مقدمة ونحن نحتفل باليوم العالمي للمسرح الذي يصادف 27 مارس من كل سنة، جدير بنا أن نستحضر تاريخ مسرحنا الأمازيغي ولحظاته الخالدة، لاسيما بمنطقة الريف، لأنه ديواننا، وجزء من ذاكرتنا الحامل لقيمنا وخصوصيتنا. فما أجحف الكتب المدرسية والمقررات الجامعية التي تؤرّخ للمسرح في بلادنا، وترجع بداياته إلى فجر القرن الماضي!، وكأن ما أنتجه الإنسان الأمازيغي لا ينتمي الى الربرتوار المسرحي المحلي، أو لا يرقى الى مصاف الإنتاج العالمي والإنساني. والحقيقة التي لا مِرْيَةَ فيها، ويتعمد البعض أن يتغاضى عنها، أن المسرح الأمازيغي قديم قدم هذا الإنسان وحضارته، وجاء متنوعا وغزيرا وبلغات وأشكال مختلفة. وتشير عدة دراسات إلى ممارسة الإنسان الأمازيغي لهذا الفن وتضلعه فيه، لدرجة أننا نجد من يرى أن المسرح الأمازيغي الناطق والراقص والغنائي سابق على المسرح الروماني، كما أن التمثيل قديم عندهم إذ ” جاؤوا به من الهند وأسس له يوبا الثاني معهدا لتدريسه بشرشال، ألف فيه التصانيف، والتمثيل البربري إما ديني على الطريقة الهندية واليونانية القديمة فهو أناشيد ورقص وحركات وتصاوير تمثيلية لاسترضاء الآلهة أو إبعاد غضبهم، أو خزعبلات مضحكة للسخرية من بعض الشخصيات البارزة وإظهار عيوب الناس المنتقدة”[1] ولقد عرف أزهى عصوره بعد مؤلفات ترينتيوس القرطاجي. ومن ألمع شخصيات المسرح الأمازيغي يرنوس المولود في طنجة سنة 190 ق م. هذا فضلا عن أبوليوس وعمله الرائد” الحمار الذهبي”. كما أن اهتمامات يوبا الثاني الملك الأمازيغي بالمسرح جلية ومتميزة، وله كتاب مشهور في ذلك سماه “تاريخ المسرح” لكنه ضاع مع الأسف كما ضاعت جل الأعمال التي ألفها الإنسان الامازيغي قديما، منها هذه المسرحات التي كانت تعرض في مسارحه. ولم تحتفظ لنا الأيام إلا بشذرات مبعثرة، وهي مبثوثة في بعض التصانيف والكتب الرومانية. فعلى العموم الأدب الامازيغي برمته صالح لإنتاج مسرحيات ذات منحى شعبي ونزعة تاريخية، كما أنه صالح لأدب الطفل، ويجعلنا في غنى عن نقل الآداب الأجنبية. [2] ورغم أن مآل هذه المسرحيات هو الضياع، فإن تقاليد المسرح الأمازيغي بقيت حية ومستمرة، وتمثلت في الرقص الشعبي والأشكال الفرجوية التي مازال بعضها يمارس إلى يومنا هذا وإن بشكل مختلف، وهو ما يسمى بالأشكال الفطرية. وتتوفر هذه الفرجات على عناصر درامية وخصائص مسرحية تعج بعناصر التمسرح Théâtralité ، وهي حسب رأي حسن المنيعي تعتبر ” أشكالا مسرحية مجهوضة رافقت الإنسان منذ أن درج على الأرض لأنها تنبني على الحوار والشخوص والديكور والملابس والموسيقى والزمان والمكان ولأنها تفترض معدين ومؤطرين”[3]. فالمسرح الأمازيغي بالريف يطفح بمثل هذه الأشكال من مثل: شارح مدجاح، باشيخ، طقوس العرس، أقلوز… ولعل ما وفر لهذه الفرجات الاستمرارية كونها عبارة عن سلوك مصاغ أكثر من مرة ومتواتر ينتقل من عصر إلى عصر ونصها شفهي وجماعي يعاد كتابته باستمرار. وهي أشكال مهمة لأنها تحيلنا على الهوية الأمازيغية وبعض مؤسساتها الاجتماعية