تأتي هذه المحاولة استجابة لمجموعة من الطموحات ، منها ما هو ذاتي صرف، ويتمثل في حلم راودني منذ سنوات عديدة، و أنا ما زلت آنذاك على كراسي الصف الثانوي ، وقد درسنا نصا مقررا للعلامة المختار السوسي ، يدعو فيه شباب المغرب للاهتمام بثقافة وأدب مناطقهم التي ينتمون إليها . ولأهمية النص نورده لتعميم الفائدة ورغم المجهودات التي قام بها أساتذة أجلاء منذ النصف الثاني للقرن الماضي، فإننا في حاجة إلى أن نبدأ عصر تدوين حقيقي للأدب الأمازيغي وهو ضرورة ملحة ما دمنا قد تجاوزنا الظروف المعيقة لهذا النوع من المشاريع. ولتكن البداية بالشعر باعتباره أبرز أشكال التعبير الأدبي من حيث الكم لتتسنى لنا دراسته... ولتكن المقاربة على شاكلة ما دعا إليه «هيبوليت تاين» ويكون التأريخ قائما على دراسة عوامل البيئة والعصر أو على شاكلة «برونتيير» ويكون التاريخ تاريخا للأجناس الأدبية أو بمنهج «ماركس» فندرس المجتمع في الإطار التاريخي، أو نعتمد النص ولا شيء غيره ونكون شكلا نيين أو بنيويين لا يهم، المهم أن ينطلق عصر تدوين حقيقي، وليأخذ الزمن وقته. ونجمع كما ستجد فيه الأجيال اللاحقة مادة دسمة فيطلقوا العنان لأقلامهم و مخيلاتهم وليستعملوا إذاك ما شاؤوا من المناهج وآليات التحليل والدراسة. المهم أن يتوفر لهم تراث مدون لأن تلك الأجيال هي التي ستحاسبنا، أو تؤاخذ علينا تهاوننا وتقاعسنا في التدوين والتوثيق، كما فعلنا ونفعل مع من سبقنا. ولا يجب أن نتحرج من تدوين كل ما يمت لهذا الأدب بصلة مهما بدا بسيطا لغير الأمازيغي لأن رموزه أعمق من أن يتذوقها غير الأمازيغي إذا ما تم تعريبها أو ترجمتها. وهنا أجدني أخالف أصحاب الطرح الرافض لإدماج مختلف أشكال التعبير ك(أحواش) في مجال الشعر، وإن كنت أوافقهم على أن الكلمة لا تعتبر سوى أحد مكونات هذا الشكل الإبداعي ويبقى فضاء «أسايس» الغني بأخرى خيارا لاحتضان الكلمة/القصيدة. لا تنمية حقيقية بدون ثقافة في الآونة الأخيرة، أقبل المغرب على فتح أوراش تنموية تخول له السير قدما في ظل الإكراهات العالمية إلا أننا لا نظن أن هذه التنمية ستكون ناجحة ما لم تكن تنمية شاملة تضع الثقافة في محور العملية التنموية، ولا نقصد بالثقافة هنا تلك المسماة «رسمية» لأن هذا يعني أننا نهمش تلك الأخرى المسماة «فرعية» أو «شعبية»، رغم أن ما يعتبر (رسميا أو فرعيا) من وجهة نظر معينة قد لا يبدو كذلك من وجهة نظر أخرى ، ومثل هذا التصنيف يكون غالبا موجها بمرجعية إيديولوجية معينة «يمركز» ثقافة و»يفرع» أخرى ويترك الفرصة للأولى كي تمارس برموزها نوعا من العنف «الرمزي» على الوعي «الفردي والجماعي» ما لم يتقبلها هذا الوعي عن طواعية ، لأنها تسخر كل الوسائل «الاتصال وقنوات الإعلام ومختلف أساليب الدعاية الجماهيرية «من أجل تكريس تفوقها على الأخرى ومن ثم تساهم في ترسيخ إيديولوجية طبقية أو طائفية أو اثنية. إن الأيديولوجية من هذا المنظور «أداة من أدوات الصراع الاجتماعي والسياسي لأن غايتها هي التعبئة من أجل فعل جماعي يرمي إلى اكتساب امتياز سلطوي أو الحفاظ عليه»1 من خلال تكريس مسلمات وتصورات وقيم تستخدمها فئة أو طبقة أو جماعة معينة لتسويغ واقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بشكل يساير مصالحها المادية والمعنوية وهي لا تجد حرجا في اللجوء إلى الدين لإيجاد هذه المسوغات أو إلى العلم للاستدلال على تفوقها على إيديولوجية أخرى لمجموعة بشرية تشاركها نفس الحدود الجغرافية. إذا كانت الثقافة هي «مجموعة من العادات والتقاليد والمهارات وأنماط التفكير والأحاسيس و السلوكات الجماعية...» فهي بهذا «نسق من المقولات المفاهيمية والإدراكية» التي عبرها ومن خلالها يقوم الإنسان بتنظيم محيطه الاجتماعي فإن ثنائية « رسمية فرعية « أو « نخبوية شعبية « أو كما سماها البعض « ثانوية أولية «.