«عبد الرفيع جواهري، شاعر متوهج في الزمن الإبداعيّ المغربي المعاصر ، باقتدار بروميثْيُوسِي، وروح أُورْفيُوسيَّة . يجمع السماء و الأرض في ثوب واحد منسوج بمداد العشق والحرية، لا يُرحِّل الحقيقة لا سماويا و لا أرضيا ،وإنما يبدعها شعريًّا في أشكال متعددة ،تتأبّى على الحصر ، وعلى التمركز في بعد واحد، لأنه يدرك أن كتلتنا النفسية la masse psychique لا تستطيع العيش في فضاءات لا يعرفها الشعر ، فهو المرآة الجامعة للحقائق». هكذا قدم الشاعر المبدع والناقد والباحث مداخلة له حول شعر عبد الرفيع جواهري في إطار فعاليات مهرجان مراكش الشعري دورة محمد بنسليمان الجزولي، الذي نظمه فرع اتحاد كتاب المغرب بمراكش بتنسيق مع كلية اللغة العربية يوم السبت 26 مارس الماضي والذي كرم الشاعر المناضل المتألق عبد الرفيع جواهري.. المهرجان عرف ثلاث جلسات علمية وافتتاح تحدث في مستهله رئيس الفرع الأستاذ النقيب إبراهيم صادوق في كلمة عاشقة احتفت بجواهري ومن خلاله الشعر المغربي الحديث، بينما قال عنه الدكتور علي متقي نائب عميد كلية اللغة العربية بمراكش بأنه شاعر حداثي وبالتالي «فكلية اللغة العربية بمراكش والتابعة لجامعة القرويين حتى وإن كانت مرتبطة بالأصالة فإن الأصالة والحداثة وجهان لعملة واحدة ومن هنا ننفتح على ثقافات أخرى لأنه بدون ذلك لا يمكن أن يكون هناك إبداع».. الجلسات العلمية الثلاث أدار الأولى منها الدكتور علي المتقي و تحدث لنا فيها الأستاذ عبد الكبير ميناوي عن شاعر ركب تجربة السياسة وسخر من حضرة صاحبة الجلالة من خلال بورتري قرَّب لنا الحياة الفنية والشعرية والإعلامية لجواهري.. مداخلة آية ورهام كانت متميزة على جميع المقاييس بل أعطاها إلقاؤه جمالية خاصة وكنا حقا أمام صحن شعري شهي يزيد فتح الشهية دون أن نحس بأي ألم أو مغص في معدتنا الثقافية، بل نقول: هل من مزيد؟ واستمتعت عيوننا بصور جمالية يتألق حسها الفني ليرقى بالذوق إلى السموات العليا من العشق الجمالي.. لكن طبيعة الندوات تكون دائما مجحفة في حقنا، مداخلة آية ورهام التي تتضمن ثلاثة متشاكلات أسلوبية وإيقاعية، هي. مُتشاكلُ بنية التقفية ومُتشاكلُ بنية التفاعل ومُتشاكلُ بنية التكرار اكتفى المتدخل فيها بإمتاعنا ب«بنية التقفية» التي قصد بها موقع التراكم الصوتي الذي له أهمية في تحديد المدلول عليه. فهي ليست بنية معجمية فقط، بل بناء أسلوبيا وإيقاعيا يتنافذ مع كل مكونات النص، فالمعجم في الشعر المعاصر لم يعد المحدد الأساس لشعرية القصيدة، فقد غدت الكلمة تستمد شعريتها من سياقها في مدونة الشاعر، ومن طريقة تفاعلها مع المستوى الصوتي التركيبي، أي من نسبة تواتراتها في النص. كما غدت تؤسس لتفردها من خلال تشكلها الخطي على الصفحة. وهذا كله أدى إلى تكثيف الإيقاع، وتكثيف الاشتغال على الدوال الصوتية والخطية والتركيبية للخروج من «المفهوم» إلى «الصورة» التي هي الفضاء المنتج للمعني، والمعيار الأساس في تمييز نوعية المكتوب في سلم الحضور الإبداعي. يقول أية وارهام: «الشاعر عبد الرفيع- الآتي من زمن الجرح والغضب والحب والثورة- يمتلك اتقادَ التمرد على أوجاعنا وآلامنا الاجتماعية والإبداعية، فهو قد اختار الطريق الأكثر صعوبة، والأجدَّ فنية، بعيدا عن المتداول والمألوف، فجاءت بنيات أساليبه التقفوية مدهشة ومغايرة على صعيد الإيقاع واللغة والرؤى والمِدْماك الشعري، ومن ثمة كانت له موسيقاه الخاصة المبنية على الوعيين: اللغوي والجمالي اللذين يشعل بهما حرائق الدهشة. فهو