وأنا أتصفح العديد من النصوص التي أردت لها أن تكون تقديما لمقالي، لم أجد أبلَغَ من تعريف لحالة الأنوثة مما قالته كلاديس مطر: «إن المرأة مصنع من الأحلام، هي حارثة مثالية لأوهامها الصامتة، متفوقة في علم حساب الذات، حتى ولو كانت أمية، فطرية تتعامل مع الدنيا حولها بإحساس بوصلي راداري تلقائي، لكنها متمكنة، في الوقت نفسه، من إحداث الثقوب والتلصص على العالم من خلالها. ومن بين كل هذا كان هدفها الأكبر هو حقوقها وكانت، كلما كسبت المزيد منها، كلما انعكس ذلك على قدرتها على التعبير عن ذاتها وحالها وكان هاجسها دوما يتمركز على كسب المزيد»... والمرأة المغربية، اليوم، كما المرأة في بقاع عديدة من الوطن العربي، تتحرك أكثر، تعمل أكثر من ذي قبل، وبالتالي ولجت أخيرا، وباستقلالية، إلى خدمات البنوك ومخادعها الإلكترونية وأصبحت تستهلك أكثر ونراها تتبع فنون الموضة وصيحاتها في المحلات التجارية وباحات وصالات الرياضة وعلى «فايسبوك»، كما نراها منسقة للاحتجاج ومناضلة في النقابات والجمعيات والأحزاب... وليس هذا فحسب -لكي لا نقزّم المرأة في سلوك الاستهلاك والزينة- فهناك فكر ووعي نسوي بالذات أصبح يتشكل ويتعمق ويفتح مساحات لجعل بوابة الأنوثة مكانا لتحقيق الذات واستشراف المستقبل. وكم تفضل النسويات (المدافعات عن مكانة المرأة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية) عدم الارتكان فقط إلى الأركان المظلمة لواقع النساء ورغبتهن في البوح بمنجزات المرأة العربية، لأنه من الناحية التكتيكية -بالنسبة إليهن- فإن الخطاب التذمري والسلبي له، هو أيضا، وقعه التواصلي السلبي، حيث تصبح البكائيات النسوية واقعا قائم الذات، وهو ما يعطي الأزمة النسوية موقعا طبيعيا. وكم هو متوازن أن تكون الصورة الوردية التي تروجها بعض الخطابات المؤسساتية والأكاديمية حول تطور أوضاع المرأة في المغرب مقابلة -دائما وبشكل تراجيدي- لألوان مختلفة لصورة قاتمة واحدة لأوضاع المرأة العربية، حيث لم تشهد من قبل، في مجتمعاتنا العربية هذا التنامي الفظيع لتجارة الجنس المهيكلة والمنظمة، كما لم تعرف العمالة النسائية من قبل كل هذه الأشكال المنفلة والقوية من الاستغلال والعنف والأذى داخل مواقع العمل (الذي يكون في غالبه مؤقتا وغير تعاقدي). كما لم نشهد من قبل هذه المعاناة الكبيرة للنساء من الأشكال المتزايدة لحالات العنف -في مختلف مواقعها الاجتماعية والمهنية- أكانت زوجة، صديقة، خليلة أو زميلة... إلى درجة أصبح معها الخطاب الرجعي المناهض لانعتاق المرأة يتلصص بالأزمة ويعطي مبررات خطيرة، أعظمها «ميل النظام الاقتصادي العالمي الجديد إلى إخراج اليد العاملة النسائية الرخيصة من كنف الأسرة وفلك الفضاء المحافظ، لتزود سوق العمالة بعرَقها، مقابل حصرها، بشكل تراجيدي، في أشكال مزيَّفة من شبه تحرر استهلاكي لا يزيد إلا من تقليص قيمتها الإنسانية وزيادة قيمتها الشبقية كذات للاستثمار الذكوري في مختلف أشكاله وأبعاده». فجرائم الشرف ما تزال مشروعة في بقاع ربما لم تطلها بعدُ «يد» القانون ولا نضالات الحقوقيات، كما لم نستطع، إلى حد اليوم، أن نقلص