يروم هذا المقال الذي يقترح ننشره في حلقات تحقيق خمسة أمور، أولا: التحذير من معارضة مطالب حركة 20 فبراير، بل وحتى من التشكيك في نوايا أصحابها. ثانيا: ركوبها لقضاء مآرب ذاتية، أو لتشويه أو تحريف أهدافها. ثالثا: تجنب استغلالها لطمس كفاح الحركة الوطنية التحريرية في عهد الحماية ونضالات الأحزاب الأصلية في عهد الاستقلال من أجل ترسيخ الفكر الديمقراطي وبناء نظام في الحكم أساسية ملكية دستورية. رابعا: تجنب استغلال هذه المظاهرات ومكوناتها للمس أو تشويه دور الأحزاب الديمقراطية واتهامها بالسلبية وبأنها متجاوزة. خامسا: وجوانب أخرى يترك للقارئ أمر استخلاصها. المسألة الديمقراطية في تصور الحركة الاتحادية بنشوء الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال, احتلت المسألة الديمقراطية الصدارة في اهتمام مناضليها وهذا ما نجده في قانونها الأساسي وفي برامجها العادية أما القانون الأساسي فنص على ما يلي: - العمل على تأسيس دستور ديمقراطي وحكومة شعبية في ظل العرش العلوي. - والعمل على تربية الأمة تربية سياسية ديمقراطية. وبنشوء هذا الحزب عرفت الفكرة الديمقراطية تحولا في المسار، ووضوحا في المفهوم واستماتة في النضال، وآية في التضحية. وتحت إلحاح الأحزاب الوطنية الأصيلة استجاب الملك محمد الخامس فأصدر قانون الانتخابات بواسطة ظهير 1 سبتمبر 1959، وأجري أول انتخاب للمجالس البلدية والقروية في 29 مايو 1960، ولكنها ذات اختصاصات «استشارية وليست تقريرية» بحيث تقتصر اختصاصاتها على «تحضير الميزانية الجماعية البلدية والقروية وإعطاء رأيها في القوانين والأنظمة التي تمس دائرة اختصاصها إذا طلبت منها الإدارة ذلك، وإمكان مناقشة مختلف الموضوعات المتعلقة بالإصلاحات المحلية ولاسيما الميادين الإدارية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والثقافية وكل ما يتصل بالشؤون الدينية، على أن ترفع التوصيات أو الرغبات إلى الإدارة المختصة، باستثناء الرغبات ذات الصبغة السياسية أو خارجة عن الشؤون المحلية». وبقدر ما جعل القانون من هذه الجماعات مجرد هيئات استشارية، أعطى سلطة مهمة لوزارة الداخلية وممثليها في الأقاليم.. وهكذا إلى أن غير هذا القانون بظهير جديد صدر بتاريخ 30 سبتمبر 1976 الذي وسع من اختصاصات المجالس نسبيا إذا قورنت بمجالس ما قبل هذا الظهير، ومن ذالك أن: المجلس يفصل بمداولاته في قضايا الجماعة ويتخذ التدابير اللازمة ليضمن للجماعة كامل نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ويضع مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجماعة طبقا للاتجاهات والأهداف المقررة في المخطط الوطني، إلا أن الظهير الجديد أبقى على الوصاية التي فرضها التشريع القديم ومنها على الأخص أن بعض مقررات المجالس لا تكون نافذة إلا إذا صادقت عليها السلطة الإدارة العليا، كالميزانية والاقتراض وفتح الحسابات خارج الميزانية، وفتح الاعتمادات الجديدة... ولنكتف بهذه الإشارات فيما أنجزه المغرب فيما يخص مشاركة السكان في تدبير الشأن المحلى لأن هذه المشاركة قد تتاح حتى في الأنظمة غير الديمقراطية ولنحيل تقييمها في