يأتي كتاب الكاتب المغربي المعروف عبد الفتاح كيليطو «أنبئوني بالرؤيا» ليرسم مسارا سرديا بديعا كان مندسا بشكل ضمني وخفي ومبثوثا هلاميا في المؤلفات السابقة للمؤلف نفسه،مثل « الأدب والغرابة» و « الكتابة والتناسخ» و « الغائب» و « الحكاية والتأويل « و «المقامات» و « لسان آدم « و « العين والإبرة» و « أبو العلاء المعري أو متاهات القول» بشكل عام ، و « خصام الصور « وحصان نيتشه « بشكل خاص، كما يفتح هذا الكتاب أيضا ، وهذا هو الجميل نوافذ أخرى للنظر إلى ما كان مرسوما وإعادة بعثه إلى الوجود من جديد ومنحه صورته الحقيقية المكتملة بالفعل وليس بالقوة فحسب.إنها لعبة الكتابة المتعددة التي يتقن عبد الفتاح كيليطو عملية إبداعها، أو لنقل بلغة جيرار جنيت .إنها لعبة الطروس المضاعفة.كل طرس يحمل في طياته كتابات سابقة تعرضت للمحو وتمت عملية الكتابة فوقها بشكل آخر .لكنها وهي تمحى تترك بعضا من آثارها خلفها لتدل عليها بطريقة خفية ولتشير إلى حيواتها الماضية .هكذا يأتي هذا الكتاب السردي الفاتن ليطرح من جديد علاقة السارد فيه، هل هو سارد واحد ؟، بكتاب الحكايات العربية الأول « ألف ليلة وليلة».كيف تمت عملية اللقاء الأولي به ؟ وكيف استمر هذا اللقاء بهذا الكتاب السحري ليتحول إلى علاقة مستمرة إلى ما لا نهاية. في كتاب « أنبئوني بالرؤيا» أربعة أسفار تمارس لعبة الانفصال والاتصال فيما بينها ، إذ يمكن في هذا الصدد اعتبار كل سفر منها مكتف بذاته ، لكنه في نفس الوقت يمد يده مصافحا باقي الأسفار الأخرى بكثير من المودة ، مقيما بينه وبينها علاقة وشيجة جدا ، تارة عن طريق السارد نفسه وتارة أخرى عن طريق لعبة التناسخ بين شخصياته ، خصوصا الشخصيات النسائية فيه. حيث نجد في هذا الصدد أن شخصية «ايدا « ستتحول إلى شخصية « عايدة « . شخصية « ايدا « الحاضرة بقوة في السفر الأول الحامل لعنوان « ايدا في النافذة « حتى وان لم يرها السارد في هذه النافذة أو على الأقل لم ير شبحها في النافذة إلا في السفر الثالث الذي يحمل عنوان « معادلة الصيني « حيث يقول في هذا الصدد ما يلي: « وسط الضباب، بدا لي أنها تنحني قليلا خارج النافذة وتلوح في لطف بيدها، إشارة في اتجاهي تماما لحظة كنت أغادر... هكذا أكون قد رأيتها، المرة الأخيرة كالأولى، في إطار نافذة.» ص86.، كما أن هذه الشخصية ستصبح كما قلنا شخصية أخرى هي شخصية « عايدة» في السفر الرابع من الكتاب هذه المرة ، تتناسخ مع الأولى بالخصوص في كل صفاتها ، وتحظى هي الأخرى ، كما حظيت الأولى بحب السارد لها حبا جنونيا. يحفل هذا الكتاب السحري ، كما هو الشأن مع كتاب « ألف ليلة وليلة» بلعبة التحولات والبحث عن الأشياء النادرة الممتدة في الزمن البعيد ، مع هوس شديد بالكتب وبالعوالم العجائبية التي تقدمها لقارئها . ومنذ البداية يقوم السارد بوضع قارئه في رحاب الكتب، في المكتبات الشخصية والعمومية على حد سواء. تنطلق العلاقة بالكتاب منذ الطفولة وترتبط بشكل غامض بالمرض . يقول السارد في هذا الجانب مايلي : «أحب القراءة في الفراش.عادة مكتسبة منذ الطفولة ، لحظة اكتشاف «ألف ليلة وليلة» . كنت أرقد في غرفة جدتي، على أريكة موضوعة أسفل سريرها. أثناء مرض من أمراضي - لا بد أنه كان من الخطورة كي تتأبد ذكراه عند الأسرة-، كنت على الدوام غائصا في رقاد سباتي. وفي اللحظات القليلة التي أسترد فيها وعيي، أسمع أصوات الزائرات المستخبرات عن حالي. ما إن أدرك أني موضوع همسهن حتى أغوص ثانية في النوم.». ص 7.. و الجميل في الأمر أن السارد خلال هذا المرض نفسه سيتعرف على كتاب « ألف ليلة وليلة»، وأن التي ستتركه عند رأسها هي امرأة لا رجل. هل كانت هذه المرأة هي شبح شهرزاد جاء من وراء الحجب إليه ليحمله أمانة الحفاظ على حكاياتها ؟ . السارد لا يشير إلى هذا الأمر بتاتا، لكن هذا الأمر نجده مبثوثا في ذلك الهوس الفاتن بهذا الكتاب السحري إلى ما لا نهاية. هكذا سيعاود اللقاء بهذا الكتاب من جديد لكن بشكل آخر ، وفي لغة أخرى هي اللغة الانجليزية . يقول السارد في هذا الجانب ما يلي : «كنت أتردد كثيرا على بائع كتب قديمة عجوز . أنزل بعض الدرجات وأجد نفسي في قاعة متوسطة الاتساع ، ضئيلة الإضاءة . لم تكن الكتب الموجودة فيها تجذبني ، باستثناء واحد منها، ترجمة السير رتشارد فرنسيس بيرتون ل»ألف ليلة وليلة» في عشرة مجلدات ( 1885-1886)، إضافة إلى الملحق في سبعة. ( 1886-1888)». ص19.. وكما نجد أن السارد يحرص على محبة الكتب والانغراس فيها ، نجد أيضا أن هناك من ينافسه في هذا الحب ويحاول أن يتغلب عليه فيه . يتجلى لنا هذا الأمر في العلاقة التي تربط الأستاذ بتلميذه . كلاهما يحب الكتب وكلاهما مهووس بالبحث في عوالمها . تلك هي علاقة السارد بتلميذه « اسماعيل كملو» . هل هو تلميذه بالفعل أم لا يعدو أن يكون صورة جديدة منه ؟ لعبة سحرية من لعب الكتابة والتناسخ ، كما أشار إليها عبد الفتاح كيليطو في كتابه البهي « المؤلف ومضاعفوه « والذي ترجمه إلى اللغة العربية عبد السلام بنعبد العالي ب» الكتابة والتناسخ» نفسه. وكما يتم التنافس حول الاستيلاء على الكتب أو على الأصح على روح الكتب وعوالمها، من أجل « رغبة تافهة في البقاء» وهو ما يمهد للحديث عن الانتحال، كما هو الأمر في السفر الأخير من الكتاب، يتم الحديث أيضا حول الرغبة في الاستيلاء على حب المرأة والحظوة بها . وهو ما يوحي في الكتاب إلى العلاقة السحرية الخفية بين المرأة والكتب، أو لنقل بين شهرزاد ومكتبتها الشهيرة التي « كلما قرأ شهريار ليلا واحد من كتبها الألف، كان يقهقه ضاحكا ويدمع باكيا، تقريبا في الآن ذاته.» يحفل هذا الكتاب السردي الجميل « أنبئوني بالرؤيا « الذي جاء مصنفا تحت جنس الرواية ، والذي ترجمه إلى اللغة العربية المترجم المغربي عبد الكبير الشرقاوي ، بكثير من العوالم الفاتنة التي ترتبط في غالبيتها بعوالم الكتابة والكتب والمرأة والصداقة ، وهو يعتبر بالفعل إضافة نوعية ليس فقط إلى الفن الروائي العربي فحسب ، بل حتى إلى الدراسات العميقة المرتبطة به في العالم أجمع.