. سؤال مشروع مادام الأمر يتعلق بحديث إذاعي لوزير من الوزراء المغاربة، لكن مطالعة هذا الحديث تجعل النشر مطلوبا، فمن ناحية أولى تعرفنا الوثيقة على جانب مجهول من شخصية العلامة محمد المختار السوسي، أي جانب الشخصية الحكومية والتي تنذر الدراسات إن لم نقل تكاد تكون منعدمة حولها، والحديث الإذاعي الذي ننشره يقدم مادة علمية تتيح التعرف عن قرب على شخصية الوزير رغم قصر المدة التي قضاها في وزارة الأوقاف والتي لم تتجاوز حدود السنة، وبالضبط 11 شهرا بين سنتي 1956 و1957، ومن ناحية ثانية فهذا الحديث ينقل لنا جزءا من وضعية ما يسمى اليوم بالحقل الديني، تقدمها لنا عين عالم تمرس طيلة عقود على الاشتغال في مساجد المغرب وزواياه، ثم عاد ليتفقد عددا منها وهو في موقع المسؤولية بعين العالم الداعية. أما من ناحية ثالثة فالوثيقة تقدم لنا فكرة عن انشغالات الوزارة في بداية الاستقلال، وكذا منهجية تحديد هذه الانشغالات عبر الزيارة الميدانية التي تتيح المعرفة المباشرة لحاجات الناس والتحاور معهم والإصغاء لهمومهم. إن هذه الوثيقة على بساطتها الظاهرة تكشف جوانب مجهولة بالنسبة للدراسات القائمة حول المغرب وتحولاته الدينية، وهو ما دفعنا إلى نشر هذه الوثيقة ضمن سلسلة الوثائق الناذرة في مسار الشيخ العلامة المختار السوسي. ش سمعنا معالي الوزير بجولة لكم أخيرا استوفت أسبوعا، فهل يمكن لكم أن تتفضلوا بأن تفيدوا المستمعين بالانطباعات التي رجعتم بها من سفركم؟ إنني أتشرف بأن أتصل بالمستمعين الكرام بوساطتكم، ولكن لا بد أن تحددوا أسئلتكم لتحدد الأجوبة، فإن لكل سؤال جوابا خاصا، ومتى حددت النقط يسهل ما تقترحون من تلك الانطباعات المتراكمة في مخيلتي. علمنا أنكم زرتم بعض الحواضر وبعض البوادي، فقد كانت الجديدةوآسفي والسويرة(1) مجالات لزياراتكم، فحدثونا عنها وعن الجو الذي تحسونه لما اجتمعتم بأهلها. إن لهذه المدن الثلاث لذكريات تستشير من أعماق كل من يلم بتاريخها، شعورا حيا بأن المغرب الباسل لا ينام عن ضيم، ولا يتوانى في استرجاع كل ما عسى أن ينتقصه الأجانب، باستعارهم من مجموعه الذي جمعته الطبيعة، ثم لا يمكن ان يتجزأ، فمن ذا الذي ينسى الجهود المبذولة من شعبنا الباسل، في استرجاع الجديدةوآسفي، بعدما التهمها الاستعمار ما شاء الله، فعادتا حاضرتين إسلاميتين يسمع فيهما صوت الأذان، بعدما كانتا أحقابا لا يسمع فيهما إلا رنين النواقيس، أو من ذا الذي ينسى العزيمة التي أسس بها يعسوب الدولة العلوية مدينة السويرة تأسيسا عجيبا حين اتخذت الحصن الحصين للأسطول المغربي، يوم كان لا يزال الأسطول المغربي مرفرف الأعلام، يلجج ما بين بحر الأطلنتيكي والبحر الأبيض المتوسط، على أن الذين استرجعوا الجديدةوآسفي، وأسسوا ثغر السويرة قد جمعوا بين تحصين هذه الثغور بالقوة المادية، من الأسوار المتينة المحفوفة بمدافع الدفاع، وبين تحصين أخلاق أهلها بالقوة المعنوية التي تتجلى في المساجد الواسعة الفيحاء التي تشرفت بزيارتها في الحواضر الثلاث، فما أنسى لا أنسى تلك الاجتماعات التي تعانقت فيها القلوب كما تتعانق الأعناق وتكلمت فيها عاطفة الدين، وفاضت فيها مشاعر روح الإسلام حتى فاضت المحاجر من الحاضرين بالتأثر العجيب، ومن ذا الذي يملك دموعه حين يتأثر