تقرأ ورقتي رواية «ملائكة السراب» من زاوية خاصة، وهي تجميع للأفكار التي قد تشكل المداخل التأملية التي ترسبت في ذهني وأنا أقرأ هذا النص السردي، ولا أعني في هذا المستوى قراءة الأبيسية سلوكات ومواقف ورؤى فعلية حياتية كما تتمظهر في حياة الناس ورؤاهم للعالم الخارجي الاجتماعي والنفسي، بل هي قراءة داخلية فنية جمالية لفكر الرواية وليس لفكر الكاتب موليم لعروسي وأطروحاته الفكرية الفلسفية والجمالية باعتبار أن الرواية تمتلك من الخصائص والعناصر الداخلية الخاصة التي تفكر بها في تمثيل الحياة وخلق دلالاتها، ومنها دلالات الأبيسية وتمثلاتها، وفكر الرواية هو موضوع هذه التأملات. ما مظاهر التفكيك في فكر الرواية؟ * المظهر الأول: تفكيك أبيسية الذاكرة السردية. الرواية كتاب سرد وتخييل وليست كتاب تاريخ وحقيقة، وهي أيضا فكر فني جمالي وليست فكرا تاريخيا أو موضوعيا، وهي اختيار جمالي سردي وليست منظورا خطابيا مباشرا حول قضايا التاريخ والهوية والإنسان. إنسان الرواية كائن تخييلي فني جمالي، وليس كائنا فيزيقيا عضويا تاريخيا، ومن ثم، فرواية «ملائكة السراب» لا تعبر عن إنسانية تاريخية وهوياتية مغربية مباشرة، بل هي رواية تعمق أسئلة جمالية بسرد الشك والتردد والمتاهة في مصير الإنسان ومتاهته الكبرى. ولعله أمام ضوضاء القراءة التاريخية والإيديولوجية والخارجية التي أخرجت الرواية إلى العمومية، والمشترك العام، والحس الطبيعي الانفعالي؛ تظهر إشارات واضحة في صيرورة تشكل الرواية تحذرنا من التأويل الذهني الخارجي، ومن النقد العام، ومن القراءة الكلية التي لا تلتفت إلى عناصر التشكل النصي الصغرى والدقيقة والخبيئة أسفل قشرة السرد وتحت جلدها، لأن هذا النقد العام يعتبر هذه العناصر ببساطة مكملات للوظيفة العامة للأثر الواقعي للنص، لذا يرتاح حين يرى في الرواية تاريخا مغربيا وشخصيات مغربية وأجواء مغربية وعناصر طبيعية وثقافية مغربية، ولا تثيره صيرورة التشكل الجمالي وتمثلاته الفنية. يبدو هذا النوع من التلقي المطمئن والجاهز أنه مُكْتَفٍ بالاستمتاع بوجود المعنى العام كما لو أنه انبثق بضربة سحرية فجائية. تقول الرواية في هذا التحذير: «اختلى الحاخام الأكبر بالفقيه والذي كان يدعى، حسب مصادر غير موثوقة لكنني لا أتوفر على غيرها،..... وقال والله أعلم... الصفحة.12 نشعر مع هذا المقتطف السردي أننا أمام مغامرة سرد تقف ضد اليقين والمعرفة الإسنادية الثابتة، والمرجع الفعلي الحقيقي التام والنهائي في التاريخ والجغرافية. وتقول أيضا: «كانت النسوة قد خرجن إلى الشوارع مبديات مفاتنهن ورافعات رؤوسهن نحو الرجلين السابحين في الفضاء، يقال، والعهدة على من قالها، إن الممارسات الجنسية عند المراكشيين تغيرت وتبدلت منذ ذاك الزمان». الصفحة 14. السرد لا يسير بوثوقية، إنه يشك ويتردد، ويحاول أن يقدم الحياة لا الحقيقة، والشك لا اليقين، والحس لا الفكرة. يتأسس التفكيك في مستوى أول من منطلق اعتبار الرواية نوعا أدبيا مُهَجَّنا في كل عناصره الفنية والفكرية، والذي قد يذهب به التهجين إلى حدود «الحرية الفنية التامة» التي يقوم عليها من خلال لا نهائية المسارات الفنية الداخلية، وتوسع التشعبات في خطوط السرد، وتعدد أصوات السراد ولغاتهم ورؤاهم، مما قد يخصص العلاقة بين القارئ وبين إدراك الأثر الفني والجمالي والفكري في كليته، لأن قارئ الرواية هو