إن الحركية التي يقوم بها شباب اليوم هي بمثابة دَلْكٍ لصدر المجتمع لإعادة دقات قلبه الذي كاد أن يتوقف عن النبض، وبعثٍ للروح في جسده المتهالك المكلوم، بعد طول انتظار بدأ معه اليأس والقنوط يتسرب إلى أذهان أحرار هذا الوطن، وصار التكلس على وشك الإجهاز على أدمغتهم، وأخذ الشلل يهدد أطرافهم، وهم يعاينون سرطان المنكر ينهش في جسد الأمة، والسلب والنهب والسرقة ترتكب علنا، نهارا جهارا، وسئموا من رؤية المنافقين المتزلفين يرتقون ظهور البؤساء للوصول للغصون المثمرة وقطاف حباتها وخيراتها وإلقائها في بطونهم المنتفخة بالمحرمات، ويلاحظون تبوأ الأميين الجهلة مناصب تحتاج لعقل مدبر، وليس لصاحب «شكارة» تكنز المال الحرام ورأس يجوب فيها الخواء بين الأذنين. فطوبى لكم أيها الشباب، لأنكم حركتم جلمود هذا الساكن، وقمتم بضخ مياه عذبة زلال في مستنقعه الآسن، وأعدتم للمجتمع عنفوان شبابه ورونق بهائه، وبينتم عن ولاء مطلق للوطن، وأوضحتم لمن يريد ألا يفهم، أو يصم أذنيه ويغمض عينيه كي لا يفهم، أن همكم الآن هو تشييد ركائز حمائية قوية البنيان وصمامات من الفولاذ الصلب، تقي البلد من شرور الفوضى والانفلات والدخول إلى نفق المجهول. لقد أثبتم للكل أنكم هاهنا موجودون، مواطنون غيورون على بلادهم، لكم احتياجاتكم الضرورية ومطالبكم المشروعة، إلا أنكم فضلتم تغييبها مرحليا، لأن لكل مقام مقال، واقتصرت دعوتكم على البحث عن تحصين البلاد من خلال مؤسسات ذات مصداقية، ومسؤولين عن الشأن العام، معروفون بالنزاهة والحنكة والكفاءة، لهم مهام محددة ومدققة، يختارون بناء على تعاقد مجتمعي واضح الغايات والآجال، ويخضعون لرقابة حقيقية وفعالة، وما ينتج عنها من جزاء، إيجابيا كان أم سلبيا، سواء عن طريق المؤسسات المختصة، أو بواسطة قوة الردع الانتخابي. ومع ذلك، فيجب ألا يغرب عن ذهنكم أن بعض الهيئات تتستر وراء خلفيات ورؤى غيبية مؤسسة على أضغاث الأحلام، تتنبأ بتوقعات مركزة على الشعوذة والتدجيل، مراميها السطو على حركتكم، وفي سبيل ذلك ستطلب منكم الإيمان بالخرافة، وإقامة الجذبات، وتنويم العقل الذي حبا الله به الإنسان دوناً عن باقي خلقه، كمعيار يميز بواسطته بين الخطأ فيتجنبه ويتفاداه، والصواب ليتبع مسالكه. فالفظوا هؤلاء المتربصين بالبلد، الذين يحاولون إشاعة الفوضى و«السيبة» بإعمال مقولات منقولة من الكتب الصفراء لتكفير المجتمع، ساعين إلى فرض تخلفهم ورؤيتهم الظلامية قسرا، عن طريق نصرة من الإمعات، من ذوي العقول الفارغة والصدور المكتنزة غلا، متحفزين لتنفيذ قومتهم الخرافية، ما داموا لم يجدوا لهم موقع قدم في البلد بالطرق السلمية المتاحة، لكون خطابهم المؤسس على مرجعيات عفا عنها الزمن، مرفوض من طرف أغلبية المجتمع، ولاسيما منه شباب الأنترنت والتويتر والفايس بوك. كما أن البعض الآخر، وتجسيدا للنظرية التي يؤمن بها بكونية (L›UNIVERSALITE) النضال الثوري، يطالب بتبني نماذج مستنسخة من تجارب بعينها، أفرزتها أوضاع أصحابها وطبيعة تكوين مجتمعاتهم وظروف رسم سياساتهم، صادا الأبواب أمام المبادرات الجادة، رغم أن الحكمة السياسية والمصلحة الوطنية تقتضي الابتعاد عن الرفض الممنهج والتحلي بالرزانة والتعقل، ودراسة المبادرات إذا كانت تتضمن الهيكل الأساسي الذي يوصل إلى المبتغى، أي دولة القانون الضامنة لحقوق المواطنين وكرامتهم، والمجتمع الديمقراطي المؤسس على سمو العدل وقدسية الحق ومساواة الجميع أمام القانون، ما دام ذلك سيتم في هدوء وسكينة وبعيدا عن التشنجات، وما يمكن أن ينشأ عنها من اختلالات وتوترات تتعارض مطلقا مع المصلحة العليا للبلد. لقد قال الكاتب الفرنسي الكبير فولتير «إنني غير مقتنع برأيكم، إلا أنني سأصارع من أجل أن يكون لكم الحق في قوله.»