بغداد - انتقلت الشابة العراقية أمل من وهم الارتباط المقدس إلى «مشروع انتحارية» بعد أن وعدها مجندوها بحياة سرمدية في الأبدية. أمل، التي لم تجتز صف الخامس الابتدائي بسبب عوز أسرتها، أقامت علاقة عاطفية مع شاب ينتمي لتنظيم «القاعدة» تخلى عنها بمجرد أن عرف أنها «حامل». لم تجد أمل حينها سوى اللجوء إلى إحدى قريبات الشاب «الخائن» لإقناعه بالزواج منها. لكن الأخيرة سلمتها إلى أحد رجال الدين المتعاونين مع التنظيم فأقنعها بأن السبيل الوحيد للتكفير عن ذنبها هو تنفيذ عملية انتحارية «ضد المشركين» تصون بها سمعتها وسمعة عائلتها وتنال بها الجنة. تنتمي أمل إلى الجيل الثالث من الانتحاريات، اللواتي وقعن ضحايا عناصر ينتمون للجماعات المسلحة، كما يقول مصدر أمني في ديالى. كانت هفوة الفتاة تنتهي بإقناعها ب «تنفيذ عملية انتحارية للتكفير عن الخطيئة». لم تحصل أمل على «الجنة الموعودة» حتى الآن، فهي تنتظر حكما قد يصل للسجن المؤبد بعد أن فشلت أواخر دجنبر الماضي في تفجير حزامها الناسف على بعد خطوات من نقطة تفتيش عسكرية، على ما يؤكد مسؤول أمني في ديالى. شهلاء التي ارتبطت بعلاقة «حميمة» مع أحد عناصر «القاعدة»، قضت على يد والدها الذي سارع إلى دفنها في حديقة المنزل، بعد أن تيقن أنها كانت تنوي تنفيذ عملية انتحارية داخل حشد لمؤدي الطقوس الدينية في المدينة. يقول المسؤول الأمني إن والد شهلاء أبلغ المحققين أن موت ابنته وتعرضه هو للسجن، أفضل بكثير من أن «يخسر عشرات الأبرياء حياتهم ثمنا لقصة حب بين انتحارية ومسلح من مسلحي القاعدة». رانيا العنبكي وأم المؤمنين تقبعان منذ سنوات في السجن، ونالتا شهرة واسعة بعد أن ظهرت الأولى في شريط فيديو وهي مربوطة إلى حاجز حديدي ويلتف حولها حزام ناسف يحاول خبراء التفجير تفكيكه، والثانية في شريط تلفزيوني تضمن اعترافاتها بأنها «مجندة انتحاريات». إلى جانب رانيا و(أم المؤمنين)، تقضي عشرات النساء «الانتحاريات» حياتهن في السجون، على خلفية مشاركتهن في تجنيد انتحاريات أو محاولة تنفيذ عمليات انتحارية، تسببت 21 عملية منها في قتل 124 عراقيا وإصابة ما لا يقل عن 344 آخرين، كما يقول الفريق الركن عبد الكريم الربيعي الذي تولى منصب قائد عمليات ديالى بين ربيع عام 2007 وصيف 2009. العملية الأشد فتكا نفذتها انتحارية وسط المتبضعين في سوق منطقة بلدروز مطلع مايو عام 2008، وتسببت بمقتل 33 مدنيا وجرح ما لا يقل عن 60 آخرين. رباعية (الانتقام/العقيدة/ الجهل/الفقر) خبراء علم اجتماع، رجال دين وقادة أمنيون ومنشقون عن «القاعدة» وسجانون، يحملون الجماعات المسلحة، والتنظيم في شكل خاص، مسؤولية الإيقاع بالنساء في شراك «الموت الناعم» واستخدامهن ك «قنابل موقوتة» في الصراع الطائفي الذي اجتاح العراق بين عامي 2006 و2009. لكن أيا من تلك الأطراف لا يغفل المتسبب الرئيسي في انخراط عشرات النساء في ظاهرة الانتحاريات، وهي رباعية الانتقام/تفسير