أنها كانت تجربة خيبت أمال المواطنين وجعلتهم يعزفون عن المشاركة حتى بالإدلاء بأصواتهم فيها وذلك لأسباب يعود بعضها إلى تدخل السلطة ويرجع بعضها إلى مستوى الناخبين والمنتخبين وطرق التصويت عليهم وقبل كل شيء إلى القانون المنظم لها والمضيف لاختصاصاتها، ولأن المشاركة في تدبير الشأن المحلى كان معروفا لدى أهالي بعض المناطق المغربية ولو في إطار عرفي، ولأن بعض البلدان مارسته وهي خاضعة للسيطرة الأجنبية, فإننا لا نعتقد أن المغرب قد أنجز ما يستحق التنويه بشأنه، لهذا نعود إلى الفكرة الديمقراطية التي تعني مشاركة المواطنين في تدبير الشأن العام الداخلي والخارجي بمقتضي دستور يحدد المسؤوليات، و يسمح للشعب باختيار ممثليه على الصعيد الوطني ومراقبتهم ومحاسبتهم. فلقد رأينا كيف فشلت التجربة الأولى فيما سمي بالمجلس الوطني الاستشاري لأن هذا المجلس لم يمكن من صلاحيات تؤهله لتحقيق المؤمول منه، وقد يكون ما عرفته البلاد في هذه المرحلة من أحداث هي الأسباب التي عطلت هذه التجربة، قضية عدي بيهي في الجنوب، و أحداث الريف في الشمال، وعدم الاستقرار في تشكيل الحكومات حكومتان برئاسة امبارك البكاي وثالثة برئاسة الحاج احمد بلافريج لم تلبث أن أقيلت ورابعة برئاسة عبد الله إبراهيم لم تلبث أن أقيلت أيضا, إضافة إلى بروز ما كان مستورا من تناقضات داخل حزب الاستقلال أدى إلى خلافات حول التوجه السياسي والدستوري بين جناحيه والذي احتد بعد تنصيب حكومة بلافريج، وازداد حدة بعد استبدال حكومة عبد الله إبراهيم بها، ليبلغ مداه يوم إعلان الجناح التقدمي عن تأسيس حزب جديد يوم فاتح فبراير 1959، بعد قيام انتفاضات في كثير من المدن دشنتها مدينة الرباط في 25 يناير من ذات السنة، كما سبق ذكره. موقف الحركة الاتحادية من المسالة الدستورية وبعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم تولى الملك محمد الخامس رئاسة الحكومة بنفسه وفي خطابه الأول بهذه الصفة «تعهد بإقرار نظام الحكم الدستوري قبل انتهاء عام 1962» وفي هذا السياق عين ما أطلق عليه «المجلس التأسيسي» ضم فعاليات من مختلف المجالات بما في ذلك رجال العلم والقضاء والدين والقانون، والهيئات الوطنية باستثناء الهيئات التقدمية التي كانت تتكون من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد المغربي للشغل وجمعية المقاومة والتحرير، والاتحاد الوطني لطلبة المغرب والحزب الشيوعي الذي كان محظورا طبعا. وقد احتوى الظهير الصادر بشأن المجلس التأسيسي بعض المبادئ الأساسية التي رأى من الضروري أن يتضمنها الدستور، حيث نص على «أن الدستور يجب أن يكون محترما للمبادئ الأساسية للإسلام، ويراعي الطابع الخاص بالمغرب، وسيحدث مؤسسات ديمقراطية في نطاق الملكية الدستورية» وقد تضمن الخطاب الذي نصب به جلالة الملك محمد الخامس أعضاء هذا المجلس يوم 7 نوفمبر 1960 توجيهاته بشأن ما ينبغي أن يكرسه المشروع، حيث جاء فيه: «يسجل اليوم بلدنا خطوة جديدة إلى الأمام في تنظيم حياته الوطنية، وتوطيد أركان الحكم الديمقراطي، وإنه لمن أسعد أوقاتنا هذه الساعة التي نفتح فيها أشغال المجلس المكلف بوضع مشروع دستور