من القلة القليلة التي تحرص على الإيقاع والتوزيع النغَمي، وفق موسيقاه الخاصة، ولذا نراه يهتم أيما اهتمام بالأسلوب التقفوي لما له من فاعلية إيقاعية في تخصيب الدلالة، حتى ولو كان النص يظهر لنا في الإخراج الطباعي وكأنه نثر، فاللعبة الشعرية الأثيرة لديه تتجلى في أسلوبية التقفية، زيادة على أسلوبية البناء على شيء غير مهيأ أساسا للبناء عليه، بمعنى أنه يستعير من الصورة جزءا فيربطه بقطب مقابل لم يتعود العاديون من الشعراء ومن القراء على اكتشافه، وبالتالي توظيفه في البناء الإيقاعي التقفوي، وفي بناء النص كله، وهذا آت من تشبع الشاعر الرفيع بإيقاعات المنجز الشعري العربي والكوني، وإصغائه لأصوات العالم السرية، ومن ثم كان اهتمامه الخاص بالقوافي باعتبارها حافر الإيقاع كما يقول القدماء، أو بؤرة مغناطيسية تنجذب إليها كل أصوات القصيدة.» بينما أبحر بنا الأستاذ حسن مخافي في بحر شعرية المكان في ديوان« كأني افيق» حيث أكد أن عبدالرفيع جواهري شاعر حتى وإن كان يصنف ضمن شعراء الستينيات فإن تجربته تستعصي على مثل هذا التصنيف لأنه يجدد نفسه باستمرار ويرتقي بقصيدته إلى درجة إدراك سدرة منتهى الشعري بحثا عن الكمال وبهذا المعنى يظل الشاعر يبحث عن قصيدة لم تكتب بعد وقد لا تكتب أبدا».. أما الأستاذة نادية رياض فقد تحدثت عن مساهمة عبد الرفيع جواهري في تأسيس الأغنية المغربية العصرية. وقالت بأنه أعطى لنهر أبي رقراق مكانة كتلك التي حظي بها نهر النيل في شعر عمالقة الشعر المصري.. أما نجاة الزباير فقد قدمت قراءة في بعض قصائد جواهري المغناة لكن طريقة تقديمها وإلقائها المتميز جعلانا أمام معزوفة أو سمفونية، بل كان الإلقاء قصيدة في حد ذاته.. قالت نجاة : «عبد الرفيع جواهري، هذا الاسم المحفور في جلد تاريخ الشعر المغربي، يخبئ العالمُ في آفاقه أسرار الجمال الإبداعي، أو ليس شعره سمفونية وهبة استمدت شعاعها من طلعة الصبح؟ حيث تشعر عند قراءته أنك تحضن كل العوالم، فيبتسم في تراتيل الحبر المعنى، وكأنه فجر نقي يرتوي من تميزه. لقد كتب الشاعر والإعلامي عبد الرفيع جواهري، قصائد خالدة رصعت جيد الأغنية المغربية والعربية المعاصرة بوسام الخلود. فسلام لكلماته التي تتزر بمئزر من رواء...حيث أغصان صوته تحيط بكل الجهات. فمن منا لم يقطع تذكرة الرحيل مع«راحلة»؟ ومن منا لم يلمس صوت الحجر المدوي في «طفولة حجر». الجلسة الثانية أدارها الدكتور عبد الجليل الأزدي بلغته الجميلة التي تلبس ببهاء فُستان «الحيالة » المراكشية، و تحدث فيها القاص والباحث محمد زهير عن « أشعار للحب والحلم والوطن..أشعار للحياة..إنصات لشعرية الشاعر عبد الرفيع جواهري» وغاص بنا الدكتور عبد الله الحلوي في عمق: «بلاغة الاستحضار والتفكه في نوافذ عبد الرفيع جواهري». وفي الجلسة الثالثة التي أدارها الأستاذ الرحماني بنشارف، تحدث الدكتور محمد بوغالي عن: ملامح صوفية في ديوان كأني أفيق بينما تناول الدكتور عادل عبد اللطيف موضوع «بناء المعنى في ديوان شيء كالظل».. وتوج هذا التكريم بلقاء مفتوح مع الشاعر المحتفى به حيث تحولت الأمسية إلى عرس شعري تألق فيه شاعر الجمال والأمل والثورة والحياة عبد الرفيع جواهري، وحُمل على «عمّارية» فنية غَيَّرَ فيها الكثير من الفساتين الشعرية التي تجعله يتجدد في كل لحظة ليتماهى مع كل الأجيال وهو الذي قال لي ذات يوم من شتاء هذه السنة في مدينة الانبعاث« أكادبر» : «كلما تقدم بي العمر إلاّ وأحسست أنني أتجدد وأرى حيوية الشباب تلبس جسدي.».