وتنظيماتها ومعتقداتها. لذا فقد أثارت هذه الأشكال اهتمام الدارسين الأجانب، لكنها في الغالب الأعم تحتاج إلى مزيد من الدراسة المعمقة ومعالجة جديدة في ضوء مناهج ملائمة من قبيل الدراسات الأنتربولوجية والفلكلورية. وفي هذا الإطار يتحدث مولييراس عن الكرنفال باعتباره خاصية يتميز بها الريفيون قائلا:”ولا نجد شبيها له في الأجزاء الأخرى من المغرب، سواء لدى العرب أو الأمازغيين. وحدهم الريفيون يمارسون المسخرة Mascarade ، إلا أنهم لا يتبجحون بذلك خارج منطقتهم، لأنهم يدركون مسبقا بأن المسلمين الآخرين سيستقبلون بنوع من القرف هذا اللعب التهريجي الغريب. فهل يمكن اعتبار هذه العادة استمرارا للألعاب التهريجية الرومانية Saturnales ؟”[4]. هذا دون أن نغفل بعض الأشكال الفرجوية الغير المنظور إليها، لأنها لا تجري في الأسواق أو الأماكن العمومية بل في أماكن خاصة، ويمكن تحديد هذه الأشكال في “كل ما يدور من مشاهد داخل البيوت وكذا رقصات المساء”[5] وتتطرق مجموعة من الدراسات [6] إلى أشكال فرجوية انحسرت أو تعرضت للمنع والاندثار بفعل الفتوحات الإسلامية التي أضفت على الحياة الاجتماعية في المنطقة لونا جديدا. ويرى أنجلو غريلي أنه توجد سلسلة من الأساطير والطقوس الفرجوية تتعلق بمسوخ وتحول رجال ونساء إلى حيوانات، وهي اعتقادات طوطمية تمثل العمق الديني عند الأمازيغ القدماء، وكذلك بعض الطقوس الفلاحية التي تمارس دوريا عند تعاقب الفصول، وموضوعها الأساس نشدان الخصوبة للأرض وطلب الأمطار، وبمجيء الإسلام تم استئصال هذه المظاهر الفرجوية [7]. وفي السياق ذاته نشير إلى السياسة التي سنها المخزن المغربي في عهد السلطان المولى سليمان والمسماة بتقويم الانحرافات الاجتماعية والدينية نزولا عند طلب الفقهاء من ضمن ما جاء فيها: تحريم المواسم واستعمال آلات الطرب ليلة عاشوراء، وكذا تحريم التمثيل الشعبي المرتجل الذي يقلد فيه الممثل يهوديا أو مسيحيا أو تاجرا أو بدويا أو ما إلى ذلك. ومع تعرض منطقة الريف للاحتلال الأجنبي في بداية القرن الماضي، تراجعت الحركة الثقافية وتوارت مظاهر الاحتفالات والفرجة بشكل لافت للنظر، وهذا راجع لانشغال السكان بمقاومة المحتل[8]، ثم بعد ذلك انخراطهم قسرا في الحرب الأهلية الاسبانية والحرب العالمية الثانية، كما أن المجاعة الطاحنة التي تعرضت لها المنطقة أدت إلى نزوح أعداد كبيرة منهم نحو الجزائر المستعمرة من فرنسا وأماكن أخرى بحثا عن القوت والطمأنينة. ولكن مع ذلك يمكن تسجيل طقوس احتفالية في مواضع متفرقة من الريف لا سيما التي عرفت تجمعات سكنية مهمة ومنظمة. والحقيقة أن مناجم استغلال الحديد بمنطقة وكسان Uixan (الناظور) المستغلة من لدن الأسبان آنذاك، والتي كانت تُشغّل فئة عمالية وفيرة جلها من الريف، ثبت أنها كانت تقام فيها تقاليد فرجوية ومسابقات رياضية وترفيهية في مواقيت معينة من كل سنة. ويشير بيسينتي موغا روميرو Vicente Moga Romero أن هذه الاحتفالات كانت تنظم في نادي منطقة وكسان Club de Wixan وفي ساحتها العمومية