المملكة... ونعلن أن إرساء الحكم على قواعد الدستور مظهر من مظاهرات يقظة الشعوب ووعيها، وضرورة لا مندوحة عنها لدولة تريد أن تكون سلطاتها منظمة ومسؤولياتها محددة واضحة» وقد أعطي للمجلس التأسيسي مهلة لإعداد مشروع الدستور وتقديمه لجلالة الملك قبل شهر دجنبر 1962، ولكن الأجل وافاه قبل أن يرى رغبته تتحقق, فقد توفي يوم 26 فبراير 1961 تاركا لوصي عهده الحسن مسؤولية متابعة المشوار الذي تعهد به فيما يرجع لإقرار نظام الحكم الدستوري... لم تكن علاقة خلف الملك محمد الخامس وهو ولي العهد على ما يرام ببعض قادة حزب الاستقلال، فبقدر ما كان والده يتعاطف مع الحركة الوطنية بجميع فصائلها ومع قادتها ولاسيما جناحها التقدمي، كانت لولي عهده علاقة تتسم بالريبة وعدم الارتياح وخاصة بقادة الجناح التقدمي وعلى الأخص رموز حركة المقاومة وجيش التحرير، الذين تعرضوا للمضايقة والاعتقال في عهد والده بإيعاز منه. بل وذهب البعض إلى أن إقالة حكومة عبد الله إبراهيم كان وراءها ولي العهد و ديوانه الذي كان يرأسه أحمد رضا أجديرة المعروف بمواقفه إزاء الحركة الوطنية ورموزها... هذه الحكومة التي كان تأسيسها مؤشرا إلى أن الملك محمد الخامس كان يطمح في إقامة نظام ديمقراطي، يمهد له بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، ولم يجد من يصلح لهذه المهمة إلا الجناح التقدمي لحزب الاستقلال, فعين حكومة برئاسة عبد الله إبراهيم وأسند وزارة الاقتصاد والفلاحة لنائبه عبد الرحيم بوعبيد وترك لهذه الحكومة حرية المبادرة فأنجزت في كثير من المجالات خطوات جريئة لإخراج المغرب من التخلف وتحريره من التبعية ورواسب العهد الاستعماري البغيض... ولكن هذا المجلس لم يكتب له الاستمرار، فما أن أعلن عن تعيينه وانتخب مكتبه برئاسة علال الفاسي حتى انسحب عدد من أعضائه الذين كانوا يمثلون بعض الهيئات وفي مقدمتهم المحسوبين على اتجاه الحركة الشعبية التي يتزعمهم كل من عبد الكريم الخطيب والمحجوبي أحرضان، وذلك احتجاجا على انتخاب علال الفاسي رئيسا للمجلس. ومن هنا اختلفت مواقف الأحزاب السياسية الموجودة في الساحة إذاك بشأن هذا المجلس فمنها من قبل المشاركة فيه و»كان من رأيهم أن المهم هو وضع الدستور، وأن البلاد التي تخطو ببطء نحو الديمقراطية لا ينبغي أن تضيع هذه الفرصة لتتشبث بمجلس منتخب ليست هناك ضمانات كافية في أن يكون منتخبا بحرية وعلى وجه يضمن إيجاد دستور صالح للبلاد» (غلاب ص 178)، وهذا رأي حزب الاستقلال، ومنها من امتنع عن المشاركة بسبب طريقة تكوينه، حيث رأوا أن المجلس التأسيسي ينبغي أن يكون منتخبا (غلاب ص 178). وهذا موقف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد المغربي للشغل، ومنها ما قبل المشاركة دون قيد أو شرط ولكنه انسحب عن انتخاب علال الفاسي رئيسا للمجلس (غلاب ص 178) هو الحركة الشعبية، وفي هذه النقطة بالذات تجدر الإشارة فيما يرجع لموقف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى انه بمجرد الإعلان عن عزم جلالة الملك محمد الخامس عن تكوين المجلس الدستوري، بادر إلى عقد اجتماع استثنائي موسع حضره كتاب الأقاليم وذلك مباشرة