بآيات القرآن الكريم، ومن آيات القرآن الكريم من السحر العجيب: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله). فقد كنت وأنا بين أبناء تلك الثغور أسرح بخيالي إلى العصور الماضية، فكأنني أرى الشجعان الذين استرجعوا الجديدةوآسفي، فأتمثلهم في أبنائهم الذين يلتفون حولي في تلك المساجد، فأحس أن الله أسعد هذه الأمة، فتشابه أخلافها وأسلافها، فكانوا كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره، أو ليس من الواجب اليوم ونحن في استقلال جديد أن نقيم حفلة ذكرى لمرور قرنين على استرجاع الجديدة ونحوهما لاسترجاع آسفي ولتأسيس السويرة، فإن في هذه الذكريات لحفزا لنشئنا هذا الذي مرأ بناءه يتعالى إلى اقتناص المعالي وإحراز المفاخر في كل مناسبة. إن الإنسان إذا خرج من البيضاء ثم مر بالجديدة ثم آسفي ثم السويرة، يحس بأنه خرج من جو متموج مثر يكاد بعضه يكون مترفا، إلى جو آخر هادئ متوسط متعفف قنوع، وأصحاب هذه الأوصاف هم الذين يندفعون عادة إلى الروح الدينية، فتعمر بهم بيوت الله عمارة تلفت الأنظار، وهذا ما لفت نظري أنا أيضا، إلا أن الدروس الدينية والمدارس التي بنيت للطلبة إزاء المساجد قد صارت أطلالا في السويرة أو أدخلت في بنايات أخرى، وأما في آسفي فهناك مدرسة لا تزال صالحة، وفيها طلبة يتتبعون بعض الدروس وإن كانوا لا يجدون أساتذة متفرغين لهم يتابعون معهم الدراسة، وقد كانت كل هذه المساجد عامرة إلى العهد القريب بمدرسين كبار طوال النهار، بحيث يجد كل الحفظة للقرآن دروسا عربية لغوية فقهية ما يريدون في مساجد مسقط رؤوسهم، ثم لا يرتحلون إلى مراكش أو إلى فاس حتى يشدوا وربما يتفوقون. هذه أيها السائل الكريم بعض الانطباعات التي يتراءى لي أنني فارقت بها هذه الحواضر الثلاث، التي تحمل طابعا خاصا متشابها تمتاز به عن بقية حواضر المغرب الأخرى، حتى السعد قد واتاها بأقلام خلدت من أخبارها وتراجم رجالها ما يجعل لها حياة خالدة، فكتاب آسفي وما إليه للمرحوم الكانوني بأجزائه المتعددة، وكتابان آخران عن السويرة، وآخر عن فتح الجديدة، هذه الكتب كلها جعلت لتلك المدن هالة مستنيرة متسعة. نشكركم يا معالي الوزير على هذه الفوائد الجمة التي أفدتموها المستمعين عن هذه الحواضر، ونريد أن تتكلموا لنا عن تمام رحلتكم إلى درعة وتافيلالت وما إليهما، فإن تلك الجهة مجهولة عند غالب أهل الشمال. بكرنا من الحوز بكور الغراب من قبل أن تشرف شمس الضحى: "ريق الغوادي من ثغور الآقاح"، كما يقول الشاعر ابن رشيق، فصمدنا إلى جبل أكلو، فكم عطفة التففنا حولها، وكم جبل شامخ تسلقنا وكم منحدر انصببنا فيه، فقطعنا من ثكانة إلى وارزازات منعرجات عجيبة، فلولا أن الطريق معبدة ومستداراتها موسعة، لما أمن الإنسان من الاصطدامات بين السيارات الطالعة والهابطة، وقد تذكرت ونحن في ثنية تشكل التي تسمى ناحيتها ثنية الأكلاوي، يوم عبر فخر العلويين أجداد مولانا نصره الله هناك، وخطب بسلطان العثمانيين تطوعا منه، وجمعا لكلمة المسلمين، كما نرى اليوم حفيده إمامنا محمدا الخامس يسير على هذه الطريقة نفسها، وكذلك تكون القلوب التي خالطتها بشاشة الإيمان. ثم أطللنا على ذلك البسيط الأجرد الممتد طولا وعرضا، وفي وسطه مركز ورزازات، وهذا الاسم ورد في كتاب المسالك