مغلوط للعقيدة/الجهل/الفقر، التي سادت في معظم القرى والمدن الصغيرة في العراق. تتصدر الدوافع «رغبة في الانتقام» لمقتل أو اختطاف الزوج أو الأب أو الابن. تضخم هذه الرغبة، عقائد متشددة انتشرت في شكل غير مسبوق مع دخول خلايا «القاعدة» للعراق بالتزامن مع الغزو الأميركي في أبريل عام 2003. ثنائية (العقيدة المتشددة) و(الانتقام)، كما يقول خبراء علم الاجتماع، وجدا بيئة حاضنة سريعة التفاعل معهما وهي ثنائية (الفقر) و(الجهل) اللذين انتشرا في عموم البلاد بتأثير الحصار الاقتصادي المفروض على العراق منذ غزو قوات رئيس النظام السابق لدولة الكويت عام 1990. تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن قرابة 30% من سكان ديالى يعيشون تحت خط الفقر. النسبة ذاتها من السكان، وفقا لهذه الإحصاءات، لا تعرف القراءة والكتابة. وترفع الإحصاءات غير الرسمية النسب إلى 40% كمعدل فقر وما يقارب 45% كمعدل للأمية. النسبة الأعظم من هذه الأرقام من حصة المرأة في محافظة تبلغ نسبة النساء فيها أكثر من 55% من عدد السكان البالغ 1.4 مليون مواطن. تصف مسؤولة محلية سابقة ب «المأسوية» حالة الفقر التي استوطنت في محافظة ديالى إبان اتساع ظاهرة الانتحاريات. فالكثير من الفلاحين المسالمين فقدوا أسباب الرزق حين تحولت بساتينهم إلى «ساحات تدريب» لعناصر القاعدة وجبهة معارك مشتعلة على الدوام ومزروعة بالعبوات الناسفة ونقاط التفتيش الوهمية. تقول المسؤولة المحلية، التي ترفض الكشف عن هويتها لأسباب أمنية: «مشاهدة عشرات النساء المتشحات بالسواد وهن يحملن على عربات تقودها الحيوانات، حفنة خضار باتجاه السوق للحصول على ما يسد رمق العائلة، كان مألوفا جدا». آنئذ لم يكن اجتياز النساء لنقاط التفتيش يبعث على الريبة، وهو ما دفع أمراء «القاعدة» إلى الاستفادة من ظاهرة «النساء المحرومات»، وتحويلها إلى ظاهرة «النساء الانتحاريات». تعترف «مشروع الانتحارية» رانيا العنبكي، بأنها أدلت بالكثير من المعلومات «الكاذبة» أمام المحققين طوال السنوات الثلاث التي أعقبت اعتقالها متلبسة بارتداء حزام ناسف. مثلها تماما، تراجعت «أم المؤمنين» عن اعترافات سابقة بتجنيد 28 فتاة بعد أن قالت إنها نجحت في تجنيدهن لتنفيذ عمليات انتحارية في مناطق متعددة من محافظة ديالى. «الخداع»، تعدد الروايات ومحاولة إخفاء الحقائق، كانت السمة الطاغية على أحاديث 16 «مشروع انتحارية» أو «مجندة انتحارية» التقتهن «الحياة» في سجون وزارات الداخلية والعدل والعمل. «انتحارية» بعقوبة تنفي العنبكي التي تنحدر من عائلة معدمة، أن يكون دافع الانتقام لمقتل والدها وأخيها وراء ارتدائها حزاما ناسفا والتوجه نحو إحدى نقاط التفتيش. على رغم ذلك، لم تتوقف عن الإشارة إلى أن والدها وشقيقها قتلا على «يد مسلحين من طائفة أخرى» في منطقة (أبو صيدا). المسؤولون الأمنيون وأوراق التحقيق تنقض رواية رانيا. فوالدها نفذ عملية انتحارية في ناحية (أبو صيدا) عام 2006 قتل فيها تسعة أشخاص وجرح آخرون. شقيقها هو الآخر نفذ عملية في إحدى مدن المحافظة. فيما اعترف زوجها محمد بانتمائه لتنظيم «القاعدة» وحكم بالسجن 20 عاما. كانت رانيا التي ازداد وزنها وتحسنت هيئتها كثيرا عما ظهرت عليه في شريط الفيديو لحظة اعتقالها، ترد بإجابة ثابتة كلما سألتها عن الكيفية التي اقتنعت بها بارتداء الحزام الناسف: «لا أعرف»، «لا أتذكر». وعن كل معلومة اعترفت بها في التحقيق أو على شاشات التلفزيون وسألناها عنها، كانت رانيا تردد «كنت أكذب»، «أكذب»، «كنت أكذب طوال الوقت». وتقدم رانيا قصة «غير محبوكة» لملابسات ارتدائها الحزام الناسف تروي فيها كيف أن زوجها محمد أوصلها لمنزل قريبتين له وبقي في غرفة مجاورة أثناء عملية تفخيخها «من دون أن يعرف شيئا». وهي أيضا لم تكن تعرف «أي شيء» لأن القريبتين «ربما» خدرتاها ب «لفة الفلافل» وعلبة عصير قبل أن يلبسنها الحزام الناسف. يترافع عن رانيا الآن أربعة محامين لتخفيف الحكم الذي صدر بحقها في 3 غشت 2009 والذي يقضي بسجنها 7 سنوات (ارتفع عند الاستئناف إلى 15 سنة). تضارب الأرقام لا يتطابق الرقم الذي وثقه الفريق الربيعي لعدد العمليات الانتحارية (21 عملية) مع ما أحصته كاتبة التحقيق (60 عملية خلال عام 2008 فقط في عموم العراق) استنادا إلى إفادة مسؤولين أمنيين لوكالات أنباء أبرزها (رويترز)، (أصوات العراق) و(نينا). الرقمان لا يتطابقان أيضا مع ما ذكرته بيانات تنظيم القاعدة (77 عملية انتحارية منها 49 في ديالى وحدها) وتصريحات المتحدث باسم الجيش الأميركي (27 عملية في عموم العراق خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2008). باستبعاد الخبطات (الدعائية)، تشير دلائل وثّقها مسؤول بارز في مديرية مكافحة الإرهاب بمحافظة الأنبار إلى أن أول عملية تفجير «حقيقية» نفذتها انتحارية، كانت في مارس 2004. يومها فجرت «انتحارية» نفسها في القوات الأميركية في مدينة حديثة، على أطراف الأنبار -معقل القاعدة وتنظيمات إسلامية متطرفة. بعدها، لم تسجل أي عملية انتحارية بتوقيع امرأة في الأنبار حتى عام 2010، حين فجرت انتحارية نفسها داخل المجمع الحكومي وسط الرمادي -مركز المحافظة- فقتلت وجرحت 31 شخصا. إستراتيجية الانتحاريات تخلو المساحة الزمنية بين عملية الأنبار الأولى (2004) وعملية تلعفر المزعومة (2005) من أي عمليات انتحارية على يد نساء، كما يقول الخبير في الجماعات المسلحة فائق الجنابي. «التحول الخطير» كما يسميّه الجنابي، بدأ حين روّج الزرقاوي في الربع الأخير من عام 2005 لفكرة «المرأة الاستشهادية» مقابل «الرجل المتخاذل» عن الالتحاق بالقتال في العراق، بعد أن تجنب منظرو تنظيم القاعدة هذه القضية «الشائكة» دينيا واجتماعيا لسنوات. يعتقد الجنابي أن معظم الباحثين لم يتمكنوا في ذلك الوقت من الربط بين استخدام الزرقاوي لورقة «الاستشهاديات» من أجل جذب المزيد من المقاتلين