،1 وبذلك فإن ضمان إبداء الرأي والتعبير عنه بكل الوسائل المشروعة والسلمية، وعن طريق كل أشكال التعبير، هو أمر لا يمكن مطلقا أن يكون محط أي لجم أو تقييد، وكل خرق لهذه القاعدة مرفوض رفضا قاطعا. إلا أنه مقابل ذلك، ينبغي لصاحب الرأي أن يعطي نفس الحق لمن لا يشاطره قناعاته بالتعبير بدوره عما يؤمن به. وآنذاك فإن الوسيلة الحضارية لإيجاد الحل الذي يقرب بين مختلف وجهات النظر يكون هو الحوار الحضاري والشفاف والمسؤول. إن التزود بما هو صالح لبلدنا من خلال التجارب الإنسانية مفيد ومستحب بل وقد يكون مطلوبا في حدود ما هو نافع بصفة أكيدة، مع مراعاة مكونات الوطن وتنوع مشاربه الإثنية والثقافية والمجالية، ترابية كانت أو عمرية، دون الاختباء وراء ما يسميه البعض بالخصوصيات للقفز على حركية التغيير، وجعلها تطال جوانب شكلية عقيمة، غايتها الانحناء إلى حين مرور العاصفة، والدفع إلى عدم تحمل المسؤولية بكل شجاعة وإقدام للغوص في أعماق المشاكل وبواطنها، والتفكير بكل رزانة وهدوء وتعقل في الحلول الملائمة التي تقي البلد كل المنزلقات التي يسعى إليها البعض. إن المفروض على قوي اليسار، والتي يشكل انحيازها لعموم الشعب، وطبقاته الهشة على الخصوص، عصب همها وأساس نضالها، ألا تنجر وراء التنظيرات المركزة على تصورات مثالية لا رابطة لها بواقع البلد وإمكانياته. لأن مثل هذه الرؤى لا تخدم إلا أصحاب نظرية الستاتيكو (STATU QUO)، والأخذ بعين الاعتبار كون الشغل الشاغل لهؤلاء يرمي إلى إبقاء ما كان على ما كان، ما داموا قد ألفوا البقرة الحلوب والدجاجة التي تبيض ذهبا، وليس لهم أي استعداد للتخلي عن هذا الكنز الذي يدر عليهم الريع المسلوب عن طريق الخصخصة المجانية لما هو مملوك للبلد ولكل المواطنين، مستعملين كل وسائل التزييف والاحتيال واللصوصية، مع الحرص على الظهور بمظهر الإخلاص للنظام، والمتخوف على مستقبله، من خلال تخوين المحتجين ووصفهم بالمندسين الذين يخدمون أجندات خارجية، مرددين نفس الأسطوانة المشروخة التي استعملها أو يستعملها رموز الاستبداد في البلدان العربية الأخرى. إن التحولات صارت شيئا محسوما، والأمر أكثر من جدي، ويكتسي أهمية يمكن بدون مبالغة وصفها بالحيوية، على اعتبار أنه يتعلق بمصير الوطن، وبالتالي فإنه لا محل للتجاذبات الفكرية والإيديولوجية، أو السعي إلى تحقيق الغايات المصلحية الضيقة، أو الفوز بمراكز نفوذ سواء كانت سلطوية أم شعبوية. كما أن الأمر لا يحتمل الإبهام والالتباس، أو الوقوف في المنتصف استعدادا للقفز لهذا الجانب أو ذاك، بل إن السؤال الجوهري والعريض المطروح على كل المواطنين، وبدون أي استثناء، يتجلى في الأسلوب الذي يجب اتباعه لبناء مغرب الغد الذي نتهيأ اليوم لرسم خريطته السياسية ووضع الأسس الواضحة لمعالم مؤسساته، وتقنين النصوص التي تضمن كرامة كافة أفراد الشعب، وتصون كل حقوقهم السياسية والمدنية والاقتصادية. إن النطفة تبحث لها دائما عن رحم دافئ معافى، خال من كل العلل، يحتضنها ويرعاها ويوفر لها الوسائل الضرورية للنمو، لتسلك جميع مراحل التطور إلى أن تنتج وليدا جميلا متمتعا بكل المقومات التي تضمن له الدخول لمعترك الحياة وهو