والممالك للبكري، الذي ألف سنة ,460 وقد جلسنا سويعة مع عامل تلك الناحية، الشاب المقتدر المذبوح، فمتعنا الأبصار في الأشجار المخضرة، التي يرف بها ما حوالي المركز، ثم زدنا قدما إلى وادي درعة، فإذا واد عظيم ملتف تالأشجار، زاخر بالقرى على ضفتي الوادي الممتد إلى مائتي كيلومتر المستطيلة، وسكان درعة يصلون إلى مائة ألف أو يزيدون، وهذا الوادي يمد وادي ورزازات ووادي سكورة ومكونة وقرب ملتقاه على رأس وادي درعة أسفل وارزازات، يهيأ اليوم سد كبير سيحيل جوانب درعة جنانا فيحاء وحدائق غلبا، وقد ابتدأنا مع وادي درعة من مركز مزكيدة منحدرين، فتمر طريقنا إزاء النهر الطافح بالمياه لنزول أمطار كثيرة، فكان سيرنا نزهة ما مثلها نزهة، فنقف فينة بعد فينة في إحدى القرى فنزور المساجد، وبعد قطع مائة كيلومترات وصلنا المركز الرئيسي زاكورة، حيث وجدنا القائد مولاي علي في الانتظار باحتفاء زائد من جموع ألقينا فيهم كلمة اقتضاها الموضوع، تتضمن إبلاغ السلام لهم من سيد البلاد أيده الله، وبينا لهم أن التضحية التي ضحى بها في عرشه وفي أهله ما ضحاها إلا من أجل إسعاد رعيته ليعيشوا في حرية وطمأنينة وبلهنية عيش، لا يخاف أحدهم على نفسه وماله، وأن الواجب هو الاتحاد والالتفاف حول العرش والإقبال على العمل، فإن السماء لا تمطر مالا وإنما يكتسب المال من الأرض، أوليس أن الإنسان اليوم إذا اكتسب إنما يكتسب لجيبه، فلا غرامة لقائد ولا خوف من أعوان قائد ولا سجن إلا لمن اجترم جرما بنفسه، ويخلل ذلك بآيات الكتاب الكريم، فأثر ذلك في الناس تأثيرا عظيما لمحبتهم وإجلالهم لإمامنا المنصور بالله، وهكذا تكون كل الكلمات التي تلقى في كل احتفال قوبلنا به هناك، زيادة على الحث على الديانة وعمارة المساجد، ثم عند الأصيل وصلنا زاوية تمكروت التي افعوعم تاريخها الممتد إلى زهاء أربعة قرون، بالعلم والدين والإرشاد، وقد كان هذا الموقع خاليا إلى القرن العاشر، فنزل فيه الشيخ سيدي عمرو الأنصاري من أحفاد سعد بن عبادة، الصحابي الشهير، ثم جاء الشيخ القباب ثم خليفته الإمام أحمد بن إبراهيم، باني المسجد الجامع الكبير ثم الشيخ محمد بن ناصر ثم أحمد ولده، وفي عهدهما زخرت عمارة الزاوية، يوم تخرج من هناك فطاحلة كاليوسي والعياش والتجمعتي وأحمد بن عبد القادر التستاوتي وأحمد السباعي والمختار السباعي، وبنسليمان الروداني وأحمد الصوابي ومحمد بن علي الهوزالي وأحمد الأسفركيسي، وحسين الشرحبيلي وأحمد أحزي، وكثيرين أمثالهم وذلك يوم تضم الزاوية من المنقطعين لأخذ العلوم ألفين وزيادة، ثم جاءت تترى أيام سيدي موسى وسيدي جعفر وسيدي يوسف وسيدي علي بن يوسف وسيدي أبي بكر وولديه محمد وأحمد، ثم عبد السلام الأخير. فهكذ تسلسل العلم والصلاح والإرشاد في هذه الزاوية التي أسست على الثغور من أول يوم، وأشهد الله وأنا أعلم ماأقول أنني ما عرفت في المغرب زاوية أدت في قرون متوالية ما أدت هذه الزاوية التي أتشرف الآن بالإقبال عليها، فأجد أهلها شكر الله سعيهم يتلقون محبا لهم وعارفا بقدرهم، فبتنا عندهم خير بيات، ثم قبل خروجنا جلنا جولة في مساجد الزاوية الستة، وزرنا مشهد سيدي عمر مؤسس القرية، ثم مشهد الأشياخ رضي الله عنهم، ثم ألقينا نظرة على مسجد مؤسس حديثا متسع، لما يتقدم البناء