تزويج القاصرات (حسب تقارير رسمية لوزارة العدل) ولم نستطع تقليص هجرة الدعارة ولم نستطع حماية العاملات الفلاحيات من بطش مزارعين يتحدَّوْن بشكل صارخ بنود مدونة الشغل وفصول حقوق العاملات فيها... ومازال قطاعنا الخاص -الذي نُطبّل له ونعدد من ميزاته- مستغلا لليد العاملة النسائية وغيرَ مكترث بحقوق الحمل والأمومة والرضاعة، إلى درجة أصبحت المرأة تخفي عن مشغلها زواجها وحملها و»أنوثتها»، كما لو كانت تحت سلطة ذكورية جبّارة ترفض أن تحتفظ المرأة العاملة بكامل حقوقها، بل ولا تعترف أصلا بهذه الحقوق. كان لا بد لي من هذه المقدمة، وسيعاتبني البعض على غلبة الوصف والتعميم فيها، لكن، وكما كان يقول دوركهايم في مجال منهج البحث السوسيولوجي، فإن الظاهرة الاجتماعية التي لا تسحبنا نحو تبنيها السياسي والإنساني لا يمكن لها أن ترقى إلى وضعية اجتماعية أصلا، وهو التبني الذي يغذيه الإيمان بالقضية أكثر مما يغذيه الفضول العلمي الموضوعي. وإذا لم نستشعر معاناة المرأة وانحسارها وتيهها، فليس ممكنا أن نقف موقف نقد لما يتم ترويجه من تحسن مؤشرات عيشها. وهذا حال وضعية النساء في المغرب، فبالقدر الذي تقنعنا المؤشرات والأرقام بتحسن أوضاع المعيشة، عموما، وبتحسن ولوجيات الشغل والتكوين والاستهلاك والاستثمار عند شريحة بدأت تتسع من النساء المغربيات في الحواضر، فإن النقلة الاجتماعية للمرأة المغربية تفرض حصول مخاض اجتماعي وانحسار لطموحات التحرر لديها وحصول وضعية الاغتراب الاجتماعي لديها، بالنظر إلى تنافر أوضاع التماهي ما بين مكتسبات حضارية واجتماعية، هي الراعي الأساسي لمرورها تربويا، وبين الرغبة في التحرر من بنيات اجتماعية ذكورية متسلطة. وبالتالي، فعمق المخاض الأساسي يكمن في تيه المرأة المغربية، كما باقي النساء العربيات، وسط اختلاط المرجعيات المجتمعية والثقافية والوجودية... وعلى حد تعبير سيمون دوبوفوار، فإن المرأة تؤدي دائما الفاتورات المرتفعة للتقليدانية وتراها من يدفع أكثر عند تحول الأوضاع نحو الانعتاق. المرأة.. ذلك الجنس المبهم وقف سيغموند فرويد كثيرا عند التحليل النفسي والجنسي للأنوثة. ولم يسبق له أن عبر عن تردده وخيبة أمل تحليلاته ومضارباته السيكولوجية (على حد قول أونفري) إلا عندما وضع الأنوثة كموضوع للتحليل النفسي. وقد جر عليه انتقادات كبيرة ما قاله حيال الأنوثة باعتبارها فقط «غير ذكورية» وباعتبارها مشروعا ذكوريا منسحبا وناكصا وغير مكتمل. لكن التحليل النفسي فتح نافذة مهمة عندما أقر بمحورية النرجسية داخل نسق الأنوثة وتطورها، حيث الذات النسوية أكثر مركزية على نفسها وتواقة إلى استجلاب الاهتمام والإسقاط والاستثمار العاطفي والنفسي والثقافي والحضاري للمجتمع الذكوري. ولأنها مجال للإسقاط ومحور للجنوسة (ما دامت الجنوسة طاقة ليبيدية استثمارية) فإن الأنوثة في نظر فرويد هي مركز ثقل البناء (كل بناء سواء أكان فنيا أو حضاريا بشكل عام). ويضيف كارل يونغ (وهو من المحللين النفسيين المصححين لمسار تيار التحليل النفسي) أن الأنوثة (أو جانب الاستثمار عليها) هي، في نفس الوقت، طاقة للبناء (أو ما يسميه مجازا «الإيروس») تكون وراء الإنجازات الحضارية العظيمة، وفي مقابل ذلك، فالأنوثة طاقة للهدم (وما يسمى مجازا «التاناتوس») حيث تكون مصدرا لاستعظام القوة والخيلاء والعنف. وقد انشغل المحللون النفسيون بتحليل الإنجازات الإنسانية الحضارية على محك الأنوثة ووقفوا كثيرا على أهمية الأنوثة -نفسيا- داخل الحضارات المصرية القديمة والبابلية والفينيقية والرومانية واليونانية. كما حللوا (بالرغم من المجازفات الإبستمولوجية الكبيرة) مكانة الأنوثة وقيمتها داخل مختلف الأنساق الدينية للشعوب البدائية (دراسات مارغاريت ميد وتالكوت بيرسونز)، مع المحاولات المحدثة في البحث التحليلي النفسي للجنوسة والأنوثة داخل الأنساق الدينية التوحيدية (ميشيل أونفري، بيير داكو، مالك شبل وغيرهم).... وأمام وفرة الدراسات والمقاربات الفلسفية والنفسية للمرأة وجسدها، فإن الذات الأنثوية -على الأقل في المقاربات التحليلية النفسية والأنثروبولوجية- احتفظت لنفسها بقيمة حضارية كبيرة. وتتلاقى معظم تلك المقاربات في كون المرأة كجسد كانت مؤسسة لاستيهامات الفن والثقافة والحضارة، وهي اليوم محور لاستيهامات الصناعة والتجارة والاستهلاك ورأس المال. كما أن المرأة كفاعلية اقتصادية هي، اليوم، مفتاح من المفاتيح الكفيلة بالعيش في كنف الضيق والأزمة (نزوح الاقتصادات المأزومة إلى إعادة المراهنة على اليد العاملة النسوية وتفانيها وإنتاجياتها المرتفعة وغير المكلفة كما فعله الاقتصاد العالمي في نهاية القرن ال19). ولا أحد ينفي اليوم الأدوار المزدوجة للمرأة، سواء أكانت مؤسساتية أو أسرية، وهي الأدوار التي تتحملها النساء اليوم من دون المطالبة بأجور مزدوجة، وهو ما يعطيها دائما قيما اجتماعية مسترسلة، لكنْ من دون توفرها على سلطة الدعاية لهذه القيم. الجنوسة والديمقراطية في العالم العربي يتم التطرق، اليوم، في السجالات السياسية والنقاشات الأكاديمية المتعلقة بالمرأة لموضوع شبيه بلعبة «الدجاجة والبيضة»: هل السياسة هي الحاسمة في انعتاق المرأة (وبالتالي ضرورة انخراطها السياسي) أم إن تحسن أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية هو الذي يجعلها تدخل غمار السياسة بقوة لتحصين مكتسباتها؟ فبين اختيار السياسة أو الاقتصاد كمداخل للنهوض بأوضاع المرأة، يبقى واقع تلك الأوضاع في حالة من التنافر الكبير بين ما هو كائن وما هو ممكن تحقيقه بالنسبة إلى تنمية المرأة. واستنادا إلى تقييم المكتسبات الحقيقية التي حققتها المرأة في المغرب، تبقى مؤشرات الصحة والتعليم والشغل جد مقلقة، بغض النظر عما تم تحقيقه من مكاسب ذات بعد تشريعي بحث (مدونة الشغل، مدونة الأسرة، قانون الجنسية، قانون التغطية الصحية الإجبارية)... ما زال المغرب بلدا عربيا إفريقيا تسجل فيه -حسب تقرير المندوبية السامية للتخطيط المتعلق بوضعية المرأة المغربية سنة 2008- حالات عديدة من وفيات الأمهات أثناء الوضع (227 وفاة لكل 100 ألف ولادة حية) رغم التطبيل الرسمي بأنها مؤشرات ستصل بنا إلى موعد 2015، المرتبط بتحقيق أهداف الألفية للتنمية. كما أنه رغم تحسن (وليس تجويد «qualification») مؤشرات