أيضا يخضع لمنطق السرد المتنوع ومساراته وتشعباته وتعدديته في إطار تعاقد قرائي يتحقق فيه الأثر الفني والفكري من خلال التعدد والتنوع والتشعب. كما يتأسس هذا التفكيك في مستوى ثان من منطلق أن الرواية فن الألفة والبحث الشاسع عن الملامح الإنسانية في كلية كبرى وفي خطابات جمالية واسعة، قد يكون منها التاريخ والفلسفة والجسد والعلاقات الإنسانية أبوة وبنوة وزواجا وحبا وعداوة ورغبات وأحلاما وتطلعات وهزائم، وغيرها من مستويات الحياة. فإذا كانت القصة عموما تشخص الوعي الحاد بوحشة الإنسان ووحدته وضآلته، فإن الرواية تجسد الوعي الكلي بالألفة والمغامرة وامتداد إنسانية الإنسان في مسارات لا متناهية. في القصة لاشيء يمكن فعله؛ إذ ننظر إلى العالم باستخفاف وكأن كل شيء تم وانتهى. وفي الرواية أمامنا الكثير لتفكيكه وتوسيعه لأنها ترتبط بفكرة المجتمع المتحضر، المجتمع الذي أدرك العالم وسعى إلى تشكيل وعيه تجاهه، وترتبط أيضا بالذات المتشظية أفقيا وعموديا، وفي اتجاه الماضي والحاضر والمستقبل. ذات كينونية وليست ذات وجودية لحظية. القصة ترتهن بفكرة الفرد الذي يحاول ولا يصل إلى أي شيء، وفي الرواية أشياء كثيرة لابد من فعلها وأهمها تفكيك الألفة والظاهر والعام، مع الرواية ننظر إلى العالم باعتباره إمكان فعل وتحليل وتفكيك ودخول للمغارات العامة. في «ملائكة السراب» يمكننا أن نصغي دون أن نتوقف عن النظر إلى أصداء إيقاعات سارية في الثقافة، وفي الوعي، وهي تصدر عن طرائق السرد والتعامل مع وحدات الزمن، وأساليب الاحتفالات والشعائر الدينية وفضاءات الصحراء والتواءات الهضاب وتلوينات الجبال، وإعداد جلسات الحوار، وغيرها من الإيقاعات الثقافية المرتبطة بممارسة الحياة اليومية. فإذا كانت روايات ياسوناري كاواباتا الياباني تثير فكرة خصوصية الإيقاع الثقافي، وخاصة صوت الجبل، وريف الثلوج، وخصوصا حين يتحكم في السرد وزمنه، كأنه يحول الرواية إلى كلمات أغنية تتردد وفق مقام ذي مسافات صوتية، تشارك في عزفه آلات مختلفة باختلاف الجغرافيات، فإن الإيقاع الثقافي في «ملائكة السراب» لا يشمل الأصوات فقط بل يشمل عناصر بصرية وفكرية متعددة تتمثل في طبيعة التعامل مع الضوء والظل، ومع المنظور الذي يختلف من منطقة إلى أخرى، من شمال إلى وسط وجنوب، ومع أسئلة الوجود التي يطرحها النسق الثقافي شفاهيا عن طريق المحكيات أو كتابيا عن طريق الوثائق المضمنة. من يعتقد أن مصدر اختلاف الجمالية السردية منبعه اختلاف الأعراق والألوان أو قياسات الجمجمة أو خريطة الجينات عند المغاربة ليس مدركا لعمق الاختلاف. الاختلاف في التكوين الثقافي وتشكلاته أولا وقبل كل شيء، وهو نتاج بيئة وتاريخ ومستوى تطور ولا أكثر من ذلك. الرواية تخلق إيقاعها ومادتها وموضوعها ولا تكتفي بما هو موجد أو قائم. الرواية ابتكار بما هي اعتماد على مواد قائمة، وبناء مستمر لعالم متغير متحول. * المظهر الثاني: تفكيك أبيسية الجمالية العمودية لعل غياب التمهيد السردي كما هو الشأن في الروايات التاريخية، يعطي لرواية «ملائكة السراب» فرادتها الجمالية، لأن جملة السرد الأولى تضعنا مباشرة في خضم تحولات مسارات السرد. نقط الحذف من جهة، وفاء الاستئناف من جهة ثانية تجعلنا ندرك أن الرواية سرد حدثي مباشر دون مقدمات أو تأطيرات، وكأن الرواية تبتعد شيئا فشيئا عن تقاليد الكتابة الروائية التاريخية المعهودة