الأجانب، وبين مرحلة العنف الطائفي التي بدأت بعد خمسة أشهر على تفجيرات مراقد مقدسة بمدينة سامراء في فبراير 2006. استيراد وتصدير لاقت رسالة الزرقاوي استجابة لم تكن متوقعة، كما يرى الخبير بالجماعات المسلحة. ففي الوقت الذي ازدادت نسبة المتطوعين العرب والأجانب الذين دخلوا عبر الحدود للالتحاق بالقتال مع الزرقاوي، دخلت ظاهرة «الانتحاريات» مرحلة خطيرة تميّزت بزوال الحدود الجغرافية أمام حركتهم. أول انتحارية وصلت إلى العراق قادمة من القارة الأوربية، كانت الانتحارية البلجيكية موريل ديغوك التي عدّت جزءا مهما من حلقة تجنيد واسعة قامت بها الجماعات المتشددة في أوربا لدعم التنظيم في العراق، كما يقول المتحدث باسم وزارة الدفاع محمد العسكري، الذي يستشهد بإلقاء القبض على إحدى المجموعات المتشددة في هولندا، كانت تقوم بتدريب «نساء انتحاريات» من بلجيكا وفرنسا بهدف إرسالهن إلى العراق. الشقراء البلجيكية ديغوك (أو مريم كما أطلقت على نفسها بعد إشهار إسلامها) فجرت حزامها الناسف في دورية أميركية في مدينة بعقوبة بتاريخ 9 نوفمبر عام 2005. تزامن ذلك مع تصدير الانتحاريات العراقيات إلى الخارج. تلك الإستراتيجية تمثّلت بتفجيرات فنادق عمان التي نفذت في 9 أكتوبر 2005، وهو توقيت عملية ديغوك. راح ضحية تلك العمليات 60 قتيلا. الانتحارية العراقية ساجدة الريشاوي التي فشلت في تفجير حزامها الناسف، ظهرت على التلفزيون الرسمي الأردني وهي تدلي باعترافاتها حول العملية التي كانت تحاول تنفيذها بصحبة زوجها واثنين من رفاقه فجروا أحزمة في ثلاثة فنادق. قبل تلك العملية، كان ثلاثة من إخوة ساجدة الريشاوي، التي ما زالت حتى الآن تنتظر تنفيذ حكم بالإعدام، قد نفذوا عمليات انتحارية داخل العراق، ومنهم شقيقها ثامر الريشاوي الذي كان الساعد الأيمن للزرقاوي، بحسب ما قاله مصدر أمني عراقي آنذاك. أجيال الانتحاريات إذا كانت ملامح الجيل الأول من الانتحاريات ضاعت في البيانات «الدعائية» لتنظيم القاعدة بعد عام 2003، فالجيل الثاني من الانتحاريات كان أكثر وضوحا ونفذ هجمات عنيفة طالت معظمها مراكز أمنية وتجمعات مدنية. يروي الشيخ صالح، وهو رجل أربعيني حارب ضد «القاعدة» مع قوات الصحوة لسنوات، كيف ظهر «الجيل الثاني» من الانتحاريات. يتذكر الشيخ صالح أن هذا الجيل كان في بدايته «جيلا عقائديا» تشرّب فكر القاعدة إلى حد أن الكثير من الانتحاريات المنتميات لهذا الجيل، كن مأخوذات بفكرة الارتباط ب «المجاهدين الأبطال» الذين تركوا أوطانهم ليلتحقوا بواجب الجهاد على أرض العراق. الكثير من العراقيين الذين انضموا إلى التنظيم -كما يقول الشيخ صالح- وهبوا بناتهم الصغيرات أو شقيقاتهم لأمراء تنظيم القاعدة القادمين من البلاد العربية أو أفغانستان أو باكستان أو دول أخرى. من هؤلاء كان شقيق زوجة الزرقاوي الذي عرض على الأخير الزواج بشقيقته كي يستقر في المدينة ويتفرغ ل «محاربة الكفار»، كما يقول