بعد البلاغ الرسمي الذي صدر بتاريخ 14 يوليو 1960 يعلن عن تعيين مجلس تأسيسي يكلف بالبدء في إعداد الدستور... وقد تميز هذا الاجتماع بعرض قدمه عضو الكتابة العامة عبد الهادي بوطالب كان عبارة عن درس جامعي أكاديمي من حيث التصميم والمنهجية و الإلقاء وبعد جولة مستفيضة تطرق فيها للفكرة الديمقراطية نشوءا وتطورا وتطبيقا في بعض البلدان انتقل للحديث عن الدستور وأنواعه، وعن طرق وضعه ليخلص إلى أن الدستور إما ممنوحا أو موضوعا من لدن مجلس تأسيسي منتخب لإعداد مشروعه ثم عرضه على الشعب ليقول فيه كلمته عن طريق الاستفتاء. لقد كان العرض رائعا مقنعا بأن هذا النوع من الدساتير هو الأفضل لممارسة ديمقراطية حقيقية، وبعد مناقشة العرض وتقديم توضيحات إضافية طلب من الحاضرين التصويت على المشاركة في المجلس الدستوري المعين أو الامتناع، فكانت الأغلبية مع الامتناع، فتقرر عدم المشاركة وصدر بلاغ لم يرق عدة جهات، واعتبر هذا الموقف «مناورة حيكت ضد وجود المجلس وهناك لابد من توضيح بشأن هذه المسألة، توضيح كنا في غنى عنه لو لم يتكرر تعميم هذا الادعاء الذي يسوي بين موقفي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والحركة الشعبية باعتبارهما مناورة ضد وجود المجلس التأسيسي (انظر تعليق غلاب في نفس المرجع ص 178). فالحقيقة أن موقف الاتحاد موقف مبدئي نابع من قناعة مناضليه بأن الديمقراطية الحقة هي التي تمارس وفق مقتضيات دستور موضوع من ممثلين ينتخبهم الشعب، أما انسحاب الحركة الشعبية من المجلس فسببه انتخاب علال الفاسي رئيسا لهذا المجلس, كما أعلنت عن ذلك في بيانها... والمهم هو أن امتناع الاتحاد عن قبول عضوية المجلس وانسحاب ممثلي الحركة الشعبية منه بعد انتخاب علال الفاسي رئيسا له، وقد تكون هناك مناورة كما اعتقد غلاب، كل هذا أفضى بالمجلس إلى فشل التجربة... ولما خلف الحسن الثاني والده في الملك صدر ما أطلق عليه إذاك «القانون التأسيسي الذي يجدد الأسس الوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تقوم عليها الدولة ويؤكد المبادئ التي أقرها العهد الملكي, كما يؤكد الالتزامات التي التزام بها محمد الخامس إزاء الشعب فيما يخص وضع نظام ديمقراطي للبلاد» (غلاب ص 18). و مما جاء فيه «المغرب مملكة عربية إسلامية، والإسلام دين الدولة الرسمي والعربية لغة البلاد الرسمية، ومتابعة الكفاح لاستكمال وحدة البلاد الرسمية، ومساواة المواطنين في الحقوق والواجبات، والتزام الدولة بصيانة كرامة الأشخاص وكفالة الحريات الخاصة والعامة، وفصل السلط واستقلال القضاء لضمان العدل وإقرار نظام اقتصادي لتحقيق العدالة الاجتماعية وتنمية الإنتاج، وتكفل الدولة بالتعليم وفق توجيه وطني عربي إسلامي مع اعتبار التكوين التقني والمهني والعلمي، والتزام سياسة عدم التبعية...» [غلاب ص 180]. صدر هذا القانون بتاريخ 2 يونيو 1961، في نفس اليوم الذي تأسست فيه الحكومة الجديدة والتي شارك فيها أعضاء من حزب الاستقلال وضمنهم علال الفاسي كما هومعلوم . وإذا كان هذا القانون حسب تعبير غلاب «مظهرا للتطور في الأسس الديمقراطية» فإنه ليس مؤشرا لتطور النظام الديمقراطي