فيه كثيرا، كما زرنا المدرسة ومجلس الشيخ محمد بالفتح بن ناصر للتدريس، ثم ودعنا القوم بعدما أودعناهم قلوبنا شكرا لما أسدوه. كذلك غادرت الزاوية وأنا أقول: هنا كان المحدث الكبير محمد بن عبد السلام، وهنا كان الأديب أكنسوس في شرخ شبابه، وهنا كان أدباء الناصريين كالمكي صاحب الرحلة، والأديب علي بن محمد الناصري، وأمثالهما من الأدباء الناصريين، فذهبت بي الذكريات كل مذهب، فأرسلتها زفرة من حنايا صدري على عدم اهتمام أهل هذا العصر بمنابع عزهم، وأماكن شرف أسلافهم، وقد اشتهر أهل هذه الزاوية من قديم بالإخلاص للعرش العلوي، ولا يكاد رئيس من رؤساء زاويتهم يفارق الركاب العالي. ثم من تمكروت إلى مركز زاكورة، حيث وقفنا على مشهد الشيخين سيدي محمد الشيخ وسيدي أحمد الفقيه الركني في قرية أمزرو، ثم صعدنا مع القائد إلى مركز تكنيز في طريق محجرة محصبة مغبرة، فوجدنا هناك استقبالا أكبر مما قبله، وقد حضر فيه فيلق من جيشنا العتيد، فدوى الجو بالهتافات لسيدنا نصره الله ولحكومته، فألقيت فيهم مثل تلك الكلمة المتقدمة بإسهاب، ثم جلت بعد الغذاء في بعض القرى للشرفاء العلويين الذين يتقدمهم النقيب عبد الله الأديب، الذي أنشد لي لنفسه أعوام مسغبة مرت بذلك الوادي: بلينا بتسع يابسات تواترت على الأرض حتى شاب من قحطها الطفل فسبع ليوسف أخرت بقومه وتسع قضى لنا بها النخل والنسل وقد وقفت في مشهد الشيخ العلامة أحمد أدفال وقفة ذكرتني كثيرا من أمثاله الرحالين إلى مركز زاكورة، حيث لبينا دعوة إخواننا الوطنيين في حفلة وداع أقاموها إفضالا منهم، وقد اعتنوا غاية الاعتناء بأخ لهم صغير، ثم طلعنا ثانيا مع الوادي راجعين في طريقنا، فمررنا بدار القاضي سيدي محمد العربي ودار القاضي ابن الشافعي، آخر العلماء القضاة هناك، وشاهدنا في طريقنا زوايا التي هي في الحقيقة مدارس علمية، كزاوية سيدي بلقاسم من أصحاب الشيخ سيدي أحمد بن موسى، وكزوايا أخرى غالبها يتبع تمكروت، ثم ودعنا وادي درعة بعدما بتنا في مركز مزكيتة، وقد تأسفنا على انقطاع العلم من هذا الوادي، بعدما كاد يكون كله مدرسة، فلا عالم فيه اليوم يشار إليه إلا قليلين جدا على أن مساجد القرى عامرة بالمصلين، وفي غالبها لايزال حفظ القرآن موجودا، وعلى كل مسجد مسجد أحباس قائمة بها. وقد حظي وادي درعة بأقلام بارعة خلدت أخباره وأخبار رجالاته، وفهاريس وكتب واسعة، كالدرر المرصعة وكمقدمته المسماة طليعة الدعة وكمؤلف ابن الحبيب الدرعي، الأستاذ المتأخر، ولذلك يجد من سيهتم بتاريخ هذا الوادي مراجع كثيرة، وفي الوادي من النخيل ومن مواد العيش ومن الرياحين ومن الخضر ما يجعله يستغني بها عن غيره، بشرط وجود الماء في النهر، وفي كتاب طليعة الدعة من تتبع مستنبتات تلك الناحية ما يكفي ويشفي، زيادة على أنه كتاب أدبي جامع لغالب ما يوجد في الأدب العربي من أوصاف النخيل والورد والنرجس والبقول، وقد حوول اليوم زرع التفاح واللوز والحناء بكثرة، وأهل درعة متدينون، وتقام الجمعة في زهاء مائة مسجد من مساجدهم، وهو عملة مجدون، ولو وجدوا من يجشمهم الأشغال اليومية، وسيجدون ذلك اليوم بحول الله في هذا العهد الجديد الذي طلع كالنهار المنير بتضحيات مولانا نصره الله، محيي البلاد ومنقذها من براثن الاستعمار. ودعنا درعة