تعميم تمدرس الفتيات، وبالأخص في الأرياف، فإن الأمية منتشرة بقوة في صفوف النساء بين النساء القرويات عموما بأكثر من 75%، وهي الأمية المنتشرة كثيرا في صفوف النساء العاملات، مما يعقد من أوضاعهن المهنية ويحصرها ويحد من آفاق تطورها. والمجتمع ومؤسساته الرسمية يعترفان باستمرار تزويج القاصرات، مما حذا بوزير العدل الحالي (وهو للإشارة رجل قانون مهني) إلى الرد على البرلمانيين المطالبين بإيجاد آليات ردعية تجريمية لمقترفيها، بأنها ظاهرة مجتمعية عميقة توافقية (كل الأطراف مستدمجة لها وموافقة على ممارستها) إلى درجة يصعب التصدي لها آليا بالقانون. كما أن تشخيص ظاهرة العنف الجسدي والنفسي والاقتصادي على المرأة (حسب مؤشرات قطاع التنمية الاجتماعية) أوصلنا إلى نتيجة مغرقة في السريالية والخطر، وهي العنف الزوجي، باعتباره أوسع مظاهر العنف إطلاقا. والخطير هو أن الأسرة التي يتربى في كنفها الأطفال على استدماج أدوارهم الاجتماعية المقبلة يكونون شهود عيان على ممارسات عنيفة على المرأة وعلى رمزيتها، وهو ما يساهم في إعادة إنتاج أزمة الأنوثة داخل منظوماتنا الأسرية. والمؤسسات النقابية والمهنية على دراية كافية بلا جدوى فصول حقوق المرأة واحترامها في مدونة الشغل من طرف الاستثمار الاقتصادي (الذي يوجد نصفه في فلك الأنشطة غير المهيكلة). فقطاع الصناعات الغذائية والنسيجية الذي يتوفر على 80% من يد عمالية نسائية لا يحترم، في معظمه، مقتضيات الأجر والتكوين والأمومة والتمثيلية المهنية للعاملات من نسائه. وتتكدس اليد العاملة النسائية -بالنظر إلى محدودية تكوينهن المهني والمعرفي- في قطاعات صناعية محدودة الآفاق ومكرسة لأوضاع «الدونية» الاقتصادية، وهو ما زاد من هشاشة أوضاعهن الاجتماعية. يكفي أن نشير إلى عدم تمتع العاملة بأجرها (لأنها تبقى المعيلة الرئيسة لأسرها) وبالأخطار المحدقة بها أثناء وبعد العمل (استغلال جنسي وابتزاز جسدي وابتزاز أسري...). وكلها مشاكل لا تدخل كثيرا ضمن الأجندات النقابية، لماذا؟ لأن هذه الخيرة لا تعير كبير اهتمام لتوسيع تواجد العاملات داخل هيآت تمثيل الأجراء التي تبقى «ذكورية» حتى داخل القطاعات النسوية... كما أن الملفات المطلبية للعديد من النقابات التي ترافع بها في الحوارات الاجتماعية مع الحكومة لا تتوفر-إلا شكليا- على مطالب واضحة للرقي بالأوضاع المهنية للنساء. وما زال الزعامات النقابية رجالية والتمثيلية النسائية داخل هذه النقابات جد محدودة، إذا لم نقل منعدمة. كثيرة هي مواصفات تأزم الوضع النسائي، ولأن الموضوع سياسي صرف، فماذا فعلت الأحزاب لنصرة قضايا النساء؟ لقد وعت الحركة النسائية داخل الأحزاب، بشكل ذكي، أن اقتناص فرص المفاوضة والتمثيلية لا يكون إلا بالدفع بآليات تحفيزية تعطى مباشرة للنساء للرفع من تمثيليتهن النيابية، لأنه في رأي النسويات -وهو رأي صحيح من الناحية الرياضية وليس الدستورية والديمقراطية- فإن تخصيص «كوطا» ولائحة وطنية نسائية يبقى آلية للقفز على المراحل، وبالأخص، للقفز على العراقيل، حيث لا مجال لأن تتبع المرأة نفس آليات السياسة والانتخاب المتحكَّم فيها