حامل لحصانات ذاتية قوية وفعالة، يدخل البهجة على ذويه الذين يُطًعِّمُونَهُ بلقاحات مضادة للفيروسات والميكروبات، تقيه من الأمراض التي تؤثر على صحته وعافيته، أو حتى تهدد بسلبه الحق في الحياة. كما أنه من المفروض على من يريد أن تقبل منه صلاته أن يتقيد بضوابطها من إيمان ونية ووضوء وخشوع واحترام لكل شكلياتها وشعائرها، أما من يقوم بها استرضاء لغير الله، أو لاكتساب صفة الورع لجلب مصالح دنيوية، مع الإخلال بالضوابط المذكورة، فإنه يقوم بحركات جسدية لا تعطي جزاءها، أي الثواب. إن الديمقراطية كالنطفة لا يمكن أن تتكون وتنمو وتحيى إذا لم يوجد لها الوعاء الصالح الذي يحتويها، المحدد لشروطها الشكلية والموضوعية كما تحدد ضوابط الصلاة، والمقصود هي دولة القانون، والتي عرفها الفقيه هانس كيلسن، بكونها المنظومة المؤسساتية التي يخضع فيها لنفوذ القانون كل الأشخاص، ذاتيون ومعنويون بمن فيهم السلطات العمومية.2 إن السعي لتحقيق دولة القانون، وفقا للتعريف أعلاه، يقتضي من الجميع، فرادى وجماعات، والسلطات العمومية على رأسها، التشبع بالمفهوم الحقيقي لهذه الدولة، سواء من حيث جعل كل التصرفات والسلوكيات تتقيد بمقتضيات القانون، أو من حيث إيقاع العقاب المناسب على كل من يعبث بالمبادئ القانونية والأخلاقية التي تقوم عليها دولة القانون، بشكل متعمد وبسوء نية قصد الحصول، له أو لغيره، على استفادات لا حق لهم فيها، أو ما كانوا لينالونها لولا الخروج عن القانون. إن دولة القانون يرعاها الديمقراطيون، كما يرعى الأبوان الوليد الجميل، ويُطَعِّمونها بالترسانة القانونية والمبادئ الأخلاقية، التي تجعل دينامية الإصلاحات العميقة مرئية وبادية، حتى لا تتجرأ جيوب مناهضة التغيير على اللجوء إلى ممارساتهم المعتادة بوضع العصا في العجلة لثنيها عن السير إلى الأمام، وإن فعلوا فينبغي آنذاك مطاردة الساحرات وما يستتبعه الأمر من تطبيق الإجراءات القانونية. إن خطاب 9 مارس، في صراحته وتركيزه على عناصر جوهرية ومحددة بكل دقة، جاء صادما لمن ألفوا التحدث بلغة الخشب، لأنه قدم مقترحات واضحة وجلية وجريئة، من شأن تصريفها بعقلانية وشجاعة وبكل حرص وجدية، أن يجعل المغرب يبلغ بكل سلاسة وهدوء وتؤدة نظام الملكية البرلمانية، التي ينادي بها الشباب، والآخرون، والتي سبق للاتحاد الاشتراكي أن جهر بالمطالبة بها منذ 33 سنة، عندما كان جل من يتكلم اليوم صامتا. وقد حَمَّل الخطاب الملكي كل الشرائح الجادة في المجتمع، بمن فيهم الشباب، مسؤولية المشاركة في ورش الإصلاح الدستوري، كما يستخلص من الفقرة التالية : «كما نعرب عن اعتزازنا بما يتحلى به شعبنا الوفي، بكل فئاته وجهاته، وأحزابه ونقاباته الجادة، وشبابه الطموح، من روح وطنية عالية، متطلعين إلى أن يشمل النقاش الوطني الموسع، القضايا المصيرية للوطن والمواطنين.» إن القراءة المتأنية للخطاب الملكي، والتحليل العميق لمضامينه ومعانيه، ودون أن يحتاج القارئ أن يكون فقيها في القانون الدستوري، كي يتبين له بكل تأكيد، إذا ما وقع التخلي عن الخلفيات النابعة من المصالح الذاتية أو الفئوية، أن جل المطالب المشروعة المطروحة من طرف المجتمع بكل مكوناته قد تمت الاستجابة لها، وهو ما تم التأكيد عليه بشكل صريح في نص الخطاب نفسه، في الفقرة التالية : «كما أن إدراكنا العميق لجسامة التحديات، ولمشروعية التطلعات، ولضرورة تحصين المكتسبات، وتقويم الاختلالات، لا يعادله إلا التزامنا الراسخ بإعطاء