Plaza publica del publado، كما أنها كانت تلقى إقبالا جماهيريا كبيرا وتستقطب أناسا من المدن والأحياء المجاورة أمازيغ واسبان، ومن بين الطقوس والألعاب التي كانت تمارس فيها مباهج النيران Saltos sobre hogueras ، ولعبة جذب الحبل El tiro de la cuerda. [9] ويتحدث المؤلف نفسه راصدا شكلا فطريا أقيم في محيط هذا المنجم سنة 1935 ، موضحا كيف أن “سكان بني بويفرور اصطفوا في شوارع (وكسان) بوجوههم المطلية بالسناج، متنكرين في فروات الخرفان، يجرون تجاه المنازل طالبين هدايا. [10] Los habitantes de los aduares de Beni bouifrur desfilaban por las calles de Wixan con sus rostros embadurnados y tiznados, disfrazados con pellizas de borregos, recorriendo las casas solicitando regalos.” إذا كان قدر المسرح الأمازيغي في القديم هو الضياع، وتضافر عدة أسباب جعلته مختزلا في الذاكرة الشعبية والممارسات الجماعية، فما هو مآل هذا المسرح المرتبط بالقاعة الايطالية في الفترة الحديثة،فترة تطور وسائل الاتصالات، وتعدد وسائل النشر ، وما هي محدداته وسماته؟. محددات المسرح الامازيغي بالريف: من الصعب جدا ونحن نتناول المسرح الأمازيغي ، الناطق بأمازيغية الريف في الفترة الحديثة أن نلم به دون أن نستحضر عدة ضوابط أو محددات منها ما هو لسني/ لغوي[11]، أو ما هو جغرافي، لكننا سنقتصر في هذه المداخلة بشكل مختصر على ضابطين منهجيين(الضابط الفني، والضابط الزمني)، وذلك حتى يتسنى لنا مقاربة هذا الموضوع مقاربة موضوعية ، ومن ثم الوصول إلى بعض النتائج دون تعسف أو ليّ لأعناق المصادر/ الحقائق المتوافرة لدينا. أ- المحدد الفني يتعلق بجنس المسرح نفسه. والحقيقة أننا عندما ندرس هذا المسرح نضطر للتعامل مع العروض المسرحية دون النصوص؛ لأننا لا نتوفر عليها، باستثناء نص واحد تم نشره مؤخرا، ويتعلق الأمر بمسرحية “واف”: الفزّاعة لمحمد بوزكو. [12] ونسجل هنا بحرقة ونحن نعيش في الألفية الثالثة، وثورة المعلومات، والأدب الرقمي، والنص المترابط في مقابل النص الورقي، غياب الوثيقة المكتوبة في أبسط مقوماتها التي تحفظ هذا المسرح. إذاً، فالمسرح الامازيغي- ويحز في نفوسنا أن نقول ذلك- يعيش بلا ذاكرة حقيقية مادمنا لا نتوفر على ربرتوار مسرحي مكتوب. صحيح أن المسرح فن يمشي، فن يتحرك، فن مركب ومفتوح على باقي الفنون، وما النص إلا مكون من مكوناته العديدة، ولكن لا بد من تخليده وحفظه عن طريق نشره وتداوله. ولعل ما يؤرق مضجع كثير من الباحثين المهتمين بهذا الفن أن تضيع كثير من الأعمال المسرحية وتقبر إلى الأبد بمجرد عرضها مرات معدودة. والعرض المسرحي كما هو معلوم فن عابر ومنفلت بامتياز، وحتى وإن قيض لبعض العروض أن تكون (محفوظة) بواسطة الفيديو، أو في أوراق مرقونة أو مخطوطة، فإنها تظل حبيسة في مكتبات خاصة ولدى أشخاص معينين، لتبقى الوثيقة المكتوبة من أهم الوثائق التي تعطي سمة الخلود للنص المسرحي. فما الذي تبقى من أسلافنا المسرحيين غير كتاباتهم!. وهذا ما تنبه إليه