الدستوري النيابي، أما من حيث التطبيق فإن مظهر الحكم المطلق، حسب غلاب نفسه، ظل هو السائد حتى في هذه الفترة التي وضع فيها القانون الأساسي... من الشورى إلى المطالبة بالدستور وتمضي سنون على عرض الأستاذ عبد الهادي بوطالب, فتظهر مؤلفات عن المسألة الديمقراطية وعن الدستور مغربية وأجنبية، سيتضح أن فكرة الديمقراطية لم تكن غائبة عن أذهان النخب المغربية ولا مبالغة إن قيل إن معناها كان حاضرا منذ تأسيس أول دولة في المغرب وأن تطبيقها، وإن لم يكن بالكيفية التي هي عليها اليوم، فقد كان في إطار ما يطلق عليه إسلاميا «الشورى» أو المشورة، بل وإن أمراء القبائل وشيوخها لم يكونوا يتصرفون في الشؤون العامة دون استشارة بطانتهم بيد أن حضور آلية «الاستشارة» كان يتوقف على مزاج هذا الأمير أو الشيخ وفهمه واقتناعه بجدوى الآية الكريمة «وأمرهم شورى بينهم» التي كانت مبدأ من مبادئ الحكم في الإسلام، والتي لو تم تطبيقها وتطويرها لانتهت إلى آلية لربما لا تختلف عن الآليات التي تطبق بها الديمقراطيات الحديثة... ومع ذلك فإن نخبة من علماء المغرب بادروا قبيل فرض الحماية إلي إثارة المسألة الدستورية عام 1908 كما رأينا، وبعد هذه المحاولة، قامت الثورة الريفية وأقامت كيانا أطلق عليه «الجمهورية الريفية» لها دستور تدبر شؤونها بمقتضي أحكامه. إجماع مكونات الحركة الوطنية على المطالبة بالدستور وانتهى العمل بهذا الدستور بتوقف الثورة الريفية كما هو معلوم، لينشغل المغاربة عن الفكرة الديمقراطية إلى 11 يناير 1944. حيث أعيد طرحها ولكن بصيغة محتشمة خجولة، اقتضتها العلاقة التي كانت تربط الحركة الوطنية بالملك محمد الخامس من جهة أخرى، وثالثا مراعاة الظرفية التي كانت تقتضي عدم إثارة قضايا قد تفضي إلى انشغال الوطنيين بما يصرفهم عن القضية الأساس وهي المطالبة بالاستقلال، لكن من الإنصاف التذكير بموقف حزب الشورى والاستقلال الذي له السبق في طرح المسألة الدستورية وكان شعاره، وهو يخوض معركة استرجاع المغرب لاستقلاله، «الاستقلال رائدنا وسبيلنا إليه الدستور»، وهو عنوان لمقال أصدرته جريدة الرأي العام بقلم المرحوم محمد حسن الوزاني بتاريخ 17 شتنبر1947 عدد 23، وهو مقال يذكر فيه صاحبه بالمحاولة الأولى التي نشرتها جريدة ذلك الوقت على لسان طلاب حق الأمة وأنصار دستورها. وقد جاء فيها «يعلم أننا ما قلدناه بغيتنا واخترناه لإمامتنا وخطبنا وده رغبة وطوعا (...) إلا أملا ينقذنا من وهدة السقوط التي أوصلنا إليها الجهل والاستبداد، فعلى جلالته أن يحقق رجاءنا وأن يبرهن للكل على أهليته ومقدرته على ترقية شعبه ورغبته في الإصلاح وجدارته بإدارة ما تهدفه أمته، و بما أن يدا واحدة لا تقدر على إنهاض شعب من وهدة سقوطه، ولا على إصلاح إدارة مختلة كإدارة حكومتنا، فيجب أن تكون الأيدي المتصرفة والقوى المفكرة والأفكار المدبرة كثيرة متكافئة على العمل، وعليه فلا مناص ولا محيد لجلالته أن يمنح أمته نعمة الدستور ومجلس النواب وإعطائها حرية العمل والفكر لتقوم بإصلاح بلادها اقتداء بدول الدنيا الحاضرة المسلمة والمسيحية والدول الحاضرة يوم كانت مستبدة وسلطتها مطلقة لم تكن لها