دفعة قوية لدينامية الإصلاح العميق، جوهرها منظومة دستورية ديمقراطية». فالفقرة أعلاه ليس فيها لبس أو عسيرة على الفهم، مادام التأكيد قد انصب على مشروعية التطلعات وتقويم الاختلالات والإلتزام الراسخ بإعطاء دفعة قوية لدينامية الإصلاح العميق، وكما يقول العرب فإنه إذا ظهرت المعنى فلا فائدة في التكرار، ويضيفون بأن اللبيب بالإشارة يفهم. إن الخطاب الملكي تطرق في البداية للمبادئ الأساسية للدولة، والتي تتلخص في كون الدين الرسمي للدولة هو الإسلام المتسامح والضامن لحرية ممارسة الشعائر الدينية. وأن نظام الحكم هو نظام ملكي، بخيار ديمقراطي، والملك هو أمير المؤمنين، المشرف والموجه والمراقب والمقرر في كل ما يتعلق بالأمن الروحي للمواطنين، لقطع الطريق على من يمطر المجتمع بوابل من الفتاوى الغبية المتخلفة عن روح العصر. وباستثناء المبادئ المذكورة أعلاه، والتي هي فعلا «محط إجماع وطني»، كما جاء في الخطاب الملكي، فقد تمت الدعوة «إلى التعبئة الجماعية، لإنجاح هذا الورش الدستوري الكبير، بثقة وإقدام، وإرادة والتزام، وجعل المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار». إن بعض التحليلات لخطاب 9 مارس، مصابة بالحول بل وفي بعض الأحيان بالعمى المطلق، إما حقيقة لقصور ذاتي مزمن، أو عن وعي وإدراك بسبب الارتباطات المانعة من التوفر على الجرأة السياسية، أو ما هو أخطر، من قبل الأطراف التي ترى أن المشروع المقترح يهدد وجودها، لأن نجاحه من شأنه أن يسحب منها المخزون البشري، المحروم من عدة حقوق، الذي تتزود منه. إن الأطراف المذكورة أعلاه لم تستوعب أو تتخوف من المنظور الواضح في الخطاب الملكي، بعبارات لا تقبل الجدل أو التأويل، على كون المشروع المطروح للنقاش «يعد خطوة أساسية في مسار ترسيخ نموذجنا الديمقراطي التنموي المتميز»، وأن الأمر لا يتعلق بمجرد تعديل لبعض فصول دستور 1996، بل بمشروع مراجعة جرئ ومقدام، و«إصلاح دستوري شامل»، تشرف على إعداده «لجنة خاصة لمراجعة الدستور» وليس لتعديل الدستور. بل إن الخطاب أكد بالنطق الصريح أن النقاط السبع التي وردت فيه هي توجهات عامة تم وضعها كإطار مرجعي لعمل اللجنة، إلا أن ذلك «لا يعفيها من الاجتهاد الخلاق، لاقتراح منظومة دستورية متقدمة لمغرب الحاضر والمستقبل». إن خطاب 9 مارس يبين بالوضوح الجلي الإيمان الراسخ بالديمقراطية، لأن المقترحات الجريئة التي تضمنها تسعى لتأسيس دولة القانون، ليس للاستهلاك فقط، كما يفعل بعض رموز الاستبداد العربي، بل إنه نابع من قناعة لا تكتفي بالقول، بل بالفعل كذلك. والدعوة عامة للمشاركة الفعالة في ورش بناء الدولة العصرية المؤسسة على دعائم وأساسات صلبة وقوية، تأخذ من قيم الحداثة ما هو نافع ومجدي، ومن المبادئ التي تتماهى مع الهوية المغربية بحمولتها متعددة المصادر، ولن يرحم لا التاريخ ولا الوطن المتخلفين عن هذا الموعد التاريخي الهام. * نقيب سابق لهيئة المحامين بسطات نائب رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب سابقا يتبع 1- »Je désapprouve ce que vous dites, mais je me battrai pour que vous ayez le droit de le dire« 2- هانس كيلسن Hans Kelsen، فقيه أمريكي من أصل نمساوي، أحد رموز النظرية الوضعية(Théorie positiviste) ، ومؤسس مفهوم المعيارية (Normativisme)، وكذا مبدأ هرمية المعايير (Principe de la pyramide des normes) (cf. H. Kelsen, La démocratie, sa valeur-sa nature)