فعرجنا إلى دادس حيث قلعة مكونة، فرأينا واديها ووادي سكورة اللذين يمدان وادي درعة، فرأينا ما يبهر الأعين، واستوقف الأنظار اخضرار والتفاف أغصان، وخصوصا من التين الذي اشتهر هناك، كما اشتهر تين اجبالة، حتى أنه عمد منتوجات تلك الناحية، وعلى أن الذي يراه الوارد نفحات الورد الذي يغرس حتى في الطرق وحوالي كل بستان، وقد وجدناه كما يتفتح، فتمر به فتقر العين بمرءاه، والخياشيم برياه، وقد وقفنا على معمل لتقطيره تقطيرا عصريا لبعض الإسبانيين، فذكر لنا أنه لم يكن توصل في السنة الأولى إلا بخمسين طنا، ولكن بعد سنين وصل ما قطره معمله وحده إلى ألف ومائتي طن، واشتري الكيلو بأربعين فرنكا، وذكر لنا أن أهل البلد وصل ما دخل يدهم من منتوجات الورد في السنة الماضية أربعين مليونا من الفرنكات، ويذكر صاحب هذا المعمل عند الناس بالملاطفة، وقد دار معنا في أرجاء المعمل، فرأينا معملا كبيرا، وإنما طال عجبنا حين قال لنا إنه لا يعمل إلا خمسة وعشرين يوما فقط في السنة، على ما يعلم من عمر الورد القصير، ثم يربح من ذلك أرباحا طائلة، فأين أنتم يا شباب اليوم من أمثال هذه المعامل، فهيا هيا فإنكم في عصر المسابقات. ثم إننا ألممنا ببعض المساجد، فرأينا النظافة المعهودة في البادية، وأهل هذه الناحية يظهر أن لهم يدا في الثراء، إن وزنا حياتهم بديارهم الفخمة عالية البروج، وقد مررنا بقلعة مكونة، حيث كان إخواننا الوطنيون مسجونين في العهد المشؤوم. ثم وصلنا مركز وادي تدغة المستطيل الذي يقطنه نحو عشرين ألفا، فوجدنا استقبالا لا يقل عن استقبالات زاكورة، فقمنا فيهم بما هو المعتاد، ثم زرت مسجدا كبيرا من مساجده فأعجبني بناؤه ونظافته، وهو في وسط الديار، وقد كانت الدراسة تزخر في مساجد تدغة إلى العهد القريب، وآخر من درس هنا سيدي المهدي الناصري العلامة الأديب الكبير، وهذا المركز اليوم يكاد يكون مدينة قائمة لما فيه من كثرة الحرف والسوق والأبنية البهيجة، وفيه نزل على غرار الأنزال الموجودة في مراكز كل هذه النواحي، وقد استوفت كل الشروط، ومن ذا الذي يذكر تدغة ثم لا يذكر أنها كانت مضرب سكة مولاي إدريس، وأنها آخر إيالته إزاء إيالة المدراريين السجلماسيين، وبعد أن بتنا ليلة طيبة مع إخواننا الوطنيين في دار الرئيس هناك، بكرنا إلى بسيط تافيلالت، فنزلت في تنجداد حيث كنت قضيت تسعة أشهر في المنفى(2) فتلقاني إخواني هناك تلقي الأفراح، فشاهدت منزلي الخاص بالعين التي تنظر بها العروس إلى البيت الذي أعرس فيه بها، وما أطيب خلوة العبد بربه، وهل تنمحي الانطباعات الربانية في قلب عباد الله المؤمنين المستسلمين لقضائه، ثم زنا في النواحي مساجد مثل كلميمة وقصر السوق وبعض قرى مصغرة، وفي تافيلالت أزيد من ثلاثمائة قصر، وعلى كل قصر سور وباب أو أبواب، وتقام فيه الجميع الجمع، والأحباس مستجرة في كل قرية وبها قوام المساجد، حيث يوجد حبس على الأستاذ للقرآن، وآخر على أستاذ العلوم، وآخر على المؤذن وآخر على مسخن الوضوء وآخر على حصر المسجد وإصلاحه، وقد يكون حبس على ضيوف المسجد الذين لا يعرفون أحدا من القرية ولا يعرفهم أحد، وقد تشرفنا بضريح الشيخ سيدي محمد العربي بمضغرة، ومولاي عبد الله بن علي بن الطاهر المحدث الشهير، وقطر تافيلالت قطر واسع يحتاج في زيارته