كلمة مسموعة ولا ما يدل على أنها دول قديرة... لا شك أن لجوء الوزاني إلى نشر هذا المقال يعني ما يعنيه، فالخطاب موجه إلى حاضري عصره طبعا... وهذا ما يستفاد من الفقرة التي ختم بها مقاله حيث خلص فيها إلى أن «الحركة الدستورية المغربية اليوم تواصل تلك التي عرفها الوطن العزيز في عهد استقلاله، وإن شأنها سيكون غير شأن الحركة التي عاشتها الظروف وأحبطتها الدسائس الأجنبية والقول الفصل، وإن قافلة المغرب تدانت اليوم على المسير ورائدها الاستقلال وسبيلها إليه الدستور» «وقل اعملوا فسيرى الله أعمالكم ورسوله والمؤمنون» (محمد الحسن الوزاني حرب القلم ص 125 و126 و127). ومن الإنصاف أيضا لهذا الرجل وللحزب الذي كان يقوده أنه بمجرد ما عاد الملك محمد الخامس من منفاه بادر إلى نشر مقال تحت عنوان: «استقلال وديمقراطية» بجريدة الرأي لعام 19 نوفمبر 1955 عدد 216 جاء فيه «أما بالنسبة للشعب المغربي فإن الاستقلال لا يمكن أن يكون حقيقيا ولا في صالح الأمة جمعاء إلا إذا قام على أساس الشورى والديمقراطية الحديثة وذلك في دائرة ملكية قوامها الدستور وفصل السلطات العامة والحريات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغير هذا مما تنص عليه جميع الدساتير العصرية في الأمم الراقية، فبهذا وحده يكون الاستقلال في صالح الشعب والمواطنين. وبالرجوع إلى أدبيات حزب الشورى يتبين أن المسألة الديمقراطية كانت تحظى بالأولوية في أجندته، بل وبالإلحاح عليها بالمنظور الذي كان يراه والمناسبات التي كانت تثار فيه المسألة الديمقراطية، وكمثال على ذلك رده على حديث أدلى به وزير الداخلية يدعي فيه أن في المغرب ديمقراطية حيث كتب مقالا في جريدة الرأي تحت عنوان لكي يحكم الشعب [3 أكتوبر1957 عدد 621] ومما جاء في الرد «في كتاب لأحد الأحرار المناضلين عن الحرية هذا التعريف لديمقراطية الحكم «لكي يكون الشعب حرا يجب أن يسود، ولكي يسود يجب أن يحكم وهذه هي الديمقراطية حكم الشعب، ذلك أن الديمقراطية في جوهرها ونظامها تقوم على احترام حقوق وحريات الفرد والجماعة، وعلى نزاهة وعدالة القوانين وعلى استقامة الحكام، وعلى رعاية الحرمات والمقدسات وعلى صيانة الأمن وكفالة الاستقرار، وعلى ضمان سلامة النفوس والأرواح وعلى حفظ حرمات البيوت والمساكن، وعلى اطمئنان الضمائر والقلوب، وعلى الشعور العام بكل ما يجعل الحياة طيبة والعيش هنيئا والعيشة راضية»، (حرب وقلم 3 ص 238 و239). هذا قليل من كثير مما طالب به حزب الشورى والاستقلال أو نشره مفكروه، حتى بلغ بهم الأمر في هذا الباب أن طرحوا مفاهيم للديمقراطية وللدستور عرضتهم لمتاعب وإشاعات اتهموا من خلالها بأنهم ذووا نزعة جمهورية سواء قبل الاستقلال أو بعده، فإذا كان لا يمكن إنكار دور حزب الاستقلال في تحقيق الاستقلال, فإنه لا يمكن إنكار دور حزب الشورى في نشر الفكرة الديمقراطية والدستورية. لماذا بقي المغرب بلا دستور إلى أواخر 1962 والسؤال المطروح هو لماذا بقي المغرب بدون دستور إلى الشهر الأخير لعام 1962 رغم أن هناك اتفاقا حول ضرورة وجود هذه الآلية، وأن الفكرة لم تعد محط نزاع بين الأحزاب والملك محمد الخامس والحسن الثاني بعده، ثم كيف يعقل أن يستمر المغرب محكوما بالظهائر والمراسيم وقد مر على طرحها أكثر من خمسة عقود، وعلى استرجاع المغرب لاستقلاله مدة كانت كافية لخروجه من نظام مخزني تقليدي إلى نظام ملكي عصري ذي شرعية دستورية؟ ثم كيف يعقل أن يظل المغرب بلا دستور في الوقت الذي وجد في دول أخرى كانت مستعمرة مثله كمصر والهند وباكستان وتونس، أو تحت الانتداب كالعراق وسوريا ولبنان... قبل تخلصها من الاستعمار والانتداب؟ يحتاج الجواب على هذه الأسئلة إلى جرأة، وإلى عدم تأويل هذه الجرأة واعتبارها مسا بقداسة ما أو تعديا على حركة أحد... أو تجاوزا لخط من الخطوط التي يعتبرها البعض حمراء... قد نجد عذرا لعدم تمكن المغرب من وضع دستور في عهد الحماية، لأن ذلك كان خارجا عن إرادة المغاربة قادة وشعبا، ونفس العذر قد نلتمسه بالنسبة للسنوات الأولى للاستقلال، ولكن ما المانع من إنجاز ما تم الاتفاق عليه ولاسيما دسترة شؤون الحكم. البادي من مراجعة ما جرى من أحداث بالمغرب عقب استقلاله أن متغيرات طرأت لها تأثير في تغيير عدد من الإنجازات كانت البلاد في أمس الحاجة إلى القيام بها للقضاء على مظهر التخلف وفي مقدمتها إرساء نظام الحكم على أسس ديمقراطية بتمكين المواطنين من المساهمة في بناء مغرب حديث كانت الحركة الوطنية تبشر به وكان المغاربة يعلقون عليه الآمال، ومن بين هذه المتغيرات: انشغال نشطاء الأحزاب السياسية بالتهافت على المواقع واكتساب الامتيازات والتنافس على استقطاب الأتباع والالتفاف على الأحداث وادعاء كل فريق نسبتها وفاعليها إليه مما فتح أبواب الأحزاب مشرعة أمام كل من هب ودب للانخراط، ولم تسلم حركة المقاومة من هذا المآل، فقد عمدت عناصر منها في إطار التنافس الحزبي إلى تضخيم عدد الأفراد الذين كانوا ينقسمون إلى الخلايا التي كانت تحت إشرافها، وقد عرف هذا التنافس حدته في صفوف جيش التحرير الذي بدأ قليلا قبيل الاستقلال وتضخم عدده في أسابيعه الأولى، وقد نجم عن هذه السلوكيات بروز عدة أمور كانت لها انعكاسات سلبية على مسار بناء الاستقلال عامة وعلى تنفيذ ما تم الإجماع عليه بشأن تمتيع البلاد بدستور تحكم البلاد وفق أحكامه، وهو ما يعنينا في هذا المقام. في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب السياسية تتنافس على استقطاب واحتلال مراكز النفوذ والهتاف لزعمائها والتقوية من كريزميتهم وإضفاء صفة القداسة على شخصيتهم لدرجة أن منهم من كان في تلك المرحلة يتقاسم الشهرة مع الملك محمد الخامس كالزعيم علال الفاسي، وكان هناك من يتوجس خيفة من تنامي شهرة هذا الزعيم وقوة حزبه الذي انتشر في كل مناطق المغرب مدعوما بمنظمات جماهيرية كالشبيبة الاستقلالية والكشفية الحسنية والطفولة الشعبية والاتحاد الوطني لطلبة المغرب وجمعية المقاومة وجيش التحرير، وهي هيئات كان ليسار الحزب نفوذ عليها متمثلا في شخصيات مثل المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد البصري علاوة على المنظمة العمالية الوحيدة إذاك الاتحاد المغربي للشغل الذي كان محسوبا على حزب الاستقلال، وكذلك باقي النقابات المهنية الفلاحية والتجارية والصناعية...