تأتي هذه المحاولة استجابة لمجموعة من الطموحات ، منها ما هو ذاتي صرف، ويتمثل في حلم راودني منذ سنوات عديدة، و أنا ما زلت آنذاك على كراسي الصف الثانوي ، وقد درسنا نصا مقررا للعلامة المختار السوسي ، يدعو فيه شباب المغرب للاهتمام بثقافة وأدب مناطقهم التي ينتمون إليها . ولأهمية النص نورده لتعميم الفائدة بعيدا من الدراسات الفيلولوجية والأنثربولوجية .. تطرح الشفاهية ،كأدب وتراث، العديد من الاشكالات لكننا هنا سنتجاوزها، ولنا في ما طرح منذ القديم في المسألة الهومروسية في الغرب وغموض أصلها كأدب شفاهي لم يدون إلا فيما بعد. أو في تدوين التراث العربي (الشعر بالخصوص) وما أثاره طه حسين مثلا في كتابه «في الشعر الجاهلي» قبل تعديله ووضع عنوان جديد مسوغا لهذا القفز .. على اعتبار أن التدوين هنا مرتبط بالمنجز الراهن، ناهيك عن كونه محفوظا في بعض مناحيه عن طريقة التسجيل الصوتي ، ليبقى الإشكال الوحيد المطروح في اللغة نفسها. أو الخط واللغة .. كلنا نتذكر ما أثارته مسألة اختيار الخط، والصراع الشوفيني الذي كان حول هذا الاختيار بين سدنة الثقافة في الساحة (ما بين متعصب للحرف العربي (المقدس) باعتباره الأقرب للهوية الثقافية المغربية ومن يرى أن الخط اللاتيني أسهل للقراءة والكتابة لما يتوفر فيه من الصوامت والصوائت تسهل التداول، ناهيك أنه يستطيع إشاعة اللغة والكتابة بها بيسر وفي أسرع وقت ممكن...) ولما تم اختيار حرف تفيناغ أقام البعض، من كلا الفريقين، الدنيا ولم يقعدها، ليتبين فيما بعد أن المشكلة لا تكمن في الخط ذاته أو في اختياره، بل في الخوف من فقدان الريادة وانحسار السلطة المعنوية التي يمتلكها سدنة الثقافة الذين يرون أنفسهم عرابو الثقافة، الذين يمتلكون حق التقييم والجَمْرَكة . ولم تعد المسألة مسألة خط بعد أن تيقنوا من أن هذه اللغة التي كان يتكلم بها (صاحب البقالة) ستكون رسميا في نفس مرتبة اللغة (المقدسة)، وستتجاوز لغة موليير ،قانونيا على الأقل وليس انتشارا، فتمّتْ مهاجمة الحرف ومن ورائه اللغة نفسها باعتبارها قاصرا مرة، أو كونها مجرد لهجات متعددة. وكل هذه الأحكام الصادرة للأسف عن جهل باللغة وعلم اللغة مردود عليها .. من هنا سنحاول وضع مقارنة بسيطة لإبراز مدى تقارب الظروف المحيطة والحيثيات التي تواكب عملية المرور من ثقافة شفهية إلى ثقافة كتابية بدءا بمعيرة اللغة للوصول إلى التدوين. إن الحرف العربي لم يخذ شكله الحالي إلا في اواخر القرن الأول الهجري فلم يكن القارئ على ندرته يستطيع أن يفرق بين التاء والباء والياء والنون، أو القاف والفاء، أو العين والغين، ببساطة، لأن العربية لم يكن فيها تنقيط . بل ولا حركات ولم تبدأ الكتابة الفعلية بها إلا في عصر التدوين، أي في القرن الثاني، مما يعني أن الثقافة العربية الكتابية حديثة العهد، وأنها كانت ثقافة شفوية بامتياز. إن اللغة كيفما كانت ،حين تكون أداة للتواصل والتعبير وتفرض تداوليتها ، تحمل في داخلها نظاما (سيستيم غير مصرح به) لا يمكن أن تقوم لها قائمة بدونه. وبالتالي فمسألة القواعد محسومة سلفا ولا تحتاج إلا وصفا. يؤاخذ على الأمازيغية أن اللغة المعيارية لغة هجينة ليست من صميم ما يتداوله الأمازيغ . وبهذا الصدد نقول: إن المعيارية تفترض تقعيدا للغة، والتقعيد يحتاج بدوره إلى وصف، والوصف مرتبط بتغطية المجال الجغرافي الذي تتحرك فيه المجموعة البشرية الناطقة بهذه اللغة. وقبل أن تُوصف وتُمعْير، جُمعت العربية من مجموع قبائل شبه الجزيرة. وأثناء عملية التقعيد تَمّ إقصاء لغة القبائل المتاخمة للأعاجم، لكثرة الدخيل بها، وكذا تم تجاوز لغة قريش بالرغم أن القرآن الكريم نزل بين ظهرانيهم. ومادام الشيء بالشيء يذكر، فإن النص القرآني الذي هو من صميم العربية كان يشق على الجميع فهمه. ولأقرب مثال على عدم التمكن من فهم القرآن جواب أبي بكر الصديق (ض) للسائل الذي استفسر عن قوله تعالى {وفاكهة وأبا} إذ قال الرجل: الفاكهة عرفناها، فما الأب؟ فأجابه الصديق (ض) وهو ماهو في قريش ومكانته بين أفاضل الصحابة ، ومن حيث قربه من الرسول (ص)، فهو خليفته وصاحبه وثاني اثنين ... أجابه : لا أقلتني الغبراء ولا أظلتني الخضراء إن كنت أقول في كلام الله بما لا أعلم. من هنا نقول ان لا ضير ألا يفهم السوسي لفظة الريفي أو العكس، بل إن الجمع بين الألفاظ المتعددة للمسمى الواحد هو غنى للغة وليس عيبا. إن اللغة المعيار وضعت انطلاقا من لهجات متعددة أو لغات كما يسميها اللغويون العرب الأقدمون . وإذا كانت الأمازيغية ستوصف وتتمعير انطلاقا من ثلاث لهجات إذا استثنينا لغة واحة سيوة بمصر، والجبل وغدامس بليبيا، وواحات جنوبتونس، ومنطقة القبائل بالجزائر، والطوارق في مالي والنيجر وليبيا والجزائر، و غوانش جزر الكناريا سنكون أمام ثلاث لهجات فقط ، هي (السوسية والأطلسية والريفية) بينما نجد العربية جُمعت مما يفوق ثلاثة عشر لغة ، وهذا ما يفسر غناها المرادفاتي (فلسان العرب : قاموس يتجاوز خمسا وعشرين مجلدا، مع العلم أنه لم تضف إليه ولو كلمة منذ أن صنفه ابن منظور، وهذا يبرز مدى تعدد اللهجات أو اللغات التي جُمع منها) ناهيك عن الدخيل الفارسي الذي يشكل نسبة لا يستهان بها من هذا الغنى المعجمي في مناحي المدنية والإدارة... باعتبارها حضارة سابقة وأكثر عراقة . إن التدوين إذن يفترض ان نتجاوز هذه المرحلة، مرحلة الوصف والتقعيد والمعيرة فهو خطوة مهمة للعبور من ثقافة شفاهية إلى ثقافة كتابية.