الشيخ صالح. الصفة الأبرز لهذا الجيل أن الانتحاريات كن في الغالب «زوجات لأمراء القاعدة»، كما يضيف الشيخ صالح الذي أشار إلى أن عددا ليس قليلا من زوجات أمراء القاعدة نفذن عمليات انتحارية بعد مقتل أزواجهن، أو قتلن مع أزواجهن. جيل «الدولارات والأحزمة الناسفة» أعقب جيل زوجات الأمراء و«عقائديات» القاعدة، جيل ثالث تميز -كما يقول الشيخ صالح- بأنه كان أوسع انتشارا من الجيلين السابقين. وتزامن صعود نجم هذا الجيل مع ارتفاع حدة الصراع الطائفي. غالبية الانتحاريات اللواتي انتمين لهذا الجيل كن «قاصرات» ينحدرن من عائلات ذات مستوى معيشي وثقافي متدن جدا، ومنهن رانيا العنبكي. ارتبط ظهور هذا الجيل بالحاجة إلى الحماية، أو الرغبة بالحصول على المال. ويروي الشيخ صالح، كيف أن العديد من العوائل في ديالى كانت تسارع إلى تزويج بناتها من «أمراء» القاعدة حالما يصلون إلى القرى وهم يحملون «الدولارات والأحزمة الناسفة معا». كتائب الانتحاريات شهدت قصة الانتحاريات في العراق تحولات شتى خلال فترة العنف الطائفي. ففي أواسط عام 2007 كانت الظاهرة تتسع لتتحول من التجنيد الفردي إلى التنظيم الجماعي. في تلك الفترة أعلن تنظيم القاعدة عن تشكيل أول «كتيبة استشهادية» في العراق؛ الخنساء، التي تكونت من 26 انتحارية أغلبهن من أقارب عناصر القاعدة، على ما يقول ضابط رفيع في مديرية التحقيقات. كتيبة أخرى للانتحاريات تشكلت منتصف 2008 على يد زوجة زعيم تنظيم القاعدة في شمال العراق المدعوة (أم سلمة). هذه الكتيبة انتشرت في عدة مدن عراقية ونشرت بيانات تتوعد فيها ب «انتقام نساء الفلوجة وبغداد وديالى وثكلى وأرامل الموصل». ولم يعرف حتى الآن مصير أم سلمة. لكن يبدو أن كتيبتها «نفذت بالفعل عمليات في ديالى وبغداد»، كما يعتقد ضابط التحقيقات. معسكرات تدريب «الانتحاريات» يقول مسؤول محلي أن المعلومات الاستخبارية التي اطلع عليها بحكم منصبه، تثبت أن أكثر من 25 انتحارية كن يتدربن حتى صيف 2008 على تفجير الأحزمة الناسفة في مغارات تلال حمرين الواقعة شرقي ديالى. لكن قائد عمليات ديالى يقلل من أهمية التدريب الاستباقي. فهو يرى أن استعمال الحزام الناسف لا يتطلب تدريبا حقيقيا. ففي الغالب «تتزنّر المرأة أو يزنّرها أحد أفراد عائلتها بحزام ناسف ويعلمّها طريقة الضغط على زر التفجير فقط». يلاحظ قائد العمليات هنا أن عملية «الضغط على زر التفجير» لم تكن تقلق تنظيم القاعدة، فأغلب العمليات تمت بطريقة التفجير بالريموت كونترول الذي يحمله الشخص المكلف بمتابعة ومراقبة الانتحارية. الباحث الاجتماعي فارس العبيدي لا يذهب بعيدا عن فكرة الفريق الربيعي. إذ يرى أن لدى غالبية الفتيات اللواتي انخرطن في ظاهرة الانتحاريات «خبرات قتالية اكتسبنها من العائلة نفسها». يدعم العبيدي رأيه بأن أغلب من التقاهن من «نساء القاعدة» أبلغنه أنهن كن يستمعن على مائدة العشاء من أخوتهن وآبائهن المنتمين إلى التنظيم، إلى «تفاصيل المعارك التي يخوضها الرجال، وكيف يقومون بنقل العبوات الناسفة وتوقيتها»، وأحيانا «صناعتها يدويا داخل المنزل». إستراتيجية التجنيد يقول المنشق عن «القاعدة» أبو أسامة العراقي «إن عملية التجنيد كانت تتم ببث الأفكار المتشددة في عقول النساء المستهدفات، وحرمانهن من كل وسائل الاتصال التي قد تتيح لهن معرفة ما يجري خارج حدود القرية». في تلك الأثناء، يضيف أبو أسامة، «لم يكن مسموحا لمعظم سكان القرى بالاحتفاظ بتلفزيون أو إنترنت باعتباره من المحرمات». المرحلة الأخيرة من عملية التجنيد، كانت «تتطلب تكرار الآيات القرآنية والأحاديث التي تشجع على الجهاد، وترديد قصص الصحابيات المقاتلات، والنساء اللواتي رفعن رؤوس عائلاتهن حين نفذن عمليات انتحارية ضد الكفار» في مدن عدة في العراق. العراقي يشير إلى أن عبور المرأة المزنرة بحزام ناسف بسهولة من نقاط التفتيش أغرى التنظيم في تفريغ عدد من أمرائه لتولي مهمة التجنيد في بداية الأمر، قبل أن يوزع هذه المهام على نساء متخصصات بالتجنيد. أبرز هؤلاء الأمراء كانوا من المقاتلين العرب الذين جلبهم النظام السابق إلى العراق عشية دخول القوات الأميركية للبلاد عام 2003، ومنهم أبو ليلى السوري وأبو عبدالله السعودي وأبو معتز الليبي. اختفى هؤلاء بعد سقوط النظام السابق مباشرة، لكنهم عادوا مجددا إلى الواجهة بعد أن أعلن التنظيم عن ولادة «دولة العراق الإسلامية» عام 2006. كان أبو عبدالله السعودي، كما يقول مسؤول أمني بارز في ديالى «أكثر شخصية عرفت بتجنيد الانتحاريات. لكن من غير المعروف حتى الآن مصيره، ومن المرجح أنه غادر العراق في وقت ما بين عامي 2009-2008 حين بدأ تنظيم القاعدة بالانهيار جراء العمليات العسكرية ضده». أما الآخرون، كما يقول المسؤول الأمني، «فقد قتلوا بعد أن نجحوا في تجنيد عشرات الانتحاريات». نشط المجندون العرب في بداية الأمر في مناطق المقدادية ودلي عباس وبعقوبة وبهرز وجلولاء وقرة تبة. غالبية الفتيات الصغيرات اللواتي -كما يقول مدير شرطة ديالى السابق- خضعن لعملية التجنيد في هذه المناطق أجبرن على الزواج مبكرا من عناصر تنظيم القاعدة قبل أن يتحولن إلى «انتحاريات»، سواء بالإقناع أو التهديد بقتل الأب أو العائلة. لم يقتصر الأمر على التجنيد المباشر للنساء، كان هناك أيضا طريقة تعتمد على تجنيد الفتيات المتخلفات عقليا، كما حصل في التفجير المزدوج الذي وقع في سوق للطيور في منطقة بغداد الجديدة. إذ تبين أن الانتحاريتين كانتا «متخلفتين عقليا»، تم تفخيخهما وتفجيرهما عن بعد. العملية تبعتها تحقيقات قادت إلى اعتقال مدير مستشفى الرشاد للأمراض العقلية، بحسب الناطق باسم عمليات بغداد قاسم عطا، الذي قال حينها إن الاعتقال جرى وفقا لمعلومات عن تعاون مدير المستشفى مع تنظيم القاعدة. في ما بعد اتضح أن عددا من نزيلات المستشفى اختفين فعلا من دون أن يبلغ عنهن أحد. نساء نافذات انتقلت راية التجنيد من «الأمراء