لعل من بين الملاحظات الأساسية التي يمكن أن نسجلها من خلال استقرائنا لتاريخ السينما المغربية، أن المرأة ظلت حاضرة دوما وباستمرار كموضوع للاشتغال في جل الأعمال السينمائية المغربية. غير أن هذا الحضور اتخذ أشكالا وصيغا متعددة، بتعدد وتنوع المقاربات التي تم اعتمادها في معالجة هذه الإشكالية. وقد تراوحت هذه المقاربات عموما بين مقاربات تقليدية، جعلت من المرأة مجرد عنصر مؤثث للمشهد السينمائي، أو على الأقل شخصية ثانوية تضطلع بأدوار هامشية إلى جانب الرجل، حيث كانت تهيمن بقوة صورة المرأة السلبية المستكينة الطيعة الخنوع التي تستسلم لمصيرها دون أدنى قدرة على مواجهة هذا القدر.. غير أن هذه الصورة سرعان ما بدأت تتبدد وتتداعى بفعل العديد من التغيرات والتحولات الاجتماعية والثقافية التي عرفها المغرب في العقود الأخيرة، إذ بدأنا نعاين مقاربات جديدة في التعامل مع قضايا المرأة، أصبحت تبدو معها المرأة المغربية أكثر إيجابية وأكثر جرأة في التمرد على التقاليد المقيدة لحريتها، والسعي إلى التحرر من المواضعات والقيم الاجتماعية التي تعارف عليها المجتمع، والتي تكرس دونيتها وتحط من شأنها ومكانتها. وقد تبلورت هذه المواقف من المرأة في العديد من الأعمال السينمائية، التي تفاوتت من حيث زاوية معالجتها لموضوعة المرأة، ومن حيث درجة عمقها وجرأتها في تناول هذه الإشكالية. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى العديد من الأعمال النوعية التي طبعت بميسمها تاريخ السينما المغربية، نذكر من ضمنها على الأخص: فيلم «وشمة»(1970) لمخرجه حميد بناني وفيلم «الشركي» (1975) لمومن السميحي وفيلم «عرائس من قصب» (1981) و»شاطئ الأطفال الضائعين» للجيلالي فرحاتي وفيلم «باديس» (1988) لمخرجه محمد عبد الرحمان التازي وفيلم «باب السماء مفتوح» لفريدة بليزيد.. وغيرها من الأعمال الجادة التي ساهمت في تغيير العديد من الصور النمطية التي ألصقت بالمرأة المغربية.والواقع أن فيلم «نساء ونساء» يعد من بين أهم الأفلام التي طبعت السينما المغربية في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي، والتي حاولت أن تقارب موضوع المرأة من منظور مختلف ومغاير للصورة النمطية التقليدية التي كرستها السينما المغربية في فترات سابقة، حيث أفلح المخرج «سعد الشرايبي» في تمكين المرأة من التعبير عن همومها وقضاياها مباشرة، وساهم بذلك في قلب المعادلة التقليدية، من خلال إسناده الأدوار الرئيسية للنساء، في حين أوكل للرجال أدوارا ثانوية. وسنسعى في هذه الورقة، للقيام بقراءة سريعة في فيلم «نساء ونساء» لسعد الشرايبي، في محاولة لاستجلاء صور هؤلاء «النساء» داخل الفيلم، وأؤكد هنا على كلمة «صور» لأننا لسنا بصدد صورة واحدة للمرأة، بل صور متعددة لنساء مختلفات، قاسمهن المشترك أنهن يتوحدن كلهن في كونهن يعانين من نفس الأوضاع الموسومة بالقهر المادي والاجتماعي، ويقاسين من مختلف أشكال العنف الجسدي والرمزي. وللتذكير، فإن فيلم «نساء ونساء» يشكل حلقة أولى ضمن «ثلاثية» موضوعها المرأة، وهي: إضافة إلى «نساء ونساء» (1998)، فيلم «جوهرة بنت الحبس» (2004) و»نساء في مرايا» (2001)، هذا الأخير الذي يشكل ثالث فيلم ضمن هذه السلسلة المخصصة لقضايا المرأة. صور نسائية يحكي الفيلم عن مسارات متعددة لشخصيات نسائية مركبة، وإن اختلفن من حيث أمزجتهن وأوضاعهن الاجتماعية، غير أنهن يلتقين في كونهن نساء يعشن ضحايا واقع اجتماعي قاهر، ويقاومن بأشكال مختلفة من أجل حريتهن وكرامتهن. «زكية» ذات الأصول القروية، تشكل نموذجا للمرأة المتحررة التي تمردت على القيم التقليدية الأبوية، وحاولت من ثم، الانفلات من ضغوط وإكراهات المجتمع. يجد هذا التمرد تعبيره في شكلين أو صيغتين أساسيتين: الأول في ذهابها بعيدا في اختيارها الوظيفي كصحفية، على الرغم من المعارضة القوية لأبيها «لأن عيشها في المدينة وعملها بالتلفزيون معناه في نظر الأب «أنها بنت الزنقة». أما الصيغة الثانية لهذا التمرد، فتتمثل في اختيارها السكن وحيدة بعيدا عن البيت العائلي. غير أن ممارستها لحريتها سرعان ما سيواجه بالعديد من الضغوط والإكراهات الاجتماعية، فتقرر الهجرة من المدينة إلى القرية. القرية ترمز هنا إلى الحضن الأول منبع الدفء والبراءة والطهارة