شهد المركب الثقافي «الحرية» بفاس، حدثا مسرحيا متميزا، في أمسية ربيعية دافئة سَنْدَسَهَا حضور نسوة باذخ، ورصعها وجود جمهور نوعي، اِنْشَدَّ إلى العمل الدرامي لأكثر من تسعين دقيقة، تمظهر (أي العمل) قلقا متحركا إذ حمل ما به تنكتب استمراريته في الحال والمستقبل، وانطوى على خلفيات وأبعاد صنعت حركيته، وضخت في مفاصله، ومتوالياته الحكائية والركحية، دما وعنفوانا تَأَدَّى من قِبَلِ فتية تماهوا مع ما أنيط بهم، وتَسَرْسَبَتْ المواقف والوقائع والحالات دفقا على ألسنتهم، وفي حركاتهم وسكناتهم، وإيماءاتهم، وملابسهم، والإكسسوارات الحافة، وتوقيعاتهم الجسدية، والميلودرامية، يتعلق الأمر ب : «تغريبة ليون الإفريقي : حسن الوزان». وبقدر ما تألق المكتوب، توهج المرغوب، واستوى مسرحا حَيّيا بفضل إخراج وتخريج المبدع بوسلهام الضعيف الذي نفخ في النص من روحه وخبرته. أما تألق المكتوب: (النص الدرامي)، ففاجأني ولم يفاجئني -في نفس الآن-، فاجأني من حيث إن الصديق أنور المرتجي قليل التأليف، نادر الكتابة، غزير المشافهة والنقد الارتجالي حيث البداهة حاضرة، والبصرثاقب، والتحليل منهجي، والتركيب ناجز. وكنت أشير عليه دوما في أن يكتب أفكاره ورؤاه، ومناولاته لعديد الكتب الإبداعية والنقدية واللغوية التي كانت مشافهة ضمن لقاءات وموائد مستديرة أو مثلثة، وندوات وغيرها. ولم يفاجئني، من ناحية أخرى، لأن علاقته بأب الفنون، متينة وراسخة، وضاربة، ومُبَلَّرَة في حضور العروض الركحية، والإسهام فيها بما أوتي من فهم ورأي وانفعال جمالي بها، فضلا عن صداقات جمعته كما جمعتني برجالات أفذاذ كرسوا حياتهم لفن الدراما كمحمد تيمود وحسن المنيعي، ومحمد الكغاط، وعبد الكريم برشيد، ومولاي أحمد العراقي، ومحمد مسكين، ويحي بودلال، ومحمد قاوتي، وعبد الحق الزروالي، وعبد الواحد عوزري، ومحمد بهجاجي... وغيرهم كثير. فإذن، تتبخر الدهشة والمفاجأة متى ما عرفنا اهْتِمَامَ الرجل وانْهِمَامَهُ بالمسرح، وباقي أجناس الأدب والفنون. إن اختيار «ليون الإفريقي» تحديدا، كبطل للعمل الدرامي «الأنواري» لم يأت عبثا أو صدفة، أو على سبيل «الدُّرْجَة» بحكم كونه شُغِّلَ روائيا في رائعة «أمين معلوف»، بل لأنه حَمَّالُ أفكار ورؤى، ومواقف تاريخية، وحضارية، تمرأى فيه أنور المرتجي من حيث اتخاذه «لليون» ذريعة فنية سامقة، ومُوتيفا فنيا بديعا، شَخْصَنَ كونية الإنسان وآدميته المتعالية، وواحدية تعدده، وتعدد واحديته، وائتلاف الإختلاف فيه، وبعثه، من خلال سفرياته وتَرَحُّلاَته في الأبعاد النفسية والجغرافية معا، رسائل واضحة ساطعة منقوعة في المحبة الغامرة لمطلق إنسان، ومطلق توحيد، ومطلق دين، فهو حسن الوزان : الفاسي الغرناطي- المورسكي، وفي الآن عينه- هو : ليون الإفريقي الرومي - الإيطالي أخْذًا بتعميده، وتَزْنِيره بِمَسُوح الرهبنة، وصدى الأنشودة الإنجيلية. من هنا، اعتبارنا لهذه الشخصية المتعددة المتسامحة، النابذة للعنف والتعصب، المنتصرة لميزان العقل، وطائر الحس والوجدان. واعتبارنا لدرامية ليون الإفريقي المقيم، العابر، المخترق للبلدات والأمصار، والثقافات واللغات. ولأن أنور المرتجي يقيم في «ليون الإفريقي» وفي «حسن الوزان» وفي «الحجوي» -لا عبرة هنا بتباعد الأزمنة والأمكنة- وإنما العبرة، كل العبرة، بتقاطع الأفكار والرؤيات والمواقف الوجودية، والإنتصار للعقل وإحقاق الحق، لأنه كذلك، فقد حمل النص الدرامي قوة نافذة لا مجال لإنكارها. وهذا ديدن المسرح الفذ منذ أن كان، سواء حين ثوى وراء الأقنعة والشعر والكورال، أو حين رَكَّبَ نصا على نص، ودهرا على دهر، وساوى بين القيم جواهر وأعراضا، أو صادم بين الشر والخير، أو حين انبرى عاريا من كل المساحيق والإكسسوارات، مسرحا فقيرا، أو هَدَّمَ الجدار الرابع، أحد أركان أرسطو النظرية في المسرح. في كل هذا، ظل المسرح فنا مركبا يوحي ويوميء، يقرأ الواقع قراءة درامية أو ميلو درامية أو كوميدية، أداته - أدواته في تذييع المواقف والأفكار والرؤى، هم الممثلون(ات) المبدعون الذين يهوون بالواقع إلى عمق سَقَر جسدانيا وبكائيا وأَبْلَسَةً، أو يُنَزِّلُونَه فردوسا مخضوضرا تَحُفُهُ الملائكة، والصبايا، والطيور من كل جنس طهرانيا، ونشوانيا. ومن ثمة، تكون «تغريبة ليون الإفريقي» تأليفا وإخراجا، عملا دراميا منقوعا في سحر التوليفة الرفيعة، واللمسة البديعة، والإشراقات الذكية في زمنية محكومة بالنَّوَسَانْ، والحيرة، والارتباك، ومنذورة للطغيان والاستبداد، وواحدية الرأي، والتهديد بالنطع والنقع. لنقل -باختصار- في زمنية الإظلام والمصادرة. ومن ثمة -أيضا- يكون هذا العمل ذا حساب واعتبار بميزان العقل والاستبصار ما دام أن الشخصية الرئيسة «ليون»، تضيء بمعاناتها، ومكابداتها، من خلال رحلاتها، واقتلاعها «الديني» بله الأنطولوجي، وغربتها، وسقوطها في يد القراصنة، وتحريرها، وخروجها من حال إلى حال حتى لكأنها «سيرفانتيس»، تُضِيءُ ليل التزمت، وتعلو على التحنيط، والتنميط والتحجر. وقد قُيِّضَ لهذا العمل الدرامي النوعي الذي أُحِبُّ أن أدرجه ضمن ما يمكن تسميته «بمسرح المؤلف»، فِرْقُةٌ جمعت فأوعت، مُشَكَّلَة من أركان حتى لا أقول : عناصر مكونة، صنعت قوة المسرحية من حيث الأداء الجسدي والطقوسي، والإيمائي والغنائي، والسيميائي. وساهمت في بنائها الدرامي، وتناميها الموضوعاتي، وتَشَكُّلِ بنيتها الدلالية التي نسجتها متواليات سردية نَاسَتْ بين الطول والقصر، وفتتها إنجاز كتابي، وإخراج سينوغرافي زَجَّ بها في أتون ماض يحضر متوهجا في حاضر ضامر أحيانا، وأحيانا يأتلق