العرب» إلى نساء عراقيات نافذات، وهن في الغالب -كما يقول أبو أسامة العراقي- كن نساء كبيرات أو متوسطات في العمر عرف عن بعضهن ارتباطهن بجرائم قتل أو اتجار بالنساء قبل أن يرتبطن بالجماعات المسلحة. هذا التناقض في التوجهات تشرحه مسؤولة أمنية في محافظة ديالى تخصصت في متابعة ملف عنف النساء في المحافظة. فهي تقول إن «المال الذي كان يأتي من عمليات النخاسة (الدعارة) أو التجارة غير المشروعة، تحول إلى مال «إسلامي» يدفعه أمراء تنظيم القاعدة لتجنيد الانتحاريات داخل المناطق الفقيرة». عملية صلاح الدين «اليتيمة» يصف الجندي محمود فارس، وهو أحد الناجين من تفجير نفذته الانتحارية سهيلة (21 عاما) في محافظة صلاح الدين، لحظات الرعب التي عاشها هو ورفاقه صبيحة 18 من أكتوبر عام 2008. يتذكر فارس كيف اقتربت من نقطة التفتيش التي كان يرابط فيها، إمراة منقبة طويلة القامة وهي تحمل بين يديها كيسا بلاستيكيا. المرأة التي كانت تسير بتثاقل كانت تسأل الجنود عن الطريق المؤدي إلى مستشفى المدينة، لكنها لم توقف خطواتها باتجاه النقطة على رغم تكرار الجنود أن المستشفى يقع في الاتجاه المعاكس. لحظتئذ، يقول فارس: «لمحت أحد الأسلاك وهو يتدلى من جانب النقاب عند منطقة الرقبة، فأيقنت أن المرأة مفخخة وصرخت عاليا (انتحارية)، وانسحبت مع رفاقي بسرعة إلى ما وراء الحواجز الكونكريتية وبدأنا إطلاق النار باتجاهها، فسقطت على الأرض ثم انفجرت على الفور. التحقيقات كشفت في ما بعد أن الانتحارية (سهيلة) تنحدر من أسرة انتمى أغلب أفرادها إلى تنظيم «القاعدة» في وقت مبكر. المصدر المسؤول في قيادة عمليات صلاح الدين الذي أبلغنا بهذه المعلومات قال إن العوز وظروف العزلة التي عانتها الانتحارية، ربما هي التي دفعتها لتنفيذ العملية. فبعد أن اعتقل إخوتها وقتل زوجها وأحد إخوتها على يد جماعات مسلحة مناوئة للقاعدة، اضطرت سهيلة إلى العمل على صناعة «تنانير الطين» لإعالة أطفالها الخمسة وأبناء إخوتها الذين قتلوا أو سجنوا أو التحقوا بالقتال مع القاعدة. والد الانتحارية سهيلة يتذكر أن ابنته عانت كثيرا بسبب ابتعاد الناس عن شراء «تنانير الطين» منها لارتباط العائلة بالتنظيم. «كنا نعيش بحالة من الفقر المدقع طوال الأشهر التي سبقت تنفيذ العملية، لم يكن لدينا أي فلس لنعيش به»، يضيف والد سهيلة الذي يصف أهل مدينته ب «القساة»، لأنهم سدوا أمامها منافذ الحياة وأجبروها على تنفيذ العملية الانتحارية. «أم المؤمنين...» لم تتوقف أشهر مجندة انتحاريات في العراق عن البكاء، حين شرعت برواية قصتها «الجديدة» عن اتهامها بتجنيد 28 انتحارية نفذن عمليات انتحارية في أسواق شعبية ونقاط تفتيش وتجمعات مدنية. (أم المؤمنين) التي تراجعت عن اعترافات متلفزة سابقة، قالت إن تهمة «تجنيد الانتحاريات» كانت «كذبة» أطلقها أناس «حاقدون حاولوا ابتزازها لشراء منزلها بثمن بخس». لا تتذكر (أم المؤمنين) من هم هؤلاء الناس. على