والنقاء، وهو ما يترجم في الفيلم في ذهاب «زكية» إلى النهر لتستحم وتتطهر من أدران الحياة الحضرية التي علقت بها. هجرت المدينة باعتبارها مرتعا لكل القيم المنحطة كالخيانة والتحرش الجنسي الذي ستتعرض له، وهو ما سيكلفها غاليا إذ سينتهي بطردها من العمل بعد أن رفضت الاستسلام لنزوات صديقها في العمل الذي ظل يعاكسها. وهو ما سيولد لديها إحساسا حادا بالغبن والمرارة، بفعل الخيانة المضاعفة: خيانة صديقها لها من خلال ارتباطه ب»ليلى» أعز صديقاتها، وخيانة زميلتها في العمل التي كانت تتواطأ مع «المحجوب» زميلها في العمل الذي كان يعاكسها ويبلغ عنها رؤساءها. بنفسية منكسرة ومهزومة، اضطرت «زكية» للعودة إلى موطنها الأصلي بحثا عن دفء عائلي مفقود بعد أن ضاق عنها الخناق وضاقت بها السبل، وأملا في الحصول على الاستقرار النفسي والعاطفي، الذي افتقدته في المدينة. ويبدو هنا كما لو أن المخرج يريد أن يبلغنا رسالة محددة، فحواها أن المرأة مهما تحررت، فإنها حريتها ستظل منقوصة ما لم يتغير الواقع الاجتماعي. ستعود «زكية» ثانية إلى المدينة، لتعيد بناء حياتها من جديد، بعد أن صادفت رجلا يبدو ربما مختلفا في عصر عز فيه الرجال، والعودة بالاشتغال في إحدى المجلات النسائية، وهو ما سيزيدها اقتناعا وإصرارا على المواجهة والتحدي لفرض ذاتها. «ليلى» تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، «ليلى» المسؤولة بشركة: امرأة مطلقة تعيش مع أمها وابنتها الصغيرة »حورية»، بعد أن انفصلت عن زوجها الذي كان يخونها باستمرار. ولكن لسوء حظها ستخدع ثانية، عندما سترتبط عاطفيا ب»عمر» (صديق زكية)، لتصاب بمرض عضال يودي بحياتها. «كلثوم» المعلمة التي يبدو أنها تعيش ظاهريا حياة مستقرة، ولكنها في الواقع تعيش حياة رتيبة مكرورة تفتقد لأبسط الشروط الحياتية، وفي مقدمتها الحق في الترفيه والمتعة، إذ «لا سفر، لا سينما، لا حياة» كما تسر لصديقاتها، غير أنها وفي لحظة ما ستنفجر بالبكاء وتستسلم لقدرها. «غيثة» تعيش أوضاعا نفسية صعبة، بفعل العنف اليومي الذي تتعرض له من طرف زوجها، وقد حاولت إخفاء الأمر على صديقاتها، غير أن أمرها سينكشف بعد أن قامت بطعن زوجها، وهو ما سيؤدي بها إلى السجن. والملاحظ أن الشرايبي حاول أن يقدم لنا صورا إيجابية على العموم لنساء مغربيات، بدأ يتنامى الوعي لديهن بأن الخلاص لن يتأتى إلا من خلال انخراطهن الجماعي في تغيير واقعهن، بدل مواجهة مصائرهن لوحدهن. صور رجالية غير أن مصائر هؤلاء النساء مرتبطة بمصائر الرجال، ولهذا ومن أجل إكمال معالم الصورة سنعرض لصور الرجال داخل الفيلم. ففي مقابل الصور الإيجابية للنساء، تحضر نماذج الرجال في صورة سلبية. وتأتي في مقدمة هذه النماذج، صورة الأب، الذي لم يظهر في الفيلم، ولكنه ظل حاضرا كسلطة، وأظن أن المخرج سعد الشرايبي قد توفق فنيا في إخفاء صورته، لأن السلطة الأخطر والأكثر تأثيرا، ليست السلطة الظاهرة، بل السلطة الضمنية المبطنة التي تمارس تأثيرها على مستوى اللاوعي. «المحجوب» نموذج الشخص المنحل أخلاقيا، الذي يتحرش جنسيا بزميلاته في العمل، ويستغل من ثم، منصبه لممارسة مختلف أشكال الدس والابتزاز والمساومة لتحقيق مآربه، وهو ما تترجمه مواقفه وسلوكاته السلبية تجاه المرأة. «عمر» شخص انتهازي برغماتي تنعدم فيه صفات الوفاء والإخلاص، لدرجة أنه لم يتورع عن الارتباط ب»زكية» و»ليلى» وفي خداعهما. «المعلم» البخيل الذي يطلب من زوجته أن تنهي مكالمتها بأسرع وقت، والذي يتعامل مع الحياة بمنطق حسابي. ولكن مشكلته أنه يحس بسعادة زائدة، لكونه يعتبر نفسه محظوظا بحصوله على وظيفة بالتعليم العمومي. زوج «غيثة» التي يعنف بشكل دائم، ولعل من بين المفارقات هنا، أن المخرج لم يكشف لنا عن وجهه، ليزيد الموقف درامية، وليكشف لنا عن الوجه الحقيقي لهذا الزوج الذي حاولت زوجته «غيثة» التستر عنه وتقديمه في صورة مغايرة لصورته الحقيقية. هذه باختصار بعض الصور التي حفل بها فيلم «نساء ونساء»، والتي حاول «سعد الشرايبي» أن يصورها بجرأة كبيرة، معتمدا في ذلك لعبة فنية تجمع بين «الخفاء والتجلي». ولن ندعي إن قلنا أنه قد أفلح في ممارستها بذكاء كبير. (*) أستاذ تقنيات كتابة السيناريو بكلية عين الشق البيضاء رئيس مركز الفنون البصرية والوسائط الجديدة