1 هاجمني التثاؤب فجأة، بينما ظني أني يقظ. مسترخٍ فوق الأريكة بعد نهاية يوم،لا شاق، ولا متيسر تماما. بينهما. كنت قد تعشيت بحكم العادة لا غير، وبقَّيتُ في قرارة كأسي أماميَّ شيّا. لم يبق ما أفعله، إذن،ولا النوم داعب جفوني، كما يقال. ثم إني عازب. هي نعمة أو نقمة اخترتها بنفسي، وأتحمل تبعاتها حتى ما بعد النهاية، فلا ضرورة تجرني إلى الفراش، فماذا يبقى، إذن؟ أوه، يبقى، بقي، ربما كل شيء، ربما لا.. 2 رن الهاتف المحمول في جيب منامتي فأهملته،ليس للقوم ما يفعلون سوى يثرثرون، والليل يتقدم ونحن نسبح في الكلام، من الصباح إلى المساء لا شغل للأنام إلا الكلام. زاد الرنين إلحاحا، فقدّرت أن ثمة سببا عاجلا،ولا مناص من الرد. أتشاءم عادة من رنين مستميت، فقد بتنا نعيش في عالم مليء بالأهوال، ومن النادر أن يزف إليك أحد بشرى، أو خبرا سارا. هو النذير تلو النذير، ناهيك عن ولائم النميمة والتشنيع، وهذا الهمّ كله أصبح يجلبه الهاتف المحمول، لذا قررت اصطناع الصمم. 3 انتقلت العدوى مباشرة إلى الهاتف الثابت، رنينه أعلى، ولا حاجة بي للتخمين، سيكون الشخص نفسه، وما أحسبه إلا سينغّص عليّ بقية الليل، أو سيقض مضجعي بخبر زفت، سينعى فلانا أو علاّنا، وجنازته غدا في مقبرة الشهداء، إما قربي بالرباط، والأدهى بالدار البيضاء أو مراكش؛ من أين جاء كل هؤلاء الشهداء؟! وقد يحتاج إلى سُلفة عاجلة، فنحن في متم فبراير، وسأعيد لك المبلغ مع مطلع الشهر، والله العظيم، ولن يعيد فلسا، سينضم إلى صف الخصوم والأعداء. ثمة احتمالات كثيرة من وراء إلحاف الرنين هذا، اللهم، اللهم أن يتعلق الأمرب.. دائما هناك من يقول إن الأمر يتعلق.. 4 انتزعني من تساؤلي صوت طلقات. دويٌّ. انفجار. فانتفضت واقفا، رأسي من خلف نافذة الصالون إلى الشارع، فلم أتبين، لو تبينت، إلا سجفَ الظلام يغطي رأسَها قبعةٌ من ضباب. وكما يقال عادة،لا نأمة ولاحركة في الخارج، وبما أني متأكد أن الطلقات لم تدوّ برأسي، إذ رفعت يديَّ أحيط به، متلمّسا، متحسّسا، ناظرا إلى أصابعي هل بها دمٌ، والرأس لم يُحفر به ثقب، فحمدت الله، وهرولت متنقلا بين غرف الشقة أبحث عن مصدر الصوت،لأعود فأنهار لاهثا فوق أريكتي، مطمئنا بعض الشيء، لولا، لولا دويّ الانفجار، من جديد، وبتتابع، و.. 5 وبسذاجة اكتشفت بلاهتي. انتبهت كيف عدت أرصد عينيّ تلتصقان التصاقا بشاشة التلفاز، وهل كانتا غادرتاها دقيقة واحدة، لأني تعشيت هنا، مثل سائر المواطنات والمواطنين قبالة التلفاز..بلعت خلالها نشرة الأخبارالرسمية الركيكة،وحلقة من مسلسل بوليسي سمج، عنوانه»لابريكاد»، وقضمت تفاحة وأنا أستمع إلى قرار»سوريالي»لوزير داخلية دولة عربية يحذر بأن التظاهر يتعارض مع الشريعة الإسلامية..