التي تولي لتأطيرات الزمان والمكان والفاعلين أهمية قصوى لتثبيت السرد. روايتنا تريد أن تجعلنا في مسايرة موازية للسرد، كل شيء يتشكل أمامنا دون مؤطرات أو توجيهات ليتلاشي الفصل الواحد مسلما الحبكة الكلية لأجواء ومناخات جديدة، وتلاشيه يؤدي إلى دخول الفصل التالي بمسار سردي آخر، مما يمثل النظرة السردية القلقة والمرتابة والمتوترة، وكأنه لا استقرار، كل شيء يسير إلى تحول ما. تقول الرواية: «... فنبش بأُصبع يده اليسرى والتقطك حصاتين. أخذ يلعب بهما رافعا إياهما نحو الأعلى وهو يردد «ماطلعت هاذي وما نزلت هاذي حتى يفتح الله البيبان، فاينك ياصديقي يارحال البودالي؟». وبينما الحرس يتضاحكون في بلادة واضحة، انشق سقف القبة وهوى رحال البودالي وأخذ سيدي أحمد العروسي من حزام سرواله وطار به في الأعالي» الصفحة 5 «حلقا فوق مدينة مراكش. حدث هرج ومرج في المدينة الحمراء. حرصت النساء على الخروج لرؤية هذين الوليين الصالحين. دعا أمير المدينة العلماء للحسم في الأمر. هل يمكن للنسوة أن يخرجن سافرات للتملي بطلعة هذين الخارجين عن الملة؟ اختلف العلماء؛ فمن قائل بولاية الرجلين وإذن بجواز خروج النسوة، ومن جازم أنهما مشعوذان مفسدان للأمة والدين، وأذن بواجب محاربتهما وضبط الحريم داخل البيوتات. كل هذا والرجلان سابحان في الفضاء ولا أحد يدري مقصدهما» الصفحة نفسها. لا تكتفي «ملائكة السراب» بالتخلي عن التمهيد السردي المعهود أو الانزياح عن البداية الكلاسيكية وبدء النص من نقطة ما داخلية ومصيرية في الحبكة العامة الخاصة بالرواية كلها، وفي الحبكة الصغرى الداخلية للفصل، بل تنزاح أيضا عن البداية المعيارية للجملة السردية لتشير بقوة إلى الحد الاعتباطي الفاصل بين المحكي وما قبل المحكي في ذاكرة السارد ومنظوره، مما يدعم الإحالات المتبادلة بين الرواية والمحكي الحُلُمي الذي يتم إدراكه غالبا في لحظة سيرانه، فتكون نقطة الانطلاق ما تنقله لغة السرد وليس ما رأته العين بدءا. إننا أمام لغة ولسنا أمام تاريخ أو صور أومشاهد تاريخية. لغة سرد وتخييل، وليست لغة وقائع مصورة. هل نحن جميعا في حلم؟ هل الرواية حلمية وليست تاريخية؟ هل الرواية التاريخية حلم فقط، وليست محكيا لحقائق ووقائع ومسارات؟ هل يأكل الحلم التاريخ، وضمنه يأكل السرد التاريخ ويمضغه ويغربله ويصفيه ويخرجه أجزاء صغيرة غير معروفة، ليس ما دخل إلى مصفاة السرد كما خرج. يتبلور هذا الأمر من منظور السارد، وهو السارد الذي نتعرف عليه فقط في آخر الرواية التي تقول: «كان إبراهيم يحكي لابنه رواية العروسي والبودالي، وهما جالسان على مرتفع من مرتفعات الجبيلات غير بعيد عن سيدي بوعثمان، حيث تجري معركة طاحنة بين جيش الفرنسيين ، ومحاربين جاؤوا من الصحراء بقيادة ماء العينين لمنع النصارى من التقدم نحو مدينة مراكش». وبمكن توسيع إدراك هذا المنظور من خلال مستويين يتجاوران ويتقابلان وقد يتضادان في لحظات حاسمة من خلال لغة التردد والشك واللا يقين العابرة للعمل الروائي بأكمله، وهما مستوى الرؤية البصرية، ومستوى الانفعال والمكبوت والمسكوت عنه. هذين المستويببن ينعكسان على سطح لغة السرد وعلى مسار نمو الحبكة السردية، ففي المستوى الأول تكون اللغة موضوعية وقائعية مباشرة تسرد وتصف، ومعجمها وصفي حوامله الحواس (العين أو الأذن)، وفي المستوى الثاني تكون اللغة تحليلية استدلالية حوارية تصوغ وجهات نظر المتكلمين ودرجات تفاعلهم مع الوقائع. * المظهر الثالث: تفكيك أبيسية اللغة وتدوين الأنوثة تطرح «ملائكة السراب» تحولا واضحا في اللغة الروائية وفي بلاغة الحكي، وأهم ملمح في هذا التحول هجنة اللغة والتعايش اللغوي وتناحره في أكثر من موقع سردي. تقول الرواية: «اشمع مولاي، إن الأمر خطير، لا يمكن أن أتغيب، يجب أن أقيم القداش لأن يهودا جاؤوا من الأندلش مطرودين من طرف الإشبنيول المشيحيين وهم يعتبرون نجاتهم كنجاة أجدادنا من بطش فرعون... لأنهم وحشب جهلهم يعتبرون أنه يوم بعث المشيح». ص. 16 إذا كان البعض يعتبر مفهوم الأمة قائما على أساس موضوعي، في آخر المطاف وقبل كل شيء، هو عنصر اللغة، وكان التاريخ قد أوكل شأن تدبير مراحله ومتونه وأسانيده إلى الصفوة الذكورية، وظلت الذاكرة الذكورية تعبر عن الخارج وعن العلن وعن التواصل العام، في مقابل إقصاء الذاكرة الأنثوية لأنها تعبر عن الداخل، وعن السر، فإن رواية «ملائكة السراب» تطرح وجها جديدا للغة أخرى صاعدة، هي لغة الهوامش، والجسد، والأنثى، والعميان والشواذ، والمجانين والمتسولون، والطبقات الدونية على حد تعبير باختين. لغات مظلومة ومقهورة ماديا. لغات وجدت خلفيتها الجمالية انطلاقا من بروز صوت الأنثى وجسدها وعناصر حيويتها وديناميتها، ومن خلال بروز ثقافة الهامش والتعدد والتنوع والاختلاف، ثقافة جامع الفنا، والفن الساخر، وإلى جانبها لغة صوفية مقهورة روحيا. إن لغات القهر المادي والروحي تتداخل لتعلن نهاية سطوة لغة الأبيسية وامتداداتها المتنوعة في محراب السلطة، ومع هذه النهاية ينشأ التنوع والتعدد والاختلاف في خلفية السرد وعناصره. ومادامت المرأة الذاكرة السرية قد خرجت للعلن منذ بداية الرواية وحدث بخروجها تحول مفصلي في اللعبة السردية، فإن الذاكرة العامة التاريخية وحبكاتها الذكورية المتسلطة لم تعد قادرة على التحكم في المصائر، لأنه صارت تقابلها ذاكرة جديدة صاعدة كانت تعتبر ذاكرة بيتية، جوانية، جسدية، حسية احتفالية هامشية، وليست ذاكرة خارجية برانية عقلية سلطوية. تقول الرواية: «لا بأش إذن ليش هناك اختلاط». 17 كما تقول: هكذا عندما كان أحمد العروسي والبودالي أو أحدهما عند ضفة وادي أم الربيع غير بعيد عن أبي الأعوان، وصادف عند عين فتيات جميلات يحملن جرار ماء، طلب منهن بعضه للوضوء. فما كان من الفتيات إلا أن اشترطن عليه الرقص على إيقاع غنائهن الخلاب. فصار يرقص ويردد معهن ما يقلنه. ويُحكى أن صوتَهُ وهزاتِ كتفه إضافة إلى أشياءَ أخرى غير معلومة أو سكتت عنها الحكاية لسبب ما، جعلته يتحول إلى طائر وهن إلى حمامات فطاروا جميعا ليستقروا فوق الجبل الأخضر، حيث كان اختار خلوته. 21 وتقول أيضا: «مدينة مراكش خالية الآن من كل سلطة إلا سلطة الحب والرغبة والشهوات. انغمس الناس في إشباع غرائزهم بينما احتمت السلطة بالظلام والصمت. خفتت أصوات المؤذنين والوعاظ وتعالت دقات الطبول وأنات المزامير، حتى أن هناك من شبه هذه الليلة بليالي قوم لوط قبلا أن ينزل عليه الغضب. فبينما كان عربيدو جامع الفنا يرددون كلام امرئ القيس عند سماعه مقتل أبيه: «اليوم خمر وغدا أمر»، كان الملك وحاجبه وعبد الله وجنده والحاخام والوعاظ والأئمة قد دخلوا في ليل لم يكونوا يعرفون طبيعة نهايته. 