تفرز لنا واقعين أو طبقتين أو حتى مجتمعين دون اعتبار للتنوع . فإذا كانت الأولى من الثنائية تكرسها السلطة بأجهزتها المختلفة (وسائل إعلام مدرسة مسجد...) فإن الثانية تعكس نمط عيش الفئات الشعبية وتعبر عن قيمها وتصوراتها. دون أن يكون هناك تنافر دائم بينهما ، ذلك أن الأولى (المتبناة من طرف الدولة) تستمد هويتها من الثانية عن طريق اتخاذ الثانية موضوعا للأولى (الأبحاث الجامعية) أو عن طريق اتخاذها رمزا يعطيها التفرد فالفلكلور مثلا يتخذ (بنوع من الزهو والافتخار) مادة أساسية لتسويق المنتوج السياحي. أي أنها تجد نفسها دائما في حاجة ماسة إلى هذه الثقافات المسماة «الفرعية»، شعبية، أولية...» إن الغرض من هذه الإشارة، هو لفت الانتباه إلى وجوب تغيير النظرة إلى هذه الثقافة «الشعبية» والأخذ بعين الاعتبار الجانب الثقافي للإنسان المراد تنميته ومعرفة حاجياته ليس المادية فحسب بل حتى النفسية والروحية، لأن التنمية هي «مجموع الأنشطة الرامية إلى توجيه المجتمع نحو تحقيق مجموعة منظمة من شروط العيش الجماعية والفردية، التي تكون أساسية بالنسبة لقيم معينة».2 من هذا المنظور تكون الثقافة أحد العناصر الأساسية التي يجب أخذها بعين الاعتبار في كل إستراتيجية تنموية شمولية.وحين نقول الثقافة نعني بها تلك «الفرعية» «الأولية» التي تمكن من اندماج وانسجام كل المكونات التي تنتمي إلى مجموعة بشرية يجمع بينها شيء اسمه «الوطن» وذلك من خلال إقرار التكافؤ بين الثقافات كما يرى فرانز بوز والوقوف على ما يميز كل ثقافة على حدة، لأنه كما لا توجد ثقافة معيار، لا توجد أيضا ثقافة جامدة أو عاجزة عن النمو والتطور، لأن كل الثقافات بما فيها ثقافات الشعوب المسماة «بدائية» هي «بناءات على درجة عالية من التعقيد، لكل واحدة منها حيويتها ودينامكيتها الخاصة» ستراوس1967. ولا يجب أن يخشى كما هو حال البعض من أن تكون الغاية من هذا النوع من المقاربات هو إذكاء وتغذية النزعات العرقية والطائفية. مادام هناك إيمان بضرورة التعايش واحترام الثوابت والمقدسات ، ورغبة تضفي المصداقية على التنوع الثقافي بعنصريه: الديني (مسلم يهودي) والعرقي (أمازيغي عربي صحراوي ) خصوصا وأننا في مجتمع (هجين) تشابكت فيه خيوط العناصر والمكونات ولم يعد من الممكن إلا فيما ندر التحديد والتصنيف . إن الثقافة ممارسة يومية، تفاعلات يستجيب بها الإنسان لمحيطه الاجتماعي والطبيعي تنجلي «عبر سلوكات يومية تمكننا من وصفها من خلال ملاحظة مظاهر هذه السلوكات، كشكل اللباس وطرق الطبخ وردود الأفعال التلقائية تجاه مؤثرات خارجية...»3 إنها عبارة عن فسيفساء يعاد تركيبها بغض النظر عن أصلها من طرف المنتمين إلى نفس المجال الجغرافي، من باب النفعية و بالشكل الذي «يلبي حاجاتهم النفسية والاجتماعية والمادية» مما يؤدي إلى أشكال ثقافية فرعية « هجينة « تستجيب للوضعيات التي تفرض التكيف. (فالجلابة) مغربية بغض النظر عن الثقافة الأولية التي أبدعتها، والكسكس أكلة شعبية، بغض النظر عن أصلها الفينيقي أو الأمازيغي أو العربي أو الصحراوي أو الموريسكي. ونحن نطلق على «الجزر» «خيزو» دون اعتبار لإيتيمولوجيا الكلمة. مثل هذه الأشياء وغيرها هي ما يشكل هويتنا المغربية هوية تستمد خصوصيتها من هذا التنوع وذلك الغنى. (باحث في التراث) 1 حماني أقفلي «الثقافة والتنمية البشرية « ص :14 وما بعدها 2:Grey. Rocher. «le changement. Social» p.190 3 - أقفلي ، المصدر السابق ص 21