مؤخرا المسرحي المغربي الطيب الصديقي، بحيث سعى إلى تدوين وتخليد أعماله المسرحية رغم أنها صعبة التوثيق، إذ تعتبر أعمالا منبثقة من فرجات مغربية شفهية يصعب تجسدها من الناحية الكرافية والحسم في شرعيتها النصية أو الأدبية. ب- المحدد الزمني في الحقيقة هذا الضابط ضابط شائك، لأننا مجبرون على التعامل مع المسرح الأمازيغي بالريف في فترة حديثة جدا. وبالتحديد مع بداية سنوات التسعين من القرن الماضي. إذ إن أول العروض الناضجة الواعية بأساليب الكتابة الركحية وبمكونات العرض المسرحي، حسب رأي مجموعة من المهتمين بالشأن المسرحي في الريف، والتي وصلتنا، تعود إلى تلك الفترة،وهي مسرحية” أزوغ ذي ثيوث” أبحث في الضباب، ليبقى المسرح قبل هذا التاريخ غير مرصود بدقة ولا نعرف عنه الشيء الكثير، وإن كانت بعض الدراسات تشير إلى أن أول العروض التي عرضت بمنطقة الريف تعود إلى سنة 1978 “إرحاكد أميثناغ” وصل ابننا، ومسرحية ” يهواد أكنباوي غ ثندينت أثييسي باسابورتي” جاء القروي إلى المدينة للحصول على جواز السفر، سنة 1979، إلا أنها كانت بسيطة جدا، وأقرب منها إلى السكيتش والمسرحية البسيطة. فمن الطبيعي أن هذه المرحلة ،( من بداية سنوات التسعين إلى يومنا هذا) هي التي ستُؤخذ بعين الاعتبار والدراسة. وهكذا فإن المسرح الأمازيغي بالريف راكم طيلة هذين العقدين من الزمن أكثر من ستين مسرحية. هذا التراكم خول لنا أن نخرج ببعض الميزات الفكرية والفنية. السمات الفكرية والفنية للمسرح الأمازيغي بالريف عالج المسرح الأمازيغي بالريف عدة قضايا فكرية وفنية، وباستقرائنا للمسرحيات المعروضة التي عرفتها المنطقة، نخرج بتصنيفات نوجزها في الآتي: أ- مسرحيات مقتبسة في ظرف وجيز جدا استطاع المسرح الأمازيغي بالريف أن يحرق المراحل ويتمثل تجارب مسرحية عربية وغربية ويستفيد من مختلف تياراتها ومدارسها. فكان أن لجأ إلى الاقتباس عن المسرح العربي من مثل مسرحية”أغيور اينو اعزن” ،حماري العزيز، وهي مسرحية لفؤاد أزروال، اقتبسها عن توفيق الحكيم، وعرضت بسينما الريف سنة 1996، وكذلك مسرحية “المفتش ارحكد” جاء المفتش، التي اقتبسها فؤاد ازروال أيضا عن المسرحي الروسي كوكول. ب- مسرحيات تاريخية وهي مسرحيات تستحضر أسماء أو رموزا تاريخية امازيغية بعينها من مثل: - مسرحية” ثاندبنت ن تارجا” مدينة الأحلام، من تأليف الطاهر الصالحي وإخراج فاروق ازنابط. تتناول المسرحية محاكمة يوغارطة من قبل ماسينيسا بعد أن تم التفريط في الهوية والكتابة الامازيغية - مسرحية”أرياز ن وارغ” رجل من ذهب، أُلفت من قبل أحمد زاهد، وأخرجت مرتين المرة الأولى بواسطة فخر الدين العمراني، والمرة الثانية بواسطة فاروق ازنابط. عرضت سنة 2006 بمسرح محمد الخامس بالرباط. تتحدث هذه المسرحية عن المقاومة الأمازيغية في الريف إبان ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي - مسرحية “ثبرات” الرسالة، من تأليف مصطفى القضاوي وإخراج فاروق ازنابط. استقرأت الذاكرة الامازيغية من خلال استحضار شخصيات تاريخية