30 إذا كان الخطاب الأبيسي يستند على حامل اللغة ليسوِّق محموله الذكوري، فإن تفكيك السلطة الأبيسية يأتي من خلخلة هذه اللغة التي شكلت الأرضية الرمزية للدائرة الأبوية عبر وسائط التعالق الشفوي الأنثوي والكتابي الذكوري، وعبر الداخلي الأنثوي والخارجي الذكوري، وعبر الحس الأنثوي والعقل الذكوري. وإذا كان النزوع الانشقاقي عن النسق الفحولي الذكوري معركة خاضتها الرواية لكسر الأنساق المتوارثة، فإن تمثيل اللاوعي الثقافي تجسد باستعادة الأنثوي الشفاهي اللاعقلاني ضد الكتابي الفحولي الوهمي الاستبدادي. خاتمة ضالة: نحتاج إلى فكر كتابة مفتوح ونقدي لكي نتمكن من تقليب العديد من طبقات إنسانيتنا التي ترسبت في التاريخ وفي النفس وفي اللغة. لم يتأسس تاريخنا على محبي الأشجار والزهور بل تأسس على سفك الدماء واجتثاث الإنسان، وقد يأتي الشجر والزهر ولكن لتوطين السلطة وضمان سيرها بخيلاء على هوامش أحلامنا. هل يمكن أن نقدر نوعية المعرفة التي تفد إلينا في النص الأدبي والفني، وهي المعرفة الخاصة والغامضة في التجربة الإنسانية بأوهامها، وبالتباساتها وبمفارقاتها؟ إن الحياة الطبيعية فضاء كسول ورتيب وسطحي، وربما الحياة الفنية فضاء مجتهد ومتغير وعميق، يتطلب امتلاك عدة خبيرة من الأدوات لإدراك العناصر الخفية والمضمرة تحت قشرة الطبيعة البشرية التي تقلص البشر داخل علبة اللغة العمومية جالسين بدون إيجار ولا وأمل. وإن المتتبع لمسار الرواية بالمغرب وتحولاتها الفنية والفكرية، وهي تبدع أشكالها الخاصة وترسخ خصوصيتها الفنية والثقافية، لا بد أن تستوقفه «ملائكة السراب»، وذلك لعدة أسباب: - تعكس «ملائكة السراب» تحولا جماليا وفكريا في مقاربة السرد الفني الروائي لموضوعات الأبيسية والسلطة والتاريخ والجنس والزمان والفضاء وثنائية الحياة والموت. تحولات دفعت السرد إلى إحداث انزياح عن المقاربة الخارجية البرانية للذات وللمجتمع وللتاريخ وللسلطة، ومنها المقاربة الهوياتية المغلقة التي ربطت المصير بالتراث وبالماضي، والمقاربات الموضوعية التبسيطية لسوسيولوجيا الذات والمجتمع وسيكولوجيتها وأنتروبولوجيتها التي أوفت المفاهيم حقها وأغفلت التربة الثقافية المحلية لهذه الذات وحواملها ومحمولاتها الخاصة. - تقترح الرواية مقاربة فنية جمالية وفكرية تفتح المجال لنوع آخر من إدراك الذات والتاريخ والهوية والجسد يتواشج فيها البحث الجمالي والوظيفي عن لغات جديدة ومنظورات مختلفة مع الحفر النفسي والفكري عميقا في الرمزية الثقافية وإيحاءتها المتنوعة جماعيا وفرديا للذات المغربية، وهي الذات التي ظلت في بعض السرود سليبة الحرية في تعبيراتها الخاصة ومجازاتها العميقة، ذات عبرت عنها المفاهيم العامة التاريخية أو المفاهيم التجريدية، وأُقصيت منها حركتها التاريخية والفنية والفكرية المفتوحة. أتصور «ملائكة السراب» علامة أساسية في تطور الكتابة الروائية بالمغرب، ونهرا ساريا في جسم العلاقات المتشابكة بين الفكر أعماقا رمزية، والفن معمارا تشكيليا بصريا، والأدب تخييلا ذاتيا. رواية لا تغلق التاريخ وتكوره وتنهبه لصالح ذاكرة ما أو جماعة ما أو لغة ما. رواية تزيد من وحشتنا واغترابنا أمام التاريخ والذاكرة والمستقبل. رواية تقول ما يضاد المسكوك الذي يدعي أن من لا تاريخ له لا مستقبل له؛ إذ تقول ما التاريخ؟ ما اللغة؟ ما السلطة؟ ما الفرد وما الجماعة؟ رواية قلق وشك بلا قرار ولا أمان، هي صحراء متاهة، وتاريخ متاهة، ومستقبل متاهة، ومعنى يبحث عن معنى.