رغم ذلك، فهي تتذكر كل أسماء الفتيات اللواتي قالت إنها جندتهن لتنفيذ عمليات انتحارية. سر تذكر (أم المؤمنين) لهذه الأسماء، كما تقول، أنهن ما زلن على قيد الحياة، وأنهن سيحضرن إلى المحكمة لتبرئتها من تهمة التجنيد التي اضطرت للاعتراف بها تحت وطأة التعذيب. كانت أم المؤمنين (50 سنة) هادئة تماما وهي تسمي ثماني «انتحاريات وهميات» طلبت حضورهن إلى محكمة التمييز. بدت واثقة من أن حضور «الانتحاريات الوهميات الثمانية» إلى المحكمة سيحول محكوميتها من «المؤبد» إلى «الإفراج» حتما. لا يشاطر مسؤول أمني بارز في محافظة ديالى (أم المؤمنين) تفاؤلها، فالأسماء التي ذكرتها في جولات التحقيق الأولى كانت فعلا لنساء نفذن عمليات انتحارية. يفسر المسؤول الأمني ثقة (أم المؤمنين) بالحصول على البراءة بأنها قد تكون تلاعبت بمضمون الاعترافات في كل جولة تحقيق. وهو ما تفعله أغلب المنتميات لتنظيم القاعدة اللواتي تدربن على هذا النوع من الاعترافات «المتناقضة» من دون أن ينجحن في تضليل القضاء. حياة وداد «العقائدية». تلخص قصة الانتحارية وداد ذات ال 17 ربيعا، وهي قريبة الانتحارية رانية العنبكي وشريكتها في الزنزانة، رباعية (الانتقام/العقيدة/الجهل/الفقر) في شكل مثالي. فوداد التي زوجّها أهلها حين كانت في ال 13 من عمرها، ل «أمير» من تنظيم «القاعدة» يحمل الجنسية السعودية وتخرج في إحدى الجامعات الدينية هناك، تنحدر من عائلة متشددة انتمت مبكرا إلى التنظيم. واعتنقت وداد العقائد التكفيرية بتأثير من زوجها وإخوتها الذين نفذ ثلاثة منهم عمليات انتحارية طالت مراكز أمنية وتجمعات مدنية، تسببت بقتل العشرات من «الكفار» وجرحهم. والدة وداد (ن.ك) تولت لفترة ليست قصيرة مهمة تجنيد الانتحاريات في مناطق ديالى، قبل أن تصدر بحقها أوامر إلقاء قبض وتهرب إلى جهة مجهولة، وفق سجلات دوائر الاستخبارات في محافظة ديالى. سجلات المحققين تكشف وجها آخر لقصة وداد. فهي أم لطفلتين هما (ن) و (ف)، تعيشان معها الآن في السجن. واعترفت وداد خلال جلسات التحقيق الأولى، كما يقول مدير سجن النساء، بأنها وافقت على الزواج بالسعودي مقابل مهر قوامه «مباركة الزوج لتنفيذ عملية انتحارية»، وبأن العملية الموعودة ألغاها الزوج بسبب حملها المبكر، بطفلتها الأولى، وحملها بالثانية التي ولدت داخل السجن. العقيدة المتشددة التي تحملها وداد، ورغبتها بالانتقام لدماء إخوتها «الانتحاريين»، تشرد والدتها «مجندة الانتحاريات» واعتقال زوجها وتسفيره، كلها عوامل تفاعلت مع جهلها (لم تكمل الدراسة الابتدائية)، وفقرها، والتقاليد الاجتماعية المتشددة التي دفعتها في النهاية إلى الانخراط في العمل «الانتحاري». أنجز التحقيق بالتعاون مع شبكة «إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية أريج»، بإشراف الزميل محمد الربيعي. غالبية الأسماء الواردة في هذا التحقيق مستعارة حفاظا على سلامة الشخصيات الرئيسية في التحقيق.