وللتو انتبهت أن كأسي الذي كان مترعا حتى الجمام، قد فرغ، فصببت فيه ما يخفف من هذه البلوى، وكل هذا وعيناي لم تبرحا شاشة التلفاز، يا أولي الألباب. 6 لاشك أن الطعام أثقل على معدتي، فصعد بخاره إلى رأسي، مع خيوط وتلونات أخرى جديرة بالليل، وإلا لكنت اهتديت إلى صوت الطلقات والانفجارات التي عادت تهز جنبات الصالون،وتقصف رأسي معها،مصدرها هذا الجهاز اللعين الذي عيناي عليه وإليه مصوبتان، منذ وقت، بل منذ أمد. وأنني أشاهد،كما أمس،وأول أمس،وقبل أسبوع، أسبوعين، وقت أطول وأزمن، كيف يطلق ضباط وجنود حاكم عربي، قائد، زعيم، مرشد، رئيس أكبر جمهورية في المعمور،وفوق هذا وذاك، ملك ملوك إفريقيا، ومؤلف كتاب يعتبره، وبتواضعه الجمّ، أنه مصنف لا يأتيه الباطل، بعد القرآن ونبيه، من بين يديه ولا من خلفه، وأنه هو، وبعد،أو إلى جوار المصطفى عليه السلام، وهذا دائما من تواضعه الجمّ،سيد المرسلين وخير الأنام؛ لذلك، وأخذا بالاعتبار لكل هذه المزايا والخصال، فضباطه وجنوده يطلقون وابل الرصاص والقذائف من الرشاشات والكلاشينكوفوات والأربيجيات ومدافع الهاون،برا وبحرا وجوا،على جماهيره التي من فرط حبها له،أصابها في غفلة من الدهر، وبعد أن تسرب إلى جوفها كثبان من رمال الهلوسة، انقلبت عليه تريد أن تأكله، كما كان عرب الجاهلية يأكلون آلهتهم اللات والعُزّى ومناة الثالثة، متناسين أنه ليس صنما، لكن إلها واحداً، أحداً!! 7 من جديد انتزعني الرنين الذي استأنف نشاطه من هلوسة إطلاق النار. هذه المرة، لا من سعار الطلقات،ولا من هياج العرب الذين يعود أصلهم،على ما تُجمع كتب التاريخ،إلى الجاهلية، وما قبلها،والأشجار، والطيور، والسحب، والصحون اللاقطة للأقمار الصناعية؛ أخذتني أخذا عن جسد من جسدي، يسبح في نهر من دمي، ام بحر دماء، مضطربا، متقلبا بين أعضاء وصدور، وبين نساء حُزت منهن الأثداء، أكباد مقروحة،أعناق مذبوحة من الوريد إلى وريدي، لكَمْ بحّ صوتي في حناجرهم بالنداء، وطوينا سنين وأعمارا هباءً في الهباء، والمتفضلات، المتفضلين علينا نحن الدهماء، بنعمة أنهم يسوسوننا وأمورنا، ويأتوننا نسلنا والأرزاق، وحتى، حتى ماذا؟ وإلى أن ننتعسّل في الآخرة بما يجري تحت الأنهار، وكل هذا يفعله المتفضلات المتفضلين علينا بحُكمنا، وأكلنا، وشربنا،، وحتى ما دون ذلك، وليس إلا ابتغاء مرضاة الله.. انتزعني الرنين الثقيل، إنما مؤقتا، أنا المهلوس العربي، شأن كل العرب؛ انتزعني من سباحتي في نهر الدماء. 8 هه، من أنت؟ واش كتعرف اشحال في الساعة هذه؟! آش ابغيتي؟ هه! مالك! ياك لاباس، ياك ما طار لك الفرخ؟! في سماء الصالون حلّق اليمام، ومن زوايا خفية صوّب القناصة بنادقهم فأردوه قتيلا، واحدا، واحدا؛ زرافاتٍ ووحداناً سقط اليمام، تكبّد الغمام، وتناثر من سقف بيتي الريشُ داميا. هذه ساعة وأنا كنضرب لك وأنت لاترد! معك حق، هذه ساعات، أيام، ليل، أعوام، دهور، وأنا أسمع الضرب في الخارج، في أحشائي ودماغي، وحتى في دمٍ حسبتُني وهو ينتحب، ينخب ويشخب، ويغضب مني لا من أجلي، وهو يلاحقني: زنقة، زنقة، من دار لدار .. ومن بعد؟ إسمعني، عندي ما هو أهم. تظن عندك أهم مما يمكن أن يبيدني،أهلي وجيراني، حبيبتي،»زنقة، زنقة، من دار لدار!!» نعم، عندي لك الأهمّ، خصّك تسمعني، تسمعنا! 9 سمعت كلمة « تسمعنا»، فقلت صاحبي هذا بلا شك مُنوّر»Illuminé»، أعرفه مفردا، وها هو يتحول جمعاً. نفخ بحماس من خطه:» لقد قرر» نا» أن» ننزل» إلى الساحة «بدورنا» وأن نقف وقفة..رجل واحد،سنصدر بياننا،وسترى فسيكون الأول والأخير،وأنت، بطبيعة الحال، مع»نا»، واحدٌ م»نا»، أفي الله شك؟! ومن بعد، ماذا عندك غير هذا؟ حتى هذه الساعة، جمعنا عشرين، ثلاثين، بل أربعين، ونريد أن نصل على الأقل إلى ست وستين توقيعا. التوقيع، على ماذا يا صاحبي تريد جمع هذا العدد من التواقيع، من أجل ماذا؟ على ماذا؟! من أجل ماذا؟! واش انت أعمى، أو مرفوع في السماء؟! ثم أضاف، وبالفصحى، لا فُض فوه: عهدي بك يا صاح(كذا).. فأجبته بوعي فصيح: كلي آذان يا صاح، وسأنبري لهم إذا صحصح الحق في ساحة الوغى. ما علينا، المهم نريد إسمك، وقِّع معنا، وبعد ذلك اذهب حيث تشاء، حتى لمولاي ابراهيم! نريد ختم اللائحة، وإرسالها في أقرب وقت إلى الصحافة، نريد الوصول إلى رقم 66. 10 رنّ المحمول: نريد توقيعك، نحتاج إلى الوصول إلى رقم 77، نحن جماعة اللاتوخ، أنسيتنا، نحن رفاق «ظهر المهراز»؟ 11 رن الهاتف كالمجنون: نريد الوصول إلى 99، ألا تعرفنا، نحن» رفقة السلاح والقمر»، أم نسيت عهد الرفاق؟! 12 رنّت الإشارة الموسيقية للإشهار. إشارة الطقس. إشارة موسيقى النشرة الأخيرة. هنا غنيت مع رأسي:»هذه ليلتي وحلم حياتي/ بين ماض من الزمان وآت/الهوى أنت كله والأماني/ فاملأ الكأس بالغرام وهات»،رأيتهم بعدها المتفضلات، المتفضلين علينا يقبلون في حلل زاهية، ومواكب ما أدراك ماهي، صورهم تملأ الشاشة، تقريبا ستملأها إلى ما لا نهاية، لولا،لولا أن اقتحمت وجوه، قامات، أطياف غامضة سماءَها، وهي تزيح تدفع أمامها وحولها لتأخذ الشاشة، وكأني بصوت مذيع بوجه غير مألوف، وصوت ساخن يعلن للجمهور ويكرر: «سيداتي، سادتي، بعد قليل نتلو عليكم بيانا هاما، سيداتي سادتي، بعد قليل، بعد ليل، بعد..»..