أمازيغية من مثل ماسينيسا طارق ابن زياد، محمد بن عبد الكريم الخطابي. ج- مسرحيات ذات منحى تجريدي عندما نقول المسرح التجريدي فإننا نعني به أسلوب لعب un style de jeu يكسر الإيهام المسرحي ويثور على النص المعد بشكل جيد، ذلك النص الذي تأخذ فيه الأحداث منحا تصاعديا. لقد نحى المسرح الامازيغي نحو التجريد في مجموعة من أعماله خائضا غمار التجريب والثورة على المسرح الأرسطي، ومن أهم هذه المسرحيات نجد: مسرحية “اربع اجنا يوضاد”، ربع السماء سقط، والتي عرضت في المهرجان الأول الاحترافي للمسرح الامازيغي بالدارالبيضاء سنة2006 ، وهي من إخراج شعيب المسعودي، وتتناول زلزال الحسيمة من زاوية تجريدية قاتمة، فلا نجد فيها حبكة واضحة. إنها عبارة عن عرض لمواقف متضاربة ومتناقضة وتفكيك للوحات الركحية. -”مسرحية ثسيث” ، المرآة، عرضت في الغرفة الفلاحية بالناظور سنة 2006، وهي من تأليف وإخراج سعيد المرسي، هي كذلك لا تقدم لنا الأحداث جاهزة، وانفردت بإفراغ اللغة الكلامية من بعض محتوياتها الدلالية، وتتحدث عن قلق الإنسان الامازيغي المعاصر والسوداوية التي تخيم عليه. ج- مسرحيات نسائية هذا النوع من المسرحيات يتم إخراجها وتشخيصها من قبل النساء وتتناول مواضيع ترصد المرأة ومشاكلها في مجتمعها. والظاهر أن دور المرأة في مجال الفن عموما بالريف ومنذ القدم ظل بارزا ومتميزا لا سيما في مجال الرقص والتعبير الجسدي، ولقد انبهر جل الإثنوغرافيين الذين زاروا الريف بالقدرات الفنية للمرأة، فهي بارعة في الحكايات Cuentos ، والسرد Narracion ، والمشاركة في الفرجات الفلكلورية Participacion en el folclor . [13] ومازالت المرأة الامازيغية توظف هذه القدرات في المسرح الحديث، وقمين بنا أن نعرج على مجموعة من المسرحيات الأمازيغية انصرفت إلى قضايا المرأة بواسطة المرأة نفسها تأليفا وإخراجا وتمثيلا نذكر منها: - مسرحية ” أقلوز”، التي قامت بإخراجها وتشخيصها لويزة بوسطاش، مركزة على المرأة وطقوسها اللعبية من خلال إبراز خصوصياتها وبعدها الجسدي والاثنوغرافي، وذلك بواسطة عدة مظاهر جسدية وحركية وأيقونية والمتمثلة في: الوشم وطريقة التزين، واللباس المستعمل، والحركات (الجيستوس)…، وجاء ذلك من خلال توظيف شكل فرجوي فطري خاص بالمرأة وهو ما يعرف بفرجة “أقلوز” التي كانت تمارس بكثرة في احتفالات وأعراس الريف. إنها فرجة استعراضية تكشف عن الجسد الراقص للمرأة ، لكن بشكل تهكمي، إذ تلجأ الراقصة إلى وضع إناء أو أي شيء دائري حول خاصرتها مما يجعل عجيزتها بارزة بشكل مبالغ ومضاعف. إنها دعوة إلى تحرر الجسد بإدخال تشويهات عليه وتسمين بعض أعضائه. وهذا يذكرنا بالجسد الكرنفالي الذي يعتمد بدوره على المضاعفة والنفخ. مما يجعلنا نعتقد أن هذه الفرجة قديمة جدا ومارسها الأمازيغ إبان احتفالاتهم وطقوسهم في أفضية خارجية لتتسلل بعد ذلك بعض بقاياها إلى أعراسنا بالشكل الذي تمارس به الآن. - مسرحية “تمرد امرأة”، وهي من تأليف وتشخيص ماجدة بناني تدخل في هذه الخانة أيضا، بحيث تسلط الضوء على المرأة في المجتمع الأمازيغي وصراعها مع الرجل الذي يسعى إلى تكبيلها وفرض توصياته عليها. المسرحية تصور الأب بشكل قاس جدا، إذ سيعتدي على ابنته بطريقة وحشية، وسيفتض بكارتها، وهذا سيؤدي بها إلى الانتحار هروبا من الواقع ودرءا للفضيحة. - مسرحية ” نساء الزابوق”، وهي مسرحية من تأليف سلوى الروكي وإخراج ماجدة بناني. ترصد هذه المسرحية واقع التهريب الذي تمارسه بالخصوص النساء، حيث يسلكن المعبر الحدودي الفاصل بين مدينة الناظور ومدينة مليلية المحتلة. وتحيلنا المسرحية بشكل صريح إلى المكان الجهنمي”الزابوق” وهو ممر ضيق على جنباته قوات مدججة بالعصي والأسلحة، فتصبح النساء المشتغلات في التهريب اللائي يضطرن لعبوره عرضة لعدة مضايقات واعتداءات. بيد أن أهم مسرحية في هذا الإطار التي تعاملت مع قضية المرأة باحترافية هي مسرحية “ثدارث مما فاظمة” والتي عرضت بالمركب الثقافي لمدينة الناظور من لدن فرقة الريف للمسرح بالحسيمة يوم 25 اكتوبر 2009. ولقد شارك في هذا العمل طاقم بشري مهم جله من النساء ؛ بحيث نجد في التشخيص كل من نعيمة علاش، وصليحة البوعيادي، وشيماء بن احمد، وأنيسة عقاري، ونجلاء بن احمد، بالإضافة إلى طارق الصالحي. والمسرحية من إخراج نعيمة زيطان. بمعنى أن كل الأدوار الأساسية أُنيطت بالعنصر النسوي . أما على مستوى التقنية والقوالب الجمالية الموظفة في هذا المسرح فهي متنوعة ومتميزة. فالمسرح الامازيغي بالريف جرب عدة أشكال تمزج بين ما هو حداثي وما هو أصيل، فسعت إلى توظيف الأشكال الفطرية والأهازيج الشعبية والفلكلورية في جل العروض، كما حاول أن ينفتح على النظريات الغربية والتقنيات الحديثة. ونستدل هنا بمثالين: د- مسرحيات تكشف عن مكوناتها (الميتامسرح): وهو الحديث عن المسرح داخل العمل المسرح نفسه؛ أي أن العمل يحيل إلى نفسه ويفضح مكوناته ويكشف خيوط اللعبة أمام المشاهد، وهو بذلك يعيد المتفرج إلى وضعيته الحقيقية المتمثلة في وجوده في المسرح. ونشير هنا إلى النماذج الآتية: - “مسرحية إنحباس أومزكون”، سجناء المسرح،عرضت بمدينة الناظور سنة 1998 ، وهي من تأليف وإخراج البشير الإدريسي، وهذه المسرحية تسائل ذاتها، والإكراهات التي يعاني منها الممثلون والممارسة المسرحية بصفة عامة. نجد كذلك مسرحيات أخرى توظف بشكل أو بآخر المسرح داخل المسرح كما هو الشأن مع “مسرحية ثداث ماما فاظمة”، منزل ماما فاظمة، وكذلك مسرحية “أغنيج إذورار”، أغنية الجبال، وهي تتحدث عن ثنائية المجتمع والفن. ه- مسرحيات تتبني لغة السينما: المسرح الامازيغي خلق لنفسه أفقا أرحب بانفتاحه على لغة السينما ، مرسخا بذلك ثقافة الصورة والقدرة الخارقة لسحر الشاشة،ومن ثم التقليص من مساحة التشخيص، حتى إننا نرى بعض الباحثين يرفضون ذلك ، فحسن يوسفي مثلا يرى أن المسرح من خلال استعماله لهذه التقنية يتحول إلى نظام وثائقي هجين، بل إلى وضع أجناسي جديد؛ أي أنه يساهم في خلق جمالية جديدة للعرض متعددة الوسائط esthétique de présentation multimedia . [14] ولكن رغم ذلك يبقى هذا الانعطاف نحو السينما والاستفادة من أبعاد الصورة ووسائل الاتصال الحديثة إضافة نوعية للمسرح الامازيغي بالريف. ونستشهد هنا بعرضين متميزين: “مسرحية ثاسيرث”، الطاحونة،عرضت بالمركب الثقافي بالناظور سنة 2008 ، من تأليف محمد بوزكو وإخراج سعيد المرسي، اعتمدت على تقنية الشاشة، التي خولت لنا التعرف على أول مشهد من هذه المسرحية. إنه مشهد جاء عن طريق الستارة السينمائية المثبتة في فوندو الخشبة، ممهدا بذلك لأحداثها قبل أن يدخل الممثلون إلى فضاء الركح. والمسرحية الثانية، وهي “مسرحية رماس”، الساحة أو الفناء، من تأليف أحمد زاهد، وإخراج فخر الدين العمراني، وهو عمل مسرحي ضخم ومتميز ، اعتمد كذلك على تقنية الشاشة. ووظف مشهدا سينمائيا، وهو عبارة عن أحداث جاءت مصورة ومعروضة من خلال الشاشة، مكملة لأحداث المسرحية ومكتشفة لفضاءات جديدة، ولقد لعب أدوارها الممثلون أنفسهم المتواجدون فوق الركح. تركيب استطاع المسرح الأمازيغي بالريف أن يمثل المنطقة أحسن تمثيل سواء داخل الوطن أم خارجه، وتمكن من حصد جوائز مهمة في مختلف التظاهرات والمهرجانات.وبهذا يكون قد خطا خطوات جبارة إلى الأمام في ظرف وجيز. ومن خلال ما تقدم يمكن أن نخرج بمجموعة من الملاحظات: - المسرح في الريف حاول إعادة الاعتبار للتاريخ الأمازيغي وتصحيحه من خلال الثورة على التاريخ الرسمي الذي تقدمه مؤسسات الدولة. - كشف بعض الجوانب المتنورة والمنسية في التراث، إلا أن التعامل معه كان في غالبه يطغى عليه الجانب التقديسي، بعيدا عن محاولة مراجعته وتحيينه. الشيء الذي أعطى لهذا التراث وظيفة إيديولوجية مباشرة. - استحضار الأشكال الفطرية بشكل لافت للنظر، إذ لا يكاد يخلو أي عرض مسرحي منها. - التركيز على خصوصية المسرح الأمازيغي من ناحية المضمون فقط والمعالجة وتناول الحوادث والشخوص وملء الركح كليا مما جعله مبتذلا ومستهلكا في بعض الأحيان، بل معيقا وغير وظيفي، وغياب البحث في البنية المسرحية الأمازيغية التقليدية وتطويرها، ومن ثم محاولة ابتكار تقنيات جديدة. - استقطاب المرأة لا كمتلقية فحسب، ولكن كمبدعة وفنانة تعتلي الركح وتصبغه ببصماتها وخصوصيتها. وعندما نتحدث عن الخصوصية فإننا نعني طريقة في النظر وأسلوبا في المعالجة ورؤيا للفن تميزت بها. ونوجز ذلك في العناصر الآتية: (التركيز على المكونات الفيزيقية/الجمالية للمرأة، اللجوء إلى بعض الأصوات التعبيرية الخاصة بالمرأة وهو ما يسمى بالأصوات غير اللغوية كالزغاريد، استعمالها للجسد بطريقة متميزة أثناء تفاعله مع غيره من الشخصيات وأثناء تعبيره عن وجهات نظر معينة وهو ما يسمى بلغة المسرح بالجستوس الاجتماعي (gestus social ) . - غياب توثيق وتدوين هذا المسرح رغم توفر جل العروض على نصوص قبلية تكون مخطوطة، تستدعي طبعها ونشرها، وهي دعوة إلى الجهات المسؤولة والمعاهد المختصة أن تهتم بالمسرح الأمازيغي تدوينا وصيانة، لأن أمر التدوين يجب أن تتكلف بها المؤسسات أكثر من الأشخاص. - في ظل غياب تدوين النصوص، يصعب الحديث عن نقد موازي لها، ودراسات متمعنة لهذا المسرح، اللهم ما جاء من بعض النقاد الذين تابعوا بعض العروض وهؤلاء معدودون على رؤوس الأصابع، أو ما جاء في بعض الصحف والمواقع الالكترونية، وهي مواضيع اقرب إلى الانطباعية والتغطية الصحافية منها إلى النقد الوازن. المصادر والمراجع [1] البربر، عثمان الكعاك، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، ط2، 2003، ص:117. [2] البربر، مرجع سابق، ص:109. [3] المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، حسن المنيعي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس، ط 1، 1994، ص:31. [4] المغرب المجهول: اكتشاف الريف،ج1، أوجست مولييراس، تر: عز الدين الخطابي، مطبعة دار النجاح الجديدة،الدارالبيضاء، ط 1، 2007، ص:113. [5] الضحية وأقنعتها: بحث في الذبيحة والمسخرة في المغرب، عبد الله حمودي، تر: عبد الكبير الشرقاوي، دار تبقال للنشر،الدارالبيضاء، ط 1، 2010، ص:12. [6] على سبيل المثال نذكر رأي مصطفى بغداد في كتابه المتميز “المسرح المغربي قبل الاستقلال”، إذ يعتبر أن السبب الديني كان وراء توقف هذا النشاط المسرحي السائد من قبل، والذي كان غزيرا ومتنوعا في أساليبه وأشكاله. ص:9 [7] أسلمة وتعريب بربر شمال المغرب، أنجلو غريلي، تر: عبد العزيز شهبر، منشورات وزارة الثقافة،الرباط، ط 1، 2009، ص:12. [8] تجدر الإشارة هنا إلى أنه أثناء حرب الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي عُدّت بعض مظاهر الاحتفال والانغماس في اللهو من مثبطات العمل الجهادي، لذا تم تقليص مدة إقامة مباهج الأعراس من سبعة أيام إلى ثلاثة أيام، وكذا تحريم أهازيج “رالا بويا” وما قد يصاحبها من استعراضات ورقصات لمدة من الزمن. [9]Un siglo de hiero en las minas del rif, Vicente Moga Romero,servicio de publicaciones,Cuidad de melilla,UNED,Melilla,2010,P:138 [10]Ibid ,P:139 [11] الإنسان الامازيغي أبدع أعماله بعدة لغات، وهي في غالبيتها تحمل قيما امازيغية وخصوصيات محلية، لذا فهي تطرح إشكالا في مقاربتها وتصنيفها، ويمكن اعتبارها أعمالا امازيغية مكتوبة بلغات أجنبية. وتحضرني هنا مسرحية “إكليدن” للبشير القمري المكتوبة بالعربية التي تتحدث عن الحضارة الامازيغية، ومختلف رموزها وقادتها، وتوظف هذه المسرحية حيزا كبيرا من امازيغية الريف. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن مسرحية جميل حمداوي “نحن أحفاد مسينيسا”. [12] مسرحية “واف WAF”، محمد بوزوكو، مطبعة الأنوار المغربية، وجدة، ط 1، 2009. وهي مسرحية مكتوبة بالحرف اللاتيني وبالحرف الامازيغي تيفيناغ، ومرفوقة بدراسة نقدية تسلط الضوء على هذا العمل. إعداد ودراسة هذه المسرحية جاءت ثمرة تضافر جهود ثلاثة باحثين على رأسهم حسن بنعقية. [13] El rif de Emilio Blanco Izaga, Vicente Moga Romero, Ediciones Bellatera,Barcelona, 2009, p:494,495 [14] المسرح والحداثة، حسن يوسفي، منشورات وزارة الثقافة،الرباط، ط 1، 2009، ص:18.