إلى أيام وفي أخباره إلى مجلدات((3، والمؤسف أن هناك مؤلفا قديما يذكر اسمه الحاجة الماسة إلى أخبار سجلماسة ولكننا لم نره، على أن أخبار هذا الجانب المغربي موجودة أثناء كتب التاريخ من قديم، وقد كان دائما مزدهرا بالمعارف وبأفذاذ العلماء إلى العهد الأخير، ومن المؤسف أنه اليوم شاغر من ذلك(4) حتى أن علماءه الباقين قد التهمتهم الحواضر ولله في خلقه شؤون. وبعد أن تغذينا في قصر السوق على مائدة العامل، تسلقنا الأطلس حيث زرنا مسجد ميدلت، وحضرنا في مجمع كبير في بومية مع العامل، وفيه رأينا وجوه الأطلسين الأنجاد الأبطال، وهو مجمع حافل رفع فيه العلم المغربي رسميا، وقد خطبت فيه خطب شتى طافحة بالعواطف، وبذكر جلالة محمد الخامس، ثم بتنا في مركز أدزر، ثم بكرنا إلى العاصمة. هذه هي الرحلة بالإيجاز، وأخيرا أعلن شكري إلى كل الذين تفضلوا فاستقبلوا أخاهم بتلك الاستقبالات من عامل ورزازات والقائد مولاي علي، وأهل تمكروت وأهل تافيلالت وكاتب مولاي هاشم وكل فروع الحزب في الجديدة وفي آسفي وفي السويرة وفي درعة وفي تنغير وفي تنجداد وفي الأطلس، فشكرا للجميع واحتراما وتقديرا. وقبل أن أختم الحديث أهيب بالحضريين الخاصة أن يزوروا هذه الجهات، فإن أبوابها مفتوحة اليوم بعدما كانت سدت بيد الاستعمار أمس، فإنني أضمن لمن يزورها في غير حمارة القيظ أن يرى ما يسره، فهناك فنادق خاصة للسواح، ذكر عنها أنها استجمعت كل شروط الرفاهية وأدوات الحضارة، فالواجب يقضي على كل مغربي أن يعرف جوانب قطره، وأن يتعرف إلى كل أبناء شعبه، وفي التعارف الاتحاد وفي الاتحاد كل القوى التي تقدمنا إلى الأمام، وخصوصا والجميع اليوم إنما له قبلة واحدة، ألا وهي تتبع خطا محيي الشعب ومنقذ البلاد، ومحرر الفكر محمد الخامس حفظه الله، وأقر عينه بولي عهده وبأنجاله أجمعين ((5.. والسلام عليكم ورحمة الله . نشكركم يا معالي وزير الأوقاف على كل ما أتحفتمونا به من حديثكم الممتع، ونطلب منكم يا معالي الوزير ألا تَغِبُّوا عنا كل ما يفيد المجتمع، فإن الناس يشرئبون بالأعناق إلى كل فائدة خصوصا أمثال فوائدكم. هوامش: 1 غالبا ما يكتبها بالسين بدل الصاد الناشر 2 له مؤلف معتقل الصحراء في جزأين، نشرنا جزأه الأول الذي يتحدث فيه عن ذكرياته في معتقل تنجداد وأغبالو نكردوس، وفي جزئه الثاني عن تراجم كل الذين اعتقلوا معه الناشر 3 عندنا دفتر كان يجمع فيه علماء تافيلالت، وتوقف عند ترجمة سبعة وثلاثين عالما، وفي بعضهم تراجم صغيرة له، ولا ندري هل هو مشروع كتاب كان ينوي تأليفه أم لا؟ 4 ذكر رحمه الله في الجزء الأول من كتابه معتقل الصحراء: "وما آسف إن آسف إلا على مجموعة في ما حضرني عن سجلماسة كنت كتبتها إذ ذاك لأرسلها إلى بعض مؤرخينا كتذكرة من غريب، ولكن دهم علي ما حملني على أعدمتها في الحين ولعل فيها بعض ما لا أريد أن يطلع عليه في ذلك الوقت" 5 وجدنا ورقة مطوية ضمت الصفحات السبع لمسودة هذه الرحلة وقد كتب فيها رحمه الله ما يلي: "الشعب يحسن أخيرا بعد الاستقلال كيف يعطل الأعمال للأفراح، ولكن إلى أن لا يحسن بعد كيف ينظم الأعمال للإنتاج، وتقدم الشعوب يكون بتنظيم الأعمال للإنتاج، لا بإحسان التعطيل في أيام الأفراح". رضى الله عبد الوافي المختار السوسي المكلف بنشر تراث والده