رجاليا. لكن، وبعد مرور أكثر من 8 سنوات على دخول التجربة، لم يتم تقييمها بشكل جيد ولم يتم، إلى حد الآن، تشخيص آثارها السياسية الحقيقية على تحسين تمثيلية النساء سياسيا، والأدهى من ذلك أنها أصبحت آلية أرثوذوكسية لا تجدد النخب النسوية ولا تضمن للجيل النسوي الجديد فرص الالتحاق بها، وهو ما يشكل خطرا محدقا بالتعددية. المرأة والتحرر من السلطة الرابعة ليس هناك ما هو أكثر بطشا بصورة المرأة من الإعلام، الذي ينتج الصور النمطية حولها ويعيد إنتاج التمثلات الذهنية والاجتماعية والثقافية حول أدوارها وقيمتها. فكثيرة هي الوصلات الإشهارية التي تحصر المرأة في وظائف «تقليدية» (مرتبطة بالطبخ أساسا) بينما تعطي الرجل دور التخطيط العائلي (شراء سيارة أو الحصول على قرض من البنك) وتكليفه بالقرارات الأسرية الحاسمة. كما أن الإنتاجات الفنية لم تخرج -عكس رسالتها الأدبية- عن إطارات الأدوار الاجتماعية التقليدية للمرأة، رغبة منها في لعب دور المرآة العاكسة لوضعية المجتمع، لكنها سقطت في تكرار الوضع وإعادة إنتاجه. وكم كانت النكسة السينمائية قوية عندما تم تضخيم الجنوسة في العديد من الأفلام المغربية الجديدة، عوض تقييم الأنوثة الحقيقية للمرأة المغربية، التي تبقى أنوثة مترددة تحرريا، محافظة دينيا وأسريا وتواقة إلى المغامرة، لكنْ خائفة منها، لعدم وجود ضمانات مجتمعية كافية. وكم يثلج الصدور أن نتابع ما تقوم به اليوم مجموعة من الجمعويات والمناضلات عندما استفقن لبطش الصورة وقسوتها والمخاطر المحدقة بمكتسبات المرأة، وهي المخاطر الآتية من الإعلام، حيث التنميط في أشد مظاهره. لكن التحدي البارز لهذه الحركة التقويمية والتصحيحية للإعلام (من خلال اعتماد آليات ومواثيق ولجن ودخول الهيأة العليا للاتصال السمعي -البصري على الخط) هو أولا جهل المستشهرين والمستثمرين الإعلاميين وعدم استيعابهم الحضاري لمبادئ النوع الاجتماعي، وبالتالي عدم انعكاس ذلك على إستراتيجياتهم وسياساتهم التحريرة، وهو جهل «غريب» لأن نسبة مرتفعة من الأدمغة النسائية تشتغل بوفرة داخل مختلف المؤسسات الإنتاجية الإعلامية، سواء أكانت خاصة أو عمومية، بل وهناك نساء ولجن مراكز اتخاذ القرار الإعلامي في معظمها... العائق الثاني هو قلة استدماج النسيج الجمعوي النسوي لأهمية الاشتغال مع وعلى الإعلام، لتحسين صورة المراة وتحصين مكتسباتها المحققة، حيث تستغرب الهيأة العليا للاتصال السمعي -البصري، وهي هيأة موضوعة لتقنين المشهد الإعلامي والمصادقة على دفاتر تحملات المعتمدين الإعلاميين، تستغرب قلة العوارض والشكايات والملاحظات للجمعيات النسائية حول موضوع صورة المرأة في الإعلام. العائق الثالث هو أداتي محض، فالعديد من المؤسسات الإعلامية الراغبة في تحسين الصورة الإعلامية للمرأة تبقى عاجزة عن اتخاذ مبادرات فعلية لأنها لا تعرف الآليات. فما هي الصورة النموذجية للمرأة (إن نحن جزمنا بضرورة النمذجة) وكيف نحول مبادئ النوع الاجتماعي إلى صور؟ وكيف نصنع الصورة؟ ولماذا نرفض عكس الصورة الحقيقية التي يعبر عنها المجتمع؟ وهل من حق الإعلام أن يروج صورة غير تلك القابعة في أذهان وعقول المستهلكين؟ كلها أسئلة ما تزال تنتظر أجوبة، قبل أن نحكم على الإعلاميين بالنمطية. لماذا يكتب للأدب النسائي أن يكون جريئا إذا أمعنّا التدقيق في هذا الكم الكبير من النصوص النسائية الأدبية العربية لوجدنا أن أكثرها جرأة في التعبير تندرج تحت مواضيع الجنس وعلاقتها بالرجل. وإلى حد الآن، لم يستطع النقد الأدبي العربي أن يقوم بتوجيه خطوات هذا النوع من الأدب ولم يبذل تلك المجهودات الضرورية، أدبيا وفلسفيا، القمينة بتعريف الأنوثة والذكورة أولاً وتحديد الوظائف والأبعاد الأدبية المرتبطة بكل منهما، وإنما قام بتمجيد الجرأة في تناول الموضوعات الجنسية وإعطاء أهمية مبالَغ فيها لأعمال مصنَّفة في عداد الجرأة الجنسية الكشفية، متناسياُ دور الأنوثة في النضال المجتمعي والسياسي. ولم يستطع أدب المرأة أن ينطلق من هذه النقطة ويبحث عن تكامل العلاقة بينها وبين الرجل، وإنما اخذ يعالج الموضوع من أضعف جوانبه، وهو جانب الاختلاف والاختلاط الجنسي، وكأنه تقرير مكرر لسجال تناحري بين الطرفين، فهو إما يشتم يظهر كل تهجم على الرجل، وإما ينتقد بشكل تذمري، بعيد عن طرح أي حل. وكم هو غريب أن تنتشر مصطلحات مثل «أدب نسائي جريء» فقط للتدليل على نوعية المواضيع المطروحة والإباحية في التناول. صحيح أنه محبَّذ وضروري أن تقتحم المرأة الكاتبة تلك المستويات الأدبية والنفسية التي لم تقتحمها من قبل، وأنا هنا لا أدعو بتاتا إلى التنميط الأدبي، ولكنْ على المرأة الكاتبة أيضا أن تستثمر مجهودات كبيرة للتعريف أكثر بأعماقها ووجدانها ودور أنوثتها النضالي الأنوثة بالمعنى العميق والمضموني للكلمة. فالجسد الأنثوي في الأدب النسائي هو، ربما، «مصيدة أدبية» ليس له سوى مخارج دلالية وأدبية تسير في اتجاه واحد، هو الدفاع عن الغيرية الأنثوية والتميز الأنثوي، بتكثيف وصف الجسد كأداة لتحقيق الثورة النسائية. بينما الثورة النسائية يمكن تحقيقها أدبيا باستثمار باقي الأدوار الأخرى التي ليست أقل أهمية. وأظن أنه، من ناحية التحليل النفسي للأدبيات النسوية الجريئة، تبقى قيمة الأمومة هزيلة، مقارنة مع قيمة الجسد، كما لو أن هناك تنافر مفصلي بين هذين المستويين، لكن العكس صحيح. لم يستطع أدب المرأة العربي الحديث أُذكر أنه لم يكن هناك أدب قديم إلا بعض القصائد القديمة القليلة هنا وهناك- أن يرقى إلى مستوى الأدب الإنساني ويندمج بموقف الأدب عموماً من القضايا الكبرى، فنادراً ما نقرأ رواية نسائية تتمتع بهذه الخلفية الاقتصادية –السياسية- التاريخية العميقة للواقع، أو لحقبة ما، وكأن أدب المرأة لا يجب أن يعبر إلا عن هموم علاقتها بالرجل و»استجداء» حقوقها منه أو المعاناة من قهره. ونادراً ما نجد نصوصاً أدبية نسائية تحمل فكراً فذاً تقدمياً يطرح حلولاً بديلة... وكأن هذا النوع من الكتابة متروك للدراسات والتحليلات. إن القمع طويل الأمد الذي تعرضت له المرأة عبر تاريخها لا يبرر تجاهلها قطب الذكورة وضرورة التكامل معه، فالنضال لا يكون ضده وإنما معه ومن خلاله، بمعنى توحيد «الجبهات» أمام تحديات الاقتصاد والمجتمع والخلفية الثقافية. (كلاديس مطر)