بالتماعات «الحجوي» التنويرية، طاويا بعض الأبعاد الأليمة لذلك الماضي، مبقيا على ما به ظل مشعا، مخترقا الزمكان، ومُسْتَبِقًا مُسْتَقْبَلاً لابد أن ينتصر فيه الحب والعدل والتسامح والجمال، وترفرف فيه روح الإخاء بين الأمم والشعوب. لم تكن موضوعة نبذ التعصب التي احتفلت بها المسرحية، عارية سمجة، ومتهافتة كما يحدث -عادة- في الكتابات السجالية المتسرعة، أو المقالات السياسوية ذات البعد الواحد. كما أن «ليون الإفريقي» لم يَسْتَشْكِلْ كِفَايَةً على المتلقي- المشاهد، ما دام أن براعة الأداء، ولغة الجسد والرقص، وعنفوان التمثيل ووعيه إلى حدود التماهي مع الحالات واللبوسات المختلفة، ساهمت، بشكل لافت - في تبئير الانهمام، وتسليط المنظار على الفعل المسرحي في كليته، وهو يتشعب إلى أفعال، وردود أفعال، وصولا إلى البغية، وانتهاء إلى المقصود والمراد والمتوخى من دون تلفيظ عَارٍ -كما أسلفت- تزكية للدراما، واحتراما للإكسسوارات الداعمة لها، وتحقيقا لما به يكون الشرط الإنساني -بالمعنى الذي يعطيه أَنْدَرِيه مَالْرُو- في كامل بهائه، وأنصع تجلياته. على مستوى آخر -وهو مستوى ميلودرامي ساهم في بناء النص وتناميه ركحيا هذه المرة - وجسدا، وصوتا وتشخيصا، لعب فريدريك كلميس دورا حاسما في إنجاح العرض المسرحي لجهة تَنَزُّلِ هذا في ذاك، وذاك في هذا، أي لجهة تشابه النظائر والمصائر والأقدار، وتقارب الروحين اللتين رضعتا من ثُدَيِّ الحب الإنساني كما شيدته المعاناة، و النضال، والتضحية، وطول العشرة والمعاشرة، واللتين نهلتا العلم والجمال من كتاب الكون المفتوح الذي ترتسم أوراقه وصفحاته زاهية مُخْضَرَّة، ولا زوردية مُزْرَقَّة، تَفِيءُ- وهذا ما ينبغي، وما سعى- سعيا إليه، بظلالها على العالمين، وتُغْذِقُ الندى والرذاذ الدائمين على اجتفاف القلوب والمشاعر والعقول، و الضمائر. أَمَّا قَبْلُ، فإن «تغريبة ليون الإفريقي» تنضاف حلقة ذهبية إلى سَلْسَال الإبداع المسرحي العربي والمغربي، وإذ هي تندرج في ما أَسْمَيْتُهُ : «مسرح المؤلف» على غرار «سينما المؤلف» فإنها تعتبر فتحا آخر في مسيرة فرقة «مسرح الشامات» المكناسية. فتحية للمؤلف أنور المرتجي، والمخرج بوسلهام الضعيف، وتحية للممثلين: فريدريك كلميس، وبنعيسى الجيراري، ومصطفى الخليلي، ورضا بنعيم، ومها الزرواتي، وعبد الرحيم العمراني، ولواضع الموسيقى، والسينوغرافيا، ومصمم الملابس، والمحافظ العام، ومديرة الإنتاج. أخيرا، هل تصادى «ليون الإفريقي» مع البيت الشعري الخالد للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي؟ أدين بدين الحب أنى حلت / مراكبه فالحب ديني وإيماني. بذرة التصادي تلك اعشوشبت، وتعشقت، وأتلعت جذعها شجرة دَفَّ